سعيد أكدال أصبحت الظاهرة الحضرية تفرض نفسها اليوم بالمغرب، سواء من حيث الحجم الديموغرافي لسكان المدن أو من حيث عدد التجمعات الحضرية. غير أن أهمية الظاهرة الحضرية لا تعني بتاتا أن المغرب حديث التمدين، بل يصنف ضمن البلدان قديمة التحضر. فإذا كان الفينيقيون والقرطاجيون والرومان قد ساهموا في حركة التمدين بالمغرب، فإن السكان الأصليين للمغرب كان لهم الفضل في الدفع بالتطور الحضري. وإذا كانت للفتح الإسلامي انعكاسات إيجابية على تطور المدن، فإن الدول التي تعاقبت على حكم المغرب انتقلت بالظاهرة الحضرية إلى مستويات أرقى، وجعلت البلاد تتوفر في ما مضى على حواضر عالمية كبرى ذات إشعاع واسع. وسيتم التطرق إلى الظاهرة الحضرية ما قبل الفتح الإسلامي، انطلاقا من الحديث عن مختلف المساهمات التي كان لها تأثير واضح في حركة التمدين. وفي مرحلة ثانية سيعرض الكتاب للبدايات الأولى للتمدين الإسلامي بالمغرب. ثم سيقف عند تلك المساهمات البارزة للدولتين الموحدية والمرابطية، وفي الأخير سيتطرق إلى مرحلة التعثر الحضري الذي أصاب حركة التمدين وأدخل المدن المغربية في مرحلة سبات عميق. حتى لو اعتبرنا أن المناطق الجنوبية من المغرب كانت عند بداية الفتح الإسلامي مناطق موحشة وبدائية، فإننا لا يمكن أن نتصور عدم تأثرها بحضارة الشعوب التي كانت لها علاقة بالمغرب. ونعني على وجه الخصوص شعوب البحر الأبيض المتوسط (الفينيقيون والقرطاجيون والرومان)، الذين أقاموا مراكز ومستوطنات تجارية على طول السواحل المغربية. وهذا ما يقودنا إلى القول إن استقرار التجار الفينيقيين والقرطاجيين والرومان بهذه السواحل، قد يكون نتجت عنه تأثيرات في عادات وتقاليد وطرق عيش السكان المحليين. وبالتالي قد يكون نتجت عنه إقامة مراكز حضرية، كما هو الشأن بالنسبة لمدينة تارودانت التي عرفت في الكتابات القديمة باسم «Vala»، وهو اسم يدل على أنها كانت على علاقة مع شعوب البحر الأبيض المتوسط، وقد تم تشييدها من طرف الأفارقة القدماء، حسب ما ذهب إليه أبو الحسن الوزان في كتاب «وصف أفريقيا». ومما يدعم هذا الافتراض ويجعله قريبا إلى الواقع هو الوصف الذي أورده ابن عذارى المراكشي عن فتح المغرب على يد عقبة بن نافع، بالرغم من بعض التشكيك في شأن مسار فتوحات هذا القائد العربي، والقول بعدم وصوله إلى المناطق الجنوبية بالمغرب. ويقول ابن عذارى المراكشي في كتابه «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب»، رواية عمن سبقه، إن عقبة بن نافع «نزل من درعة، إلى بلاد صنهاجة، ثم إلى بلاد هسكورة، ثم نزل أغمات وريكة، ثم نزل منها على وادي نفيس، وقام عقبة من وادي نفيس، وسار حتى نزل إيجلي بالسوس، وبنى فيه مسجدا (...) ثم رجع عقبة قافلا إلى المغرب الأوسط، وسلك على «إيغير أن يطوف» ثم إلى تارنا ثم إلى موضع شاكر، وترك به صاحبه شاكر، فسمي باسمه. ثم رحل منه إلى بلاد دكالة (...) ثم رجع من دكالة إلى بلاد هسكورة إلى موضع يقال له إطار (...)» (ابن عذارى المراكشي، 1983، ص27). وبعد هذه الملاحظات الدقيقة التي ارتأينا الوقوف عندها من باب الإنصاف التاريخي، وأيضا من أجل توسيع آفاق النقاش وتفادي التحليل أحادي الجانب، الذي يدفع إلى إصدار الأحكام القطعية غير الموضوعية، فإننا نقول إنه من خلال التوفيق بين التوجه الأول الذي يفترض بأن الجنوب المغربي لم يشهد تمدينا قبل الفتح الإسلامي وكان عبارة عن مجال جغرافي تسوده الغابات والقفار الموحشة، ثم التوجه الثاني الذي يؤكد أن هذه المنطقة من المغرب شهدت تمدينا قديما جدا لا يمكن، البتة، تجاهله أو إخفاء حقيقته، نخلص إلى أن العقود الأولى للفتح الإسلامي لم تتوفر أثناءها كل الظروف المواتية لإقامة المدن، خاصة جنوب المغرب، مما جعله يظل نوعا ما مغيبا، ولم يكن ذا حظوة لدى أوائل المؤرخين المسلمين؛ وإن نال قسطا من الاهتمام، فإن ذلك لم يتحقق إلا بفضل أخبار متناقلة غالبا ما انبثقت عن روايات يخيم عليها طابع الأسطورة أكثر من اليقين. ولعل أن هذا الغياب في أولى المصنفات التاريخية الإسلامية هو الذي شجع على اعتبار الجنوب المغربي غير متمدن. ومما شجع أكثر على ذلك، هو عدم إقبال الفاتحين على تشييد المدن. بديات التمدن يسود الظن بأن حركة التمدين الإسلامي لم تبتدئ إلا بعد منتصف القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، كما كان الشأن بالنسبة لمعظم مدن المغرب، التي بنيت أو عمرت ابتداء من هذا التاريخ مثل كورتوالأقلام والبصرة وقصر كتامة وتشمس ويجاجين وغيرها (أحمد قدوري، 1995، ص 13). وفي معرض حديث إبراهيم حركات عن مدينة «غساسة» الواقعة آثارها غرب مدينة مليلية، يخبرنا بأنها تعتبر من أقدم المدن الإسلامية ولا يعرف بانيها بالضبط، وقد تكون بنيت في عهد الأمويين حيث كان ميناؤها على شاطئ البحر المتوسط (إبراهيم حركات، 1993، ج 1، ص 92). إن الفاتحين المسلمين الأوائل اكتفوا إذن بالاستقرار في المدن التي كانت موجودة قبلهم والاختلاط بساكنتها. فهدفهم كان هو تركيز وجودهم بالمغرب، واستتباب الأمن وتوفير سبل الاستقرار والهدنة والتفكير بالدرجة الأولى في نشر الإسلام في أكبر رقعة جغرافية ممكنة، وكذلك البحث عن أنجع الطرق لإقناع السكان البربر بأن الغاية من فتح بلاد المغرب لم تكن هي استغلال ثرواته ونهب خيراته، بقدر ما كان المبتغى هو نشر الإسلام والتعامل في إطار مسالم مع الشعوب التي يصادفونها. وإذا عدنا إلى ما سجله التاريخ خلال عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسنجد أن هذا الخليفة لم يكن يفكر في أكثر من إقرار الإسلام في الربوع التي يحل بها الفاتحون العرب. أما فكرة التسلط لمجرد التوسع، فلم تكن تدور بخلد قادة العرب (إبراهيم حركات، 1993، ص 73). غير أن مهمة الفاتحين المسلمين لم تكن بالسهلة، فبالرغم من أن المدة التي تطلبها فتح المغرب كانت قصيرة، فإن إخضاع البلاد برمتها لم يتحقق إلا بمعاناة ذهب ضحيتها العديد من قادة الجيوش المسلمة، وعلى رأسهم عقبة بن نافع، الذي لم يكتب له إتمام فتح بلاد المغرب بأكمله. ولم يقم موسى بن نصير، الذي اختير للاستمرار في الفتوحات الإسلامية، بتشييد مدينة جديدة يجعلها قاعدة لحكمه، وإنما جعل من مدينة طنجة مقرا له. فموسى بن نصير هو الآخر كان يوجه جهوده نحو دفع السكان البربر إلى اعتناق الإسلام واستئصال أصول الديانتين المسيحية واليهودية. ولم تكن الأوضاع قد استقرت بالشكل الذي يتأتى معه تخطيط المدن الجديدة وتعميرها، خصوصا إذا علمنا أن السنوات الأولى للفتح الإسلامي قد تميزت باندلاع العديد من الحركات الاحتجاجية للبربر الذين انتفضوا في بعض الأقاليم تعبيرا عن رفضهم لطريقة تعامل العمال المسلمين معهم (BRIGNON.J, 1967, p 54). ويذكر لنا إبراهيم حركات أن موسى بن نصير كان مغرما بالغنائم والسبي، مما أحنق البربر الذين ظلوا يتحينون الفرص للثورة (إبراهيم حركات، 1993، ص 80). وقد ابتدأت الاحتجاجات في منطقة طنجة التي رد سكانها بقيادة مسيرة المطغري على السياسة المجحفة لحاكم طنجة عمر المرادي، حيث أعلنوا عن ثورتهم ضده سنة 522ه/741م لإبعاد الإدارة العربية من المنطقة (أحمد قدوري، 1995، صفحة 53). وقد كانت تلك الاحتجاجات أول ثورة في الإسلام (ابن عذاري المراكشي، ص 52) ومؤشرا على بداية حركات الخوارج بالمغرب، الذين كانت لهم مساهمات لا تنكر في حركة التمدين بالمغرب بعد الفتح الإسلامي.