يسود فهم غير دقيق وسط كثير من السياسيين والمتابعين مفاده أن الديمقراطية هي إجراء الانتخابات لملء المؤسسات الشاغرة بعد الثورات، وأن عملية التحول الديمقراطي هي إجراء هذه الانتخابات في أقرب فرصة وعدم إطالة المراحل الانتقالية. يردد مثقفون عرب مقولات ترى أن الديمقراطية قد فشلت عند العرب، بل راح البعض يرى أن الديمقراطية هي سبب مشكلات مصر والعراق وليبيا، وأنها هي التي أنتجت سياسات بوش والحكومات الإسرائيلية والأحزاب اليمينية في أوربا. يتجاهل هؤلاء طبيعة الإرث الاستبدادي للأنظمة البائدة، ولا يدركون الأركان المتعددة للديمقراطية، ولا طبيعة المراحل الانتقالية في أعقاب الثورات، ويتحدثون وكأن ما هو قائم بالعراق ديمقراطية حقيقية، أو كأن مصر وليبيا واليمن انتهت من بناء ديمقراطياتها، أو كأن سياسات بوش والإسرائيليين والأحزاب اليمينية العنصرية هي نتاج الديمقراطية كنظام للحكم بدلا من النظر إلى الصورة الأكبر وصراع القوة القائم بين قوى ومصالح غربية مؤثرة وعالم عربي متفرق وضعيف. سأعرض في هذه المقالة لمغالطات ثلاث تتصل بالعلاقة بين الانتخابات والديمقراطية والثورات، على أن أرجئ الحديث عن مغالطات أخرى إلى مقال قادم. الديمقراطية والانتخابات تتمثل المغالطة الأولى في أن الديمقراطية هي إجراء الانتخابات. ويقتضي الأمر هنا الحديث عما يلي: أولا: لا تعني الديمقراطية مجرد إجراء الانتخابات واختيار حكام جدد يمثلون الجماهير في المؤسسات الرسمية للدولة، فالانتخابات ركن واحد من أركان البناء الديمقراطي التي تتضمن أيضا: الأطر الدستورية والقانونية لدولة القانون والمؤسسات المتمايزة، ومبدأ المواطنة وحماية الأقليات وضمانات ذلك، والقضاء المستقل تماما عن السلطة التنفيذية وتقوية أجهزة الرقابة والمساءلة، وضمانات مبدإ سيادة الشعب وعدم وجود إرادة أعلى من إرادة المؤسسات المنتخبة، سواء من مؤسسة عسكرية أو أمنية أو قضائية أو هيئات أو جماعات دينية أو قبلية، وحماية الحريات والحقوق، وتمكين كل الفئات من المشاركة السياسية بكافة صورها وتقوية الأحزاب والمجتمع المدني ومهنية الإعلام، وابتعاد المؤسسات العسكرية والأمنية عن الشأن السياسي. ومعظم الدول الديمقراطية المعاصرة هي دول ديمقراطية تمثيلية يختار الناخبون فيها حكامهم عبر انتخابات ديمقراطية، فعّالة وحرة ونزيهة، لكن مع تقييد سلطة هؤلاء الحكام بالدستور والقانون وبمجموعة من المؤسسات والكوابح المتبادلة، وبما يحقق في النهاية هدف أي نظام ديمقراطي حقيقي: صيانة الحريات والحقوق والحد من استبداد الحكام ووضع آليات لمراقبتهم ومحاسبتهم. وبالطبع، الديمقراطية ليست النظام الأمثل، لأنه لا يوجد نظام سياسي أمثل في الأساس. غير أنها تمثل أفضل ما وصل إليه العقل البشري في ما يتصل بتنظيم السلطة، وهي تعاني من مشكلات عدة، كدور المال السياسي ونفوذ رجال الأعمال والشركات الكبرى. ولهذا تخضع الديمقراطية لعملية تطوير مستمر، وتتبنى الكثير من الديمقراطيات بعض ملامح الديمقراطيات المباشرة والتشاركية بهدف تمكين الجماهير وتجنب عيوب الديمقراطية التمثيلية؛ ثانيا: ويترتب عما سبق أن عملية بناء الدولة الديمقراطية ليست مجرد إجراء الانتخابات، فالانتخابات تأتي في نهاية مرحلة البناء وليست الخطوة الأولى كما يعتقد البعض. وفي مرحلة البناء لا بد من الاهتمام بالحد الأدنى الضروري بكل ركن من أركان الديمقراطية المشار إليها سلفا، ولا يمكن القفز على ركن منها ظنا بعدم أهميته أو أن الوقت كفيل بمعالجته. كما لا بد من الاهتمام بترتيب الأولويات (التوافق على الحد الأدنى من الحريات -ولاسيما حرية التعبير والتنظيم والاجتماع- والأطر الدستورية والقانونية، وضمانات استقلال القضاء والمواطنة ومبدإ السيادة الشعبية والمشاركة، ثم التنافس الانتخابي)، أي لا يمكن وضع دستور مع إقصاء تيار بالكامل، ولا يمكن عقد انتخابات على أسس دستورية وقانونية مرتبكة أو مع وجود جيش أو قضاء مسيس، ولا يمكن تصور منافسة انتخابية حقيقية قبل التوافق على ضوابط العمل الحزبي والدعاية وتمويل الحملات، وهكذا؛ ثالثا: وتشير تجارب التحول الديمقراطي إلى أن الانتخابات لا بد أن يسبقها توافق القوى السياسية عبر الآليات المجربة تاريخيا (تكتل وطني عابر للانتماءات الإيديولوجية، ومؤتمر وطني جامع، ومائدة حوار وطنية حقيقية)، وليس من خلال انفراد مؤسسة أو فريق واحد، وليس عن طريق الأوزان النسبية الناتجة عن الذهاب المتسرع إلى الانتخابات، وذلك خلال فترة انتقالية تختلف مدتها من حالة إلى أخرى حسب القدرة على الوصول إلى توافق وطني حقيقي حول أسس الدولة الديمقراطية وقواعد التفاعلات السياسية وضمانات استقلال القضاء وفعالية أجهزة الرقابة، وعدم تسييس ما لا يجب أن يُسيس كالجيش والقضاء والإعلام. وأثبتت الحالات أنه من الصعوبة أن تسقط الشرعية الدستورية الناتجة عن مثل هذه الآليات أمام أي قوة قاهرة، أما الشرعيات التي تبنى على أسس متسرعة وبالمخالفة لسنن التغيير فتكون عُرضة لمخاطر جمة من الداخل والخارج. التحول الديمقراطي وتتمثل المغالطة الثانية في أن عملية التحول الديمقراطي تبدأ وتنتهي بإجراء الانتخابات. وهنا نشير إلى ما يلي: أولا: لا بد أن نفهم ونميز بين عدد من المصطلحات/المراحل التي شهدتها الدول التي تحولت إلى الديمقراطية في العقود الأربعة الماضية؛ فهناك مفهوم الانتقال إلى الديمقراطية، الذي يشير إلى الحالة التي يتم من خلالها تحويل السلطة من يد الحكام المطلقين إلى حكومة ديمقراطية منتخبة، أي اجتياز المسافة الفاصلة بين أنظمة الحكم غير الديمقراطي وأنظمة الحكم الديمقراطي. وعادة ما يتحقق الانتقال بعد انهيار النظام القديم، وتوافق القوى السياسية على اختيار النظام الديمقراطي البديل بمؤسساته وإجراءاته وضماناته المتعارف عليها. في هذه الحالة، لا يتخلص النظام الديمقراطي الوليد من كل المشكلات التي كانت قائمة قبل الانتقال، كانخفاض الوعي السياسي وضعف الأحزاب ونفوذ المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية. كما لا يتم عادة وضع دساتير جديدة خلال هذه المرحلة التي قد تتطلب مجرد تعديل نص دستوري أو أكثر، أو الاتفاق على إطار دستوري مؤقت أو انتقالي، وذلك لصعوبة التوافق على كل أقسام الدستور، كما حدث في جنوب إفريقيا وبولندا والهند وغيرها. تلي ذلك عملية التحول الديمقراطي، وهي عملية ممتدة بمراحل متعددة تختلف أبعادها من دولة إلى أخرى، وقد تشتمل على عمليات مرتدة، وتنتهي (في حالة النجاح) إلى حالة جديدة هي ترسيخ قواعد النظام الديمقراطي، أي الحالة التي يمكن معها القول -بقدر من الثقة- إنه لا خطر على الديمقراطية من الجيش أو الأحزاب أو الجماهير أو الخارج. وتضم مؤشرات ترسيخ الديمقراطية (التي تنجز بعد سنوات من الانتقال الحقيقي) أمورا تختلف من حالة إلى أخرى، منها وجود دستور ديمقراطي حقيقي ومتفق عليه، ووجود إجماع معقول بين النخب والجماهير على الديمقراطية كمبدإ وليس كإجراء، وارتفاع وعي الجماهير وشيوع الثقافة الديمقراطية، ومشاركة واسعة للناخبين في الانتخابات، واقتناع القوى السياسية الرئيسية بأنه لا بديل عن الديمقراطية لتسوية الصراعات السياسية، وعدم وجود جهة تدّعي لنفسها حق الاعتراض على المؤسسات المنتخبة، وغير ذلك. وتختلف عملية التحول الديمقراطي وترسيخ الديمقراطية عن استقرار النظام؛ فقد يستقر النظام دون أن يتم ترسيخ الديمقراطية (روسيا وفنزويلا). وقد لا يقترن ترسيخ الديمقراطية بالاستقرار، فقد يقوم نظام ديمقراطي من نوع ما لكن مع استبعاد فئات معينة (جنوب إفريقيا تحت الحكم العنصري والكيان الإسرائيلي منذ نشأته)؛ ثانيا: نحن في مصر لم ننجز بعد المرحلة الأولى، فالسلطة لم تنتقل حقيقة من النخب القديمة إلى نخب جديدة، نظرا إلى أن أنصار الثورة وأصحاب المصلحة في الديمقراطية تفرقوا ولم يفهموا طبيعة الثورة ومخاطرها ولا أهمية تكتلهم خلال مرحلة التأسيس، ونظرا إلى قوة ونفوذ خصوم الثورة والديمقراطية في الداخل والخارج. وللأسف، فقد تصدرت المشهد السياسي شخصيات (سياسيون ومتابعون وباحثون) لا تعرف الحد الأدنى من أبجديات وسنن التحول الديمقراطي، ولا تمتلك الحد الأدنى من مهارات الممارسة السياسية لقادة التغيير والتحول الديمقراطي. الثورات والانتخابات أما المغالطة الثالثة فتتمثل في أن الثورات تتطلب التسرع في إجراء الانتخابات لملء المؤسسات الشاغرة. وهنا نؤكد على ما يلي: أولا: ظهر مصطلح حديث في أدبيات التحول الديمقراطي هو «الثورات الانتخابية»، وهو يشير إلى التسرع في إجراء الانتخابات على أسس دستورية وقانونية مرتبكة في الدول التي شهدت ثورات ملونة في مطلع الألفية الجديدة، فكانت النتيجة قيام الانتخابات بإجهاض الثورات والديمقراطية، لأن النخب القديمة -التي عملت في ظل النظم التسلطية- كانت هي المستفيد الأكبر واستطاعت العودة إلى صدارة المشهد بما تمتلكه من شبكة علاقات ونفوذ ومال وإعلام. ومشكلة هذه النخب في طرق تفكيرها وأولوياتها التي لا تتفق مع مطالب التغيير والثورات. ويمكن هنا المقارنة بين دول شرق أوربا، والدول التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفياتي كجورجيا وأوكرانيا وكزاخستان؛ ففي أوربا الشرقية قامت تحركات شعبية أدت إلى تغييرات في بنية السلطة وظهور ديمقراطيات حقيقية لعدة اعتبارات، أهمها التركيز على بناء الديمقراطية بكافة أركانها (حكم القانون، واستقلال القضاء، والتعددية السياسية، وفصل السلطات، وتقوية الأحزاب والمجتمع المدني،..)، بجانب وجود ممارسة ديمقراطية قديمة، ودعم خارجي قوي، ودور إيجابي لدول الجوار الديمقراطي. أما في أوكرانيا وجورجيا وكازاخستان، فقد كان التركيز على إجراء الانتخابات لحلول حكام جدد محل الحكام القدامى دون اهتمام قوي بتقوية حكم القانون ودولة المؤسسات والقضاء والأحزاب والمجتمع المدني، فكانت النتيجة أن عادت النخب القديمة وظلت الممارسات التسلطية. وحتى عندما وصلت نخب معارضة للسلطة لم تنجح نظرا إلى تنافسها وتربص القوى السياسية بعضها ببعض، ونظرا إلى قوة خصوم الديمقراطية وتوحدهم، وضعف مؤسسات الدولة وحكم القانون. وتقترب الحالة الروسية من هذا الوضع. ولا شك أن العامل الخارجي وعامل دول الجوار لعبا دورا سلبيا في هذه الحالات؛ ثانيا: تقترب الحالة المصرية -وربما حالات عربية أخرى- من حالة الثورات الانتخابية من حيث وجود ممانعة خارجية قوية، ومن حيث غياب أي ترتيب للأولويات، سواء خلال مرحلة المجلس العسكري (فبراير 2011 وحتى ما بعد انتخاب الرئيس المدني) أو خلال المرحلة التي تلت 30 يونيو 2013. ففي الحالتين، انفردت السلطة بوضع الأطر الدستورية والقانونية دون تشاور حقيقي ودون إدراك لأهمية وسنن البناء والتأسيس، واهتمت بالانتخابات لملء شواغر المؤسسات الشاغرة دون توفير الحد الأدنى من دولة القانون والقضاء المستقل. وتزداد الأمور صعوبة عندما تجرى انتخابات في ظل انقسام سياسي حاد كما حدث في الحالة بعد 3 يوليوز 2013، حيث تم تسييس الجيش، ورسم مسار سياسي جديد دون التيار الإسلامي والثوري، واعتماد الحل الأمني في التعامل مع المعارضين. وخلاصة القول أن على النخب والمثقفين والقوى السياسية فهم الديمقراطية بكافة أبعادها وفهم طبيعة عملية البناء ومساره وسننه قبل التسرع بالقول إن الديمقراطية فشلت عند العرب، وعليهم العمل من أجل الوصول إلى نظام ديمقراطي حقيقي بكافة أركانه ومبادئه ومؤسساته وضماناته، ثم الاجتهاد بعد هذا من أجل تحسين هذا النظام ومعالجة كافة المشكلات التي أفرزتها الديمقراطيات المعاصرة بالغرب. أما تحميل الديمقراطية نتائج الفشل في البناء وفي إدارة المراحل الانتقالية أو صراعات القوى الدولية أو التركيز على الانتخابات فقط، فلن يؤدي إلا إلى تأزيم الأوضاع والوصول بالبلاد إلى موجة ثورية جديدة. والله أعلم. عبد الفتاح ماضي