هناك الكثير من الغاز في الهواء بين الرباط ومدريد هذه الأيام. مباشرة بعد إعلان مصطفى المنصوري، رئيس البرلمان، عن رغبة حزبه في فتح ملف ضحايا الغازات الكيماوية الإسبانية في الريف المغربي خلال الاستعمار الإسباني، ردا على تحرشات النائب الإسباني التي هاجمت الحكومة المغربية والعائلة الملكية، أعلنت شركة «ريبسول» الإسبانية عن اكتشاف بئر من الغاز قبالة سواحل منطقة الغرب قدرت كمية الغاز الموجودة بالبئر بحوالي 33 مليار متر مكعب. وبين أطنان الغاز الكيماوي الذي أباد به الجيش الإسباني عشرات القرى الريفية عن آخرها، لإجبار الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي على الاستسلام، وبين ملايير الأمتار المكعبة من الغاز الطبيعي الذي تقول شركة «ريبسول» الإسبانية أنها اكتشفته في السواحل المغربية، هناك مصادفة غريبة تجعلنا نطرح أكثر من سؤال. كما لو أن هناك رغبة مبطنة في تجميل الغاز، وتحويله من أداة للقتل والدمار، إلى قشة خلاص للاقتصاد الوطني الذي يفتقر كليا مصادر الطاقة. يجب أولا أن نضع صعود مصطفى المنصوري رئيس البرلمان إلى الريف والتلويح بفزاعة ضحايا الغازات الكيماوية لإسبانيا في مكانه. وغير خاف على كل متتبع للأحداث أن الدولة قررت أن تشهر أحد أكثر الملفات إزعاجا للقصر الإسباني وحكومته. فملف الريفيين ضحايا الغازات الكيماوية الإسبانية، هو الوحيد في الوقت الراهن القادر على إحداث نوع من توازن الرعب بين الجارين الجنوبي والشمالي. والجميع أيضا يعرف أن كل الأحزاب المغربية سكتت عن مطالبة إسبانيا بالاعتذار للريفيين على قصفهم بالقنابل الكيماوية انتقاما من المقاومة الشرسة والبطولية التي أبداها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ومجاهديه أمام الجيش الإسباني. فبعد الهزيمة النكراء التي ألحقها الريفيون بالإسبان في معركة أنوال، والتي لازالت وزارة التعليم الإسبانية تدرسها في مقرراتها التعليمية إلى اليوم كأكبر هزيمة للجيش الإسباني في كل العصور، أعطى الجنرال فرانكو، وبمباركة من الملك ألفونسو، أوامره بقصف المدنيين العزل في قراهم وأسواقهم الريفية بأطنان من القنابل الكيماوية التي أمدته بها الحكومة النازية بألمانيا. والنتيجة كانت هي إبادة عشرات الآلاف من المغاربة المدنيين، وإصابة عشرات الآلاف الآخرين بعاهات مستديمة بسبب تلك الغازات الكيماوية المحظورة بموجب اتفاقية لاهاي لسنة 1899 و1907. بعد اللجوء إلى هذه الطريقة الجبانة ضد المدنيين الريفيين، اضطر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى الاستسلام ووضع السلاح، حتى لا تتم إبادة سكان الريف عن آخرهم بالغازات الكيماوية الألمانية الصنع. ثمانين سنة بعد هذه الحرب القذرة التي أباد فيها الجيش الإسباني قرى ريفية عن آخرها، اكتشفت وزارة الصحة أن أكبر نسبة للإصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية توجد في منطقة الريف. وهذا ليس مستغربا، مادام تأثير الغازات الكيماوية التي استعملها الجيش الإسباني ضد المدنيين يمتد إلى مئات السنين. والغريب في الأمر أن العالم بأسره يتحدث عن ضحايا غازات هتلر من اليهود، بينما الجميع يرفض الحديث عن ضحايا غازات هتلر من الريفيين المغاربة. فألمانيا النازية أيضا تتحمل المسؤولية في الإبادة الجماعية للريفيين. والخطأ ليس خطأ الآخرين، بل خطؤنا نحن الذين تقاعسنا عن تكريم هؤلاء الآلاف من الضحايا ولو بنصب تذكاري بسيط في ساحة عامة. وعندما نرى عدد المتاحف والنصب التذكارية والأفلام السينمائية والكتب التي خصصت للحديث عن ضحايا غرف الغاز التي أعدمت داخلها النازية آلاف اليهود، نخجل من أنفسنا لأننا لم نخصص للآلاف من ضحايانا الريفيين الذين أعدمهم الجيش الإسباني بالغاز النازي ولو برنامجا تلفزيونيا واحدا يعيد رسم ملامح الجريمة البشعة التي تعرضوا لها بدم بارد. وأكثر ما نستغرب له هو حماسة المغرب الزائدة لمشروع «ذاكرة المحرقة بباريس» الذي أطلقه سنة 2000 «ديفيد روتشيلد» المتخصص في تقديم الدعم الاجتماعي للناجين من المحرقة، والذي من بين أهداف مؤسسته تعميم المعطيات الخاصة بالمحرقة اليهودية في العالم العربي والإسلامي. كيف يتحمس المغرب لمثل هذه المشاريع التي تريد استعمال المحرقة اليهودية لابتزاز الشعوب العربية الإسلامية في هذه الظروف بالضبط، حيث تشعر إسرائيل بالخناق يشتد عليها دوليا بعد المحرقة التي ارتكبتها في غزة قبل أشهر. إذا كان هناك من محرقة يجب أن تظل حية في وجدان وذاكرة كل مسلم في هذا العالم العربي من النهر إلى البحر، فهي محرقة غزة التي استعمل فيها الجيش الإسرائيلي القنابل الفوسفورية لإحراق المدارس والملاجئ والمستشفيات أمام أنظار العالم. الفرق بين النازيين الألمان وبين حكومة إسرائيل أن الألمان عندما كانوا يطاردون اليهود في شوارع ألمانيا لم يكونوا يلبسون قمصانا عليها رسومات تجسد يهوديات حوامل مع شعار يقول «برصاصة واحدة يمكن أن تصيب هدفين». الإسرائيليون فعلوا ذلك، وقد نشرت الصحف صور أولئك الجنود المجرمين وهم يلبسون قمصانهم التي تحمل شعارات تشجع على قتل النساء الحوامل والأطفال الرضع. فأي المحرقتين أجدر بتعاطف المسلمين ومساندتهم، محرقة اليهود التي يتقاضون ثمنها إلى اليوم ويبتزون بها ضمير أوربا المثقل بالذنب، أم محرقة الفلسطينيين التي لم تنطفئ شراراتها بعد، والتي يدفع الفلسطينيون ثمنها وحدهم من أشلاء أبنائهم ودمائهم. ولعل ما يجب على المجتمع المدني والأحزاب السياسية المغربية أن تقوم به اليوم هو إعادة طرح ملف ضحايا الغازات الكيماوية في الريف من جديد على الساحة الدولية. إنه لمن المخجل أن يطالب الحزب اليساري الجمهوري الكطالاني الحكومة الإسبانية بتحمل مسؤولياتها التاريخية أمام حرب الإبادة الكيماوية التي قام بها الجيش الإسباني في الريف، في الوقت الذي لم نسمع حزبا واحدا، غير حزب مصطفى المنصوري، يطالب بإعادة الاعتبار لمحرقة الريف المنسية. أكثر من ذلك، سمعنا ناشطا ريفيا يقول إن حزب التجمع الوطني للأحرار لا علاقة له بالريف، ولذلك فإنه غير مؤهل لطرح هذه القضية. قضية ضحايا الغازات الكيماوية في الريف ليست قضية الريفيين وحدهم، أو فقط قضية بعض «النشيطين» الذين نصبوا أنفسهم متحدثين رسميين باسم الريف وأبنائه. قضية ضحايا الغازات الكيماوية يجب أن تكون قضية المغاربة جميعهم، بأحزابهم اليمينية والمعارضة، وبجميع جمعياتهم الحقوقية والمدنية. أما إذا كانت جثث الريفيين الذين استشهدوا غدرا بسبب القنابل الكيماوية الإسبانية، ستتحول اليوم إلى ورقة للمزايدات السياسية الرخيصة بين الأحزاب والجمعيات، فهذه إهانة جديدة ستضاف إلى إهانة الغدر والنسيان التي تعرض لها هؤلاء الشهداء. من حق المغاربة أن يطالبوا اليوم الحكومة الإسبانية بالاعتذار عن الجريمة الإنسانية البشعة التي ارتكبها جيشها في الريف ضد المدنيين. ومن حقهم أن يطالبوا بتعويض مادي يتناسب وحجم الضرر الذي أصاب المنطقة، والذي لازالت نتائجه تكلف الريفيين إلى اليوم أمولا باهظة بسبب الأمراض المميتة التي ورثوها من كل تلك الأطنان من القنابل الكيماوية. لقد رأينا كيف اعتذرت إيطاليا للشعب الليبي عن الغازات الكيماوية التي استعملها جيشها ضد المجاهد عمر المختار وسكان القرى المدنيين لإجباره على الاستسلام. ورأينا كيف اعتذرت فرنسا للجزائريين الذين أجرت بالقرب منهم تجاربها النووية. فهل تدع الحكومة الإسبانية كبرياءها جانبا وتعتذر للريفيين عما قام بها جيشها من جرائم إبادة، وتعوضهم عن التدمير الكيماوي الذي ألحقته بالريف، والذي يكلف خزينة الدولة الملايير كل سنة. وبما أننا نتحدث عن التعويض الذي تستعد الحكومة الفرنسية إلى صرفه لساكنة منطقة بشار الجزائرية لتعويضهم عن أضرار التجارب النووية التي قامت بها هناك ، هل تتذكر الحكومة الفرنسية أسماء مناطق قريبة من بشار كبوعرفة وفكيك توجد في التراب المغربي، تعرض سكانها أيضا لأضرار صحية بسبب تجاربها النووية. والدليل على ذلك الارتفاع المقلق لحالات الإصابة بالسرطان في تلك المناطق مقارنة بمناطق أخرى من المغرب. هل تنتظر الحكومة المغربية يا ترى نشوب حرب «مطيشة» بين الرباط وباريس، كتلك التي اندلعت اليوم بين الرباط ومريد، لكي تخرج إلى العلن ملف هؤلاء الضحايا المغاربة لتجارب فرنسا النووية في الشرق المغربي. على الدولة والحكومة المغربية أن تظهر جدية وحزما أكبر في الدفاع عن مصالح أبنائها. خصوصا عندما نكون أصحاب حق، وليس طالبي صدقة أو معونة. هكذا سيحترمنا الخصوم والأصدقاء على السواء. أما استخراج الجثث من مقابرها الجماعية لاستعمالها في إخافة الخصوم، واستثمار ذلك سياسيا من طرف بعض الوصوليين والانتهازيين لتلميع صورتهم المشوهة، فأمر لا يصب سوى في مصلحة خصوم المغرب.