تنذر الأزمة السياسية التي اندلعت في تركيا في شهر دجنبر الماضي بالتفاقم، فيما تبتعد احتمالات المصالحة بين الطرفين الرئيسيين في هذه الأزمة، ممثلين في حركة الخدمة التي يقودها فتح الله كولن، المقيم في الولاياتالمتحدة والذي يقف على رأس شبكة من المؤسسات الخيرية والإعلامية والاقتصادية، وبين حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان الذي يقود الحكومة التركية منذ عام 2002، تاريخ أول انتخابات يفوز فيها الحزب ذو الاتجاه الإسلامي، إذ تتهم الحكومة المقربين من كولن بتحريك ملف الفساد ضدها، في توقيت قريب من موعد إجراء الانتخابات، بهدف التشكيك في نواياها وضرب شعبيتها الكاسحة. وقبل ثلاثة أيام أقالت الحكومة التي يرأسها أردوغان مائة قاض في العاصمة اسطانبول، بينهم مدعيان مكلفان بالتحقيق في قضية الفساد التي هزت البلاد في شهر دجنبر الماضي، والتي أدت إلى استقالة ثلاثة وزراء، وسرَعت بإجراء تعديل حكومي، فيما توعد أردوغان ببدء حملات تطهير غير مسبوقة في قطاعي الشرطة والقضاء، متهما إياهما بتنفيذ «مؤامرة» ومحاولة انقلابية ضده عبر القضاء، يقف وراءها حلفاؤه السابقون في جمعية الداعية فتح الله كولن. كولن يخرج عن صمته بعد 16 عاما غير أن التطور الذي سجلته الأحداث هو خروج كولن عن صمته في هذه الأزمة، وإدلاؤه بحوار صحافي لشبكة»بي بي سي» الأمريكية هو الأول من نوعه منذ ستة عشر عاما. ويشير هذا الخروج الإعلامي إلى أن حركة الخدمة التسمية التي تطلق على الشبكة المحيطة بكولن بدأت تستشعر جدية التطورات السياسية الجارية في تركيا، وفهمت بأن لعبة شد الحبل بينها وبين حزب العدالة والتنمية في السلطة باتت تهدد وجودها ومستقبلها. كولن أعلن في تصريحاته الصحافية بأنه يتوقع فشل كل محاولات التستر على فساد الحكومة، مرجحا أن تندم هذه الأخيرة على حملة التطهير التي تنفذها ضد أنصاره في القضاء وأجهزة الأمن.وقال كولن إنه لا يعرف إلا قليلا جدا عن الأفراد الذين ينسبون إلى جماعته وعملوا في أجهزة الأمن على كشف فساد الحكومة، مضيفا أن هؤلاء» تحركوا بوازع ديني وأخلاقي بعدما أزعجهم انتشار الفساد بشكل كبير في أوساط الحكومة». ورفض كولن اتهامات الحكومة له بأنه أنشأ «دولة موازية» في المؤسسات الرسمية، لافتا إلى أن آلافا من أفراد الشرطة والمدعين العامين الذين عزلتهم حكومة أردوغان، ليسوا أعضاء في جماعته ويتبنون إيديولوجيات أخرى. وتابع قائلا: «أردوغان كان يعلم بكل عمليات الفساد، بدليل أن أجهزة الاستخبارات حذرته قبل تسعة أشهر، من فساد في الحكومة، لكنه لم يتحرك لمواجهة الأمر». وأكد كولن في الحوار أنه «ليس نادما على خوضه حربا مع الحكومة»، وأن هذه الحرب: «فرضت علي وهي قدري، وثمة من سيندم في النهاية وسيدفع ثمن أخطائه، ولكن بعد أن يكون أضر بتركيا وسمعتها». وكان نائب رئيس الوزراء، بولنت أرينش، قد أثار غضب المعارضة في تركيا، حين خاطب جماعة غولن قائلا: «اعلموا أنه طالما بقيت حكومتنا قوية، أنتم أيضا ستكونون بخير وقوة ومنعة. أما إذا ذهبت هذه الحكومة، ستذهبون أنتم أيضا وكل الجماعات الدينية. لا تنسوا كيف كانت الدولة تتعامل مع الجماعات الدينية قبل وصولنا إلى السلطة، وكيف كانت تعتبرها خطرا ورجعية يجب القضاء عليها». ورأت المعارضة في كلام أرينش اعترافا صريحا من الحكومة بتعاونها سابقا مع الجماعة ودعمها، على رغم أنها تعتبرها الآن «جماعة انقلابية». واعتبر «حزب الشعب الجمهوري» المعارض أن هذا التصريح يعكس عجز الحكومة ومدى خوفها من تداعيات الحرب مع غولن على مستقبلها. الخوف من الاغتيالات وفي تطور خطير، رجح مليح غوكشه، رئيس بلدية أنقرة المرشح عن حزب العدالة والتنمية الحاكم للانتخابات البلدية في 30 مارس المقبل، حصول موجة اغتيالات قبل أيام من الاقتراع، معتبرا أن «يدا خفية» ستسعى إلى اغتيال قيادات في الحكومة والمعارضة، لإغراق تركيا «في مستنقع عنف». وردا على تصريحات فتح الله غولن في حواره الصحافي المشار إليه، قال وزير الداخلية التركي إن هذا الأخير وجماعته عاجزان عن تحدي أردوغان «الذي دانت له شعوب المنطقة، من القرم إلى السودان ومن المغرب حتى أندونيسيا، بالشكر والعرفان». بيد أن تصريحات وزير الداخلية هذه تؤكد جزءا من الاتهامات التي توجهها حركة الخدمة إلى أردوغان وحزبه، وهي أنه يتصرف بمثابة»خليفة» يجب أن يطاع. وتكشف تلك التصريحات أن سياسة الحكومة التركية تتجاوز الداخل التركي إلى نشر أذرعها في المنطقة بكاملها. وتقول جماعة الخدمة إن حزب العدالة والتنمية وأنصاره يشنون حربا إعلامية على فتح الله كولن بتحريف تصريحاته وتوجيهها وجهة يمكن توظيفها ضد الحركة في الصراع الدائر بين الجانبين. ويستشهدون بحوار مبثوث على فيديو في الأنترنت يقولون إنه تم اقتطاع فقرة منه يقول فيها كولن عن الواقفين وراء عملية فضح الفساد داخل الحكومة: «إذا كان هؤلاء الذين يحاربون بعض السلبيات بمقتضى القانون والنظام والإسلام والديمقراطية، وبهدف التنقي والتطهر والتنظيف، وبغرض الحيلولة دون تأجيلها إلى يوم القيامة فإني أفترض نفسي واحدا منهم وأدرج نفسي فيما بينهم»، بينما المقطع التالي جاء فيه: «ولكن إن لم تكن حقيقة الأمر كما يدعيه الآخرون، بل كان هناك من يتغاضون عن السارق وفي الوقت نفسه يهجمون على من يحاول القبض على السارق، ولا يبصرون الجريمة ولكنهم يحاولون تشويه الآخرين من خلال إلقاء الجريمة عليهم، فإني أسأل الله تعالى أن يحرق بيوتهم ويهدم منازلهم ويفرق جمعهم ويكبت مشاعرهم في صدورهم ويَحُول بينهم وبين أهدافهم ولا يمكِّنهم من أن يصبحوا شيئا مذكورا». جذور الخلاف وترجع أسباب الخلاف بين جماعة كولن وحزب العدالة والتنمية إلى عدم التفاهم في تحديد المصالح الخارجية التركية والتعامل معها. فمنذ حادثة سفينة مرمرة في ماي 2010، التي أرسلتها الحكومة إلى إسرائيل لكسر حصار غزة، بدأ فتح الله كولن يوجه انتقادا لاذعا إلى الحكومة التركية، مدعيا أنها سمحت للسفينة بالإبحار من دون أخذ إذن من الحكومة الإسرائيلية. وفي مفارقة أثارت استغراب الكثيرين، حمل كولن رئيس الحكومة أردوغان مسؤولية الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية الذي أدى إلى مقتل تسعة أتراك. وقد مثلت هذه التصريحات حينئذ صدمةً داخل تركيا وخارجها. بيد أن الحركة تقول بأن التسعة الذين قتلوا قد ذهبوا ضحية مؤامرة مدبرة، في تلميح إلى الحكومة، مما يفترض أن الحكومة التركية كانت حريصة على أن تخرج رابحة عربيا ودوليا من العملية، لكسب إشعاع أكبر على الساحتين العربية والإسلامية، من خلال البحث عن افتعال حادث مأساوي. لكن الخلاف المباشر بين الطرفين ظهر عندما أسست حكومة العدالة والتنمية المحاكم الخاصة للنظر في قضية عرفت باسم «الأرغينيكون»، وهي قضية اتهمت فيها الحكومة عشرات الضباط من المؤسسة العسكرية بالتدبير لانقلاب عليها عام 2007 . لكن أمد المحاكمات طال من دون حسم، كما أخذت الاتهامات تمس قيادات عسكريةً عملت حتى وقت قريب بجانب أردوغان الذي جعل يبدي استياء واضحا من بطء سير المحاكمات، ومن اقترابها من قيادات عسكرية تعد قريبة منه، ما أشعر أردوغان بأن جهازي الشرطة والقضاء اللذين أمسيا في قبضة جماعة غولن باتا يشكلان تحديا كبيرا له. أما الخلاف الداخلي الثاني فقد ظهر عندما جرى الكشف عن تسجيلات صوتية لمفاوضات سرية في أوسلو مع حزب العمال الكردستاني، تحت إشراف رئيس جهاز الاستخبارات، في إطار مسعى الحكومة لحل القضية الكردية. غير أن جماعة كولن التي لها امتداد ونفوذ في المناطق الكردية كان لها رأي في الحل يختلف في التفاصيل مع رأي أردوغان، ما جعل المدعي العام «صدر الدين صار يقايا»، المحسوب على جماعة كولن يقوم في فبراير2012 باستدعاء رئيس جهاز الاستخبارات «هاكان فيدان» للمساءلة القانونية، إذ وجه إليه تهما بالتفاوض مع «أعداء الوطن» وتجاوز صلاحياته، فترتب عن ذلك تدخل من رئيس الوزراء أردوغان الذي عد المسألة خارجةً عن نطاق الخلاف السياسي إلى الاستهداف الشخصي له، عبر استدعاء صديقه للتحقيق. وتعتبر الأزمة الحالية أسوأ الأزمات السياسية التي تشهدها البلاد منذ عدة عقود، وليس فقط منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في انتخابات عام 2002. ذلك أن التعايش بين الإسلام السياسي والإسلام الاجتماعي ظل ركنا رئيسيا في البلاد، بل إن الأول كان يعترف دائما بفضل الثاني على انتشاره بسبب تجذر الجماعات الصوفية في تركيا وانتشارها في أوساط السكان. ويقر أنصار حزب العدالة والتنمية بالدعم الذي لقيه هذا الأخير في الانتخابات الأولى التي أوصلته إلى السلطة من طرف جماعة الخدمة التي يقودها الشيخ كولن، والتي كانت بمثابة الوجه الآخر للحزب، وإن كانوا في الآونة الأخيرة بعد تفجر الأزمة قد بدؤوا في التشكيك في حجمها الحقيقي داخل المجتمع التركي ويقولون بأن نسبة المنتمين إليها وسط الناخبين لا تتجاوز 1 في المائة. ويرى أتباع الحركة أن هذا التشكيك يرمي إلى تحجيم دور الحركة في المجتمع والتحضير للتخلص منها. ويرى مراقبون أن القضاء على الحركة ليس ممكنا وسوف يكلف البلاد نزيفا اقتصاديا واقتتالا سياسيا من شأنه أن يدمر البناء الذي شيده حزب العدالة والتنمية خلال العقد الماضي من تسييره لدواليب الدولة، كما أن من شأنه أن يهدد مصالح البلاد على المستوى الإقليمي والدولي ويضعف موقعها في المنطقة، خاصة أمام الاتحاد الأوروبي الذي تسعى تركيا إلى الانضمام إليه. ويرى هؤلاء أن الصعوبة تكمن في أن حركة الخدمة جزء من حزب العدالة والتنمية، وأن هناك من التداخل فيما بينهما ما يستحيل معه القضاء على أي طرف من الاثنين. فحزب العدالة والتنمية يتكون من عدد كبير من الأطر التي تكونت داخل مدارس الجماعة ومؤسساتها التعليمية، ومتشرب لأدبياتها ومتأثر كثيرا بكتابات فتح الله كولن، ومن شأن أي انفصال بين الحركة والحزب أن يؤدي إلى صراعات داخل كل هيئة منهما، وأن يؤثر على حجم كل طرف. صواش: الصراع بين كولن وأردوغان صراع بين نموذجين في الاختيار الحضاري نوزاد صواش هو أحد تلاميذ فتح الله كولن، يشرف حاليا على المشروع الثقافي والفكري لجماعة الخدمة. في الحوار التالي يتحدث صواش عن خلفيات الصراع بين حزب العدالة والتنمية وجماعة الخدمة وعن آفاق المستقبل والعلاقة بين الطرفين. - ما حقيقة ما يجري اليوم في تركيا بين جماعة الخدمة التي يقودها الشيخ فتح الله غولن وحزب العدالة والتنمية بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان؟ أول ما ينبغي التذكير به أن حزب العدالة والتنمية وحركة الخدمة في الأصل هما جزء أصيل من العمق المجتمعي في تركيا، الذي حاول أن يحدث دينامية اجتماعية تتجاوز واقع التحكم الذي تمثله قوى الدولة العميقة، لكن من خلال منهجين ورؤيتين مختلفين. ويمكن القول إن مجمل الخطاب الحالي حول الوضع التركي وما يثيره من أسئلة وقضايا، وما يحتويه من أفكار ومعطيات سيظل محدود الفائدة جدا إذا هو لم يخلص إلى الوعي بالأحداث الراهنة، باعتبارها تعبيرا عن رؤيتين للتغيير ومقوماته ومداه وأولوياته. وهما الرؤيتان اللتان تجملان كافة محاولات التغيير والإصلاح في عالم المسلمين اليوم؛ مع فارق أساسي هو أن إحداهما قد استنفدت إمكاناتها حسب الخبرات الماثلة في غير واحدة من الساحات العربية والمسلمة، فيما تمثل الثانية أفقا تلوح بوادره دون أن تصير مشروعا واقعيا متكاملا إلى الآن في العالم العربي، بل على امتداد عالم المسلمين، إلا ما كان من مشروع حركة الخدمة، وهذا هو مكمن الأهمية في مجمل ما نشهده في هذه الفترة من تجليات الصراع، في محاولة وأد نموذج حضاري بديل واعد. يتم الآن على أرض تركيا. - هناك من يرى أن ما حصل بداية الطلاق بين الجماعة والحزب، وأن هذا الأخير يريد تقليم أظافر الجماعة بعدما أصبحت تشكل تهديدا له، هل هذا صحيح؟ الحالة الراهنة ومنهج التعامل معها تبين بشكل عملي الخصائص المميزة لكلا النموذجين، خاصة في الحالات الاستثنائية التي تندلع فيها الأزمات، فقد أبانت طريقة تعامل النموذجين بوضوح عن كثير من أزمات الدولة الحديثة في التدبير، والمبالغة في تقدير القوة، وقوة المناعة ضد الاستيعاب من قبل قوى وأطراف أخرى. كما تمثل الأحداث الحالية حالة حية ومتقدمة للضيق بالمنافس المجتمعي من قبل النموذج السياسي، حتى لو كان ذلك على حساب الأوطان ومصالحها واستقرارها؛ مع التعصب للشخص والحزب على كل حال، والاندفاع في الهجوم على المخالف في النموذج السياسي. - هل ما يحصل في تركيا الآن يشكل إرهاصا بما يمكن أن يحصل في مختلف البلدان التي يحكمها الإسلاميون، نتيجة الاختلاف بين منطق الجماعة الدعوية ومنطق الحزب السياسي أي الدولة؟ يسعى نموذج التغيير الحضاري أو المجتمعي إلى تحرير إرادة المجتمع وإكساب كافة وحداته الفعالية المطلوبة لتتحرك ذاتيا نحو بناء المجتمع وشهود الأمة ورشاد الإنسانية بمعنى التغيير المنطلق من القاع إلى القمة، أو من الأسفل إلى الأعلى، مرورا بكافة وحدات المجتمع بلا استثناء. وواضح في ضوء هذا النموذج أن منطلقه هو بناء الإنسان وإكسابه المواصفات اللازمة لوراثة الأرض، وهو هدف يفضي إلى الارتقاء به عبر نقلات نوعية، وتحرير إرادته، ومن ثم تحرير إرادة المجتمع كله وإكسابه القدرة على أخذ زمام المبادرة بشكل يحقق أكبر قدر مستطاع من الاستقلالية عن إرادة أي سلطة حاكمة مهما كان لونها أو توجهها، فيعيد سلطة الدولة إلى حجمها الحقيقي الذي كان عليه قبل أن يتمدد باطراد عبر الزمن؛ مما يعني أن تسير السلطة إلى جانب المجتمع ميسرة أمامه سبل الفعل ومذللة ما يواجهه من صعوبات دون أدنى سعي للحلول محله في أداء وظائف لا يمكنها أداؤها أصلا، ولا تتسع بنيتها والتزاماتها وهامش حركتها لما تقتضيه تلك الأهداف من تحرر إرادة ونموذج أخلاقي وطاقة فعل ومرونة حركة. - جماعة الخدمة تؤاخذ أردوغان بأنه تراجع عن تعهداته السابقة وأصبح جزءا من مؤامرة دولية ضد جماعة الخدمة، ما حقيقة هذه التهم.؟ لا تميل حركة الخدمة غالبا للتفسير بالمؤامرة، لكن من الواضح أن محيط السيد رئيس وزراء تركيا قد تغير كثيرا خلال الإحدى عشرة سنة الماضية التي قضاها في الحكم، وصعود وجوه جديدة من عالم المال والأعمال بأجندات ومصالح خاصة، كما أنه ليس من الصعب ملاحظة أن المحيط الأقرب له هو في أغلبه من وجوه ليست لها علاقة بالجيل الذي بنى معه التجربة. الدولة العميقة في تركيا لها قدرة كبيرة على الاستيعاب والتنفذ، وبغض النظر عن نوايا الشخص الموجود في سدة الحكم فإن موازين القوى قادرة على توجيهه، من الأمثلة البليغة في هذا السياق المعركة التي فتحها شخصيا ضد مدارس التقوية في تركيا ضدا على إرادة كل قيادات الحزب والحكومة بما في ذلك رئيس الدولة، وأثارت استغراب الجميع، وكذا تعديل بعض القوانين حاليا بما يسمح بإعادة محاكمة رموز منظمات الدولة العميقة التي أدينت في قضايا محاولات الانقلاب السابق .. أو لقاؤه قبل أسبوعين بسفراء تركيا في العالم للتحريض ضد حركة الخدمة مما دفع كثيرا منهم إلى رفض هذا التوجه علانية عبر الإعلام. والحقيقة أننا إن استخدمنا معالم النموذج في التحليل والمقارنة، فإننا سنقف على أفكار في منتهى الأهمية والقوة والتأثير، مسترشدين برصيد مهم من المقالات المكتوبة حولها تتعلق بالرؤيتين للوضع العالمي ودقة استيعابه ومنهج التأثير فيه، وللصراع الدولي وأولوياته وأدواته، وللعلاقات مع الفاعلين فيه (أمريكا،إسرائيل، دول الجوار التركي في آسيا الوسطى وإيران..)، وموقع العلاقة بالعالم العربي كرؤية حاكمة واستراتيجية في النموذجين، ومنهج كل منهما في الانفتاح عليه وصيغة هذا الانفتاح ووسائله.. كما أن قضية فلسطين كذلك مثال جيد على الفرق بين النموذجين وفعالية وسائلهما في التعامل مع القضايا العامة، بالإضافة إلى نزوع الإلزام بالاختيارات الذاتية للوسائل وكأنها الوسائل الوحيدة المشروعة أو المتاحة، هذا فضلا عن الجانب الأخلاقي للخطابات حول هذه القضية تحديدا، وما يتعلق بها من مغالطات، سواء في الحديث عن إسقاطها من اهتمام حركة الخدمة واستعمالها بالتالي كوسيلة إثارة وشحن ضدها، في بيئة تعتبر القضية الفلسطينية بوصلة محددة لطبيعة العمل العام والحكم على اتجاهه، أو من خلال إثارة قضية سفينة مرمرة، والمبالغة التي تبلغ مبلغ الاختلاق في الموقف المعلن للأستاذ فتح الله كولن حول هذا الموضوع. لكن أردوغان وجماعته يتهم جماعة الخدمة بأنها أصبحت دولة داخل الدولة وتهدد استقرار البلاد بل تتجسس على الحكومة، إلى أي حد ترون أن هذه الاتهامات سليمة؟ النموذج السياسي هو نموذج قائم على مبدأ التغيير من خلال سلطة مؤسسة الحكم، أي امتلاك أداة السلطة السياسية. ومن المهم الإشارة إلى أن ما يعانيه من أزمات حالية مرتبطة أساسا بسلامة الأداة الأساسية للتغيير وإمكانية تحقيقه بالاعتماد عليها، ذلك أنه فضلا عن المحدودية الواضحة للسلطة السياسية في عملية تغيير تستهدف غايات كبرى، ذات طابع حضاري، مؤسسة على القيم الشاملة للوحي؛ فإن المنظور السياسي يواجه معضلة الدولة الحديثة التي يتخذها مركبا لبلوغ غايته مع ما هو معروف من الأزمات المستحكمة التي تئن تحت وطأتها هذه الدولة بإطلاق، سواء من حيث جوهرها العنيف، أو نزوعها التحكمي للسيطرة على مساحة الفعل على حساب المجتمع، أو صناعتها لآليات استبداد جديدة باسم الأغلبية والديمقراطية وشرعية الصندوق..، أو ضربها لروح التوافق ومفهوم الجماعة..، مع ما في ذلك من آفات التحكم اللاأخلاقي لمؤسسة الدولة نفسها وموازينها الداخلية وإكراهاتها بالأفراد ومجموعات الحكم، مهما كانت مستوياتهم الأخلاقية، نظرا للطبيعة التحكمية لمؤسسة الدولة الحديثة نفسها، التي تكاد في بعض الأحيان تحكم الجالس على كرسيها، بدل العكس مما يتوقعه الناس من الحاكم عادة، ويعلقونه على وجوده من آمال عريضة، مستسلمين لذات الفكرة التبسيطية عن إمكانية التغيير الشامل بالأداة المفردة أو الفرد القائد..