كلما حل فصل الشتاء والأمطار، يبدأ الحديث عن معاناة سكان المناطق المعزولة وسط الجبال، وتتناقل وسائل الإعلام أخبار قافلات التضامن التي تنظمها جمعيات المجتمع المدني، من أجل فك الحصار عن سكان تلك المناطق. لكن منذ سنوات، دأب المسؤولون عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، على تنظيم ما أسموه ب»الخميس الإعلامي»، وهي مناسبة ينتقل فيها مسؤولو المبادرة رفقة مجموعة من الإعلاميين، إلى مناطق معزولة، بغرض التعرف على المشاريع التي قامت المبادرة بإنجازها بشراكة مع القطاعات الأخرى، وأيضا للوقوف على حجم المعاناة التي يعيشها سكان «المغرب غير النافع»، في العديد من الجهات والمناطق المغربية. اصطفت العشرات من السيارات رباعية الدفع أمام مدخل الفندق الذي يقع خارج مدينة ميدلت. انتهى الصحفيون من إعداد كاميراتهم وأجهزة التسجيل الخاصة بهم، وبدأوا في امتطاء السيارات الواحدة تلو الأخرى، في قافلة تتقدمها سيارة عامل الإقليم. كانت الوجهة حسب البرنامج الموزع على الصحفيين هي دوار إنمل، التابع ترابيا إلى جماعة النزالة بإقليم ميدلت، وهو الدوار الذي يبعد عن المدينة بأكثر من ستين كيلومترا. انطلقت القافلة مدة ساعة من الزمن عبر الطريق المعبدة، قبل أن تنحرف باتجاه الدوار المقصود، وهو ما كان يحتم على السيارات المكونة لها المرور عبر مسالك وعرة وغير معبدة، وهو ما جعلها تقطع مسافة ثلاثين كيلومترا تقريبا في مدة تفوق الساعة. مسالك وعرة مباشرة بعد خروج قافلة السيارات من الطريق المعبدة نحو المسار الجانبي المؤدي إلى دوار إنمل، حتى بدأت معاناة السائقين والركاب على حد سواء، بسبب وعورة تلك المسالك، وعدم صلاحيتها لاستقبال العدد الكبير من السيارات. كان الغبار المتطاير من تحت عجلات السيارات رباعية الدفع يملأ الجو، ويمنع عن الراكبين التمتع بمناظر الجبال المكسوة بالثلوج، خاصة وأن الزيارة تزامنت مع موسم سقوط هذه الأخيرة، رغم الجو الحار الذي كانت تعرفه المنطقة بالتزامن مع زيارة الوفد الصحفي والرسمي. رغم أن المسافة الفاصلة بين الطريق المعبدة ودوار إنمل لا تتعدى 28 كيلومترا، إلا أن صعوبة المسالك الطرقية جعلتها تبدو وكأنها عشرات الكيلومترات. مسؤولو المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، يفتخرون بكونهم استطاعوا فك العزلة عن المنطقة بفضل إنجاز تلك الطريق، حتى وإن كانت غير معبدة، إلا أنها نجحت إلى حد ما في تسهيل وصول السكان إلى حاجياتهم الضرورية. «الدواوير المنتشرة هنا كانت تعاني من عزلة حقيقية، تتضاعف أكثر خلال موسم تساقط الثلوج، وهذه الطريق رغم الحالة التي توجد عليها، إلا أنها مكنت السكان على الأقل من الانتقال أسبوعيا إلى السوق الأسبوعي للحصول على احتياجاتهم الضرورية، يقول سائق السيارة، والذي وجد نفسه يتقمص بسبب طول الطريق دور المرشد السياحي، خاصة وأنه واحد من أبناء المنطقة. حسب الوثائق الرسمية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فقد كلفت تهيئة الطريق الرابطة بين الطريق الوطنية 13 ودوار إنمل مليونا وستين ألف درهم، انقسمت ما بين تهيئة ثمانية كيلومترات، وفتح 18 كيلومترا جديدة، وهو ما ترافق مع بناء منشآت فنية من أجل تسهيل ولوج المواطنين للخدمات الأساسية. «طبعا فبناء الطرق يدخل في إطار الأولويات التي وضعها صاحب الجلالة منذ اليوم الأول لوضع تصور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، حتى نعمل مجتمعين على فك العزلة عن كافة المناطق في المغرب، وحتى يحس كل المغاربة بأنهم سواسية، وبأن الدولة المغربية تفكر في جميع أبنائها»، تقول نديرة الكرماعي، العامل، منسقة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تصريح ل»المساء». إنمل.. الأحياء الأموات بعد ساعتين من انطلاقة القافلة، وصلنا إلى دوار إنمل الذي يوجد على ارتفاع كبير عن سطح البحر. كان الفضاء بسيطا جدا، تتوسطه خيمة كبيرة ضمت مجموعة من المنتوجات الفلاحية المحلية، وزينت بمنتوجات أمازيغية محلية. خارج الخيمة انتظم صف من رجال المنطقة بجلابيبهم الصوفية الثقيلة، في انتظار السلام على عامل الإقليم ومرافقيه، في حين تجمعت نساء المنطقة في الجهة المقابلة، وأمامهن تكوم الأطفال بملامحهم التي تعلوها الحمرة، والتي يتسبب فيها البرد القارس الذي تشهده المنطقة الجبلية خلال هذه الفترة من السنة. ارتفعت أهازيج الرجال مختلطة بأصوات وزغاريد النساء، بينما كان الأطفال الصغار يتطلعون إلى زائريهم وكأنهم قادمون من كوكب آخر. كانت الدهشة تعلو محيا الأطفال الذين اختلفت أعمارهم، والذين لم يبد على وجوههم أي رد فعل تجاه ما يحدث في محيطهم، خاصة وأن أغلبهم يجهلون اللغة العربية، ولا يتحدثون إلا الأمازيغية التي يأخذونها عن آبائهم منذ نعومة أظافرهم. يقترب عبد العالي الرامي، الفاعل الجمعوي في مجال الطفولة من الأطفال الذين غلبتهم الدهشة، مطالبا إياهم بترديد مجموعة من الأناشيد، إلا أن جهلها باللغة العربية، مما جعل من الصعب عليهم التجاوب مع مطلب الفاعل الجمعوي، قبل أن يرددوا بصعوبة وتعثر النشيد الوطني المغربي. على بعد أمتار من التجمع الذي شكله سكان المنطقة ترحيبا ب»أهل الرباط»، كانت تجلس امرأة طاعنة في السن، ممسكة بعصا من القصب تتوكأ عليها كلما أرادت التنقل من مكان إلى آخر، بواسطة يدين مزينتين بحناء تحول لونها إلى الأسود. «يطو» هي من أكبر نساء الدوار سنا، اشتغلت طوال حياتها كقابلة للنساء، في وقت كان يعتبر فيه حضور طبيب لتوليد امرأة ضربا من الخيال. «يطو» ورغم أنها تجاوزت اليوم سنها السبعين، إلا أنها مازالت تمارس مهنتها كقابلة، «فرغم تطور الوقت، مازال دوارنا يعاني من العزلة، والنساء الحوامل قد يمتن قبل أن يبلغن أقرب مركز طبي»، تقول يطو بالأمازيغية، وبصوت واهن يخرج من فم أحاطت به التجاعيد من كل جانب، قبل أن تضيف بلهجة تدل على اليأس: «أورْ نْمُّوت أور نْدّْرْ»، والتي تعني بالعربية «نحن لسنا أحياء ولا أموات». خدمات اجتماعية تحت الصفر بالإضافة إلى درجات الحرارة التي تنخفض في المنطقة خلال فصل الشتاء إلى ما تحت الصفر، تبقى المنطقة أيضا مفتقرة إلى أبسط ظروف العيش وضروريات السكان، خاصة ما يتعلق بالربط بشبكة الكهرباء، وأيضا بشبكة الماء الصالح للشرب. الزيارة كانت مناسبة من أجل إعطاء الانطلاقة الرسمية لربط الدوار بشبكة الماء الصالح للشرب، وهي المناسبة التي تجمع لها كل الحضور، مبتهجين بالمورد الجديد الذي سيعفيهم من قطع المسافات الطويلة من أجل جلب الماء لهم ولأنعامهم. مشروع ربط الدوار بشبكة الكهرباء بدوره يسير بخطى حثيثة، بعد أن وقف الوفد الصحفي على وضع مجموعة من أعمدة الكهرباء على طول الطريق الموصل للدوار. «سنبلغ إنمل خلال 15 يوما على ما نعتقد، وحينها لن يتبقى أمامنا الكثير من أجل إيصال الكهرباء إلى هؤلاء السكان المحرومين منها منذ سنوات عديدة»، يقول أحد العمال المشرفين على عملية تثبيت الأعمدة. ورغم توفر الدوار على مدرسة ابتدائية، إلا أن السكان يقولون بأنها لا تضم سوى ثلاثة معلمين مكلفين بتدريس ستة مستويات دراسية، فضلا عن أنهم دائمو الغياب خلال موسم التساقطات المطرية والثلجية، بسبب صعوبة الوصول إلى المنطقة. بمجرد تجاوز التلاميذ للمستوى السادس الابتدائي، يصبحون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما السفر إلى المدن المجاورة من أجل إكمال تعليمهم، وهو ما لا يعتبر متاحا للجميع بسبب ضيق ذات اليد، أو مغادرة مقاعد الدراسة مبكرا، من أجل البحث عن عمل لإعانة رب الأسرة على مواجهة تكاليف الزمن القاسية. «المنطقة فقيرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، والسكان لا يتوفرون حتى على فلاحة يمكن أن تكون مصدر معيشة لهم، لذلك فإن هجرة الأبناء إلى أماكن أخرى بحثا عن العمل تبقى هي القاعدة المتبعة هنا، ولو وجد الآباء طريقة لمغادرة هذه المنطقة لفعلوا ذلك بدون تردد»، يقول محمد، الكهل العارف بخبايا المنطقة، وأحد وجهاء الدوار. ورغم أن مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تحاول جاهدة تغطية كافة نواحي الحياة للمناطق المعزولة، إلا أن كثرة الاحتياجات تجعل من ذلك مهمة صعبة، وهو ما تقر به الكرماعي، مؤكدة أن المبادرة تلعب دور الرافعة فقط، وأن مسؤولية إخراج تلك المناطق من وضعية التهميش التي تعيشها هي مسؤولية الجميع بدون استثناء، «ونحن حريصون على وضع برامج متكاملة في كل منطقة، من أجل ضمان الاستفادة بالشكل الأمثل من تلك المشاريع من طرف السكان». ويبقى دوار إنمل بإقليم ميدلت، نموذجا مصغرا للمناطق الجبلية التي تنتمي إلى «المغرب غير النافع»، والتي مازالت بحاجة إلى التفاتات عديدة من أجل إخراج سكانها من الواقع السوداوي الذي يعيشون فيه، وإدخالهم إلى الحضارة من أوسع أبوابها، عوض أن يبقى المغرب سائرا بسرعتين مختلفتين لا تخدمان مستقبل أبنائه في مختلف ربوع الوطن.