هذه شهادة الدكتورة فريدة المصري، باحثة وأستاذة جامعية من ليبيا، كتبتها بعد رحلة قصيرة إلى المغرب زارت خلالها مكناس والدار البيضاء. هنا تفصح عن مشاعرها وتلتقط الصور بكل العفوية التي تستأثر بالمسافر وهو يعبر في الزمان والتاريخ والفضاء، وهو بلا شك يحلم بمغرب عربي كبير لا تحده الأسوار. السماء ملبّدة بالغيوم، والمطر مهيأ للسقوط، البرق والرعد يملآن الفضاء، الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر، الطائرة تستعدّ للإقلاع، متّجهة من طرابلس الغرب إلى مطار محمد الخامس بالدار البيضاء . في البداية كان الأمر مُخيفاً بالنسبة لي على الأقل، فهذه أول مرة أسافر في جو ممطر كهذا، لكني هدأتُ مع هدوء الجو واستسلمت لرحلة من أجمل الرحلات التي قمت بها. جواز سفري يحمل العديد من أختام الدخول والخروج، حتى أنه في مرة قال لي أحد الموظفين بمطار إندونيسيا «أنت كثيرة السفر مدام»، قلت: «نعم صحيح، فطبيعة عملي تحتم علي المشاركة في ملتقيات علمية في دول متعددة، وكوني مغرمة بالبحث والترحال زادني الأمر تنقلاً». عندما هبطت الطائرة في المطار لم يكن أمامي إلا أن أستقلّ القطار للتوجه إلى مدينة مكناس حيث وجهت لي الدعوة للمشاركة في ندوة الثقافة المغاربية بين الخصوصية والكونية، بكلية الآداب جامعة مولاي إسماعيل . في القطار تصادق أناساً لم تكن لك بهم سابق معرفة، أعمار مختلفة، أجناس مختلفة، مجرد صداقة قطارية عابرة تنتهي بوقوف القطار في كل محطة. العتمة بدأت تلف رداءها حول المدن المار بها القطار، لم أقاوم النوم، جفوني بدأت تذبل لتستسلم لنوم متقطع، وبعد أربع ساعات أُعلن عن وصول القطار إلى مدينة الزيتون (مكناس)، توقف القطار ونزلت في فندق بالقرب من المحطة، فقد كانت الساعة متأخرة نسبياً. ما إن ظهر أول شعاع للشمس حتى استيقظت المدينة ومعها شجيرات الزيتون حاملة معها عبقا زيتونياّ، أينما حللت في هذه المدينة استقبلك أريج الزيتون الأخضر الناعس. مكناس تلك الشعلة المتوهجة بالحياة، الذائبة في نهر من العسل المصفّى، عندما تشم رائحة زيت الزيتون لا تعرف إن كنت قابعاً داخل معصرة عتيقة تقوم برحي كل الزيتون المندس بين أغصان الأشجار العملاقة، أم أنك تلبس عباءة زيتية تتسع داخلها ذاتك. وما أن تطأ المدينة حتى تعرف أن مولاي إسماعيل هو الذي أقام فيها وبناها، وجعلها عاصمة لمملكته. حفاوة الاستقبال تلاحظها منذ هبوطك من الطائرة في المطار، حيث الكل يُبدي استعداده لمساعدة سيدة تحمل حقيبة مثقلة بملابس شتوية، ومجموعة من الكتب أحضرتها معها من بلادها لتكون همزة وصل بين ثقافتين مغاربيتين، إحداهما تقع في بداية الصف المغاربي، والأخرى قبيل منتهاه، وكلتاهما تنعم بإطلالة بهية على الحوض المتوسطي، وتتدلل بأكسسوارات أعماقه السحيقة. المغرب موعودة بالأسوار، والفتنة، وأنت تتجول فيها لا تعرف هل وقعت في حبها أم هي التي عشقتك، الطريق إليها تبتلع حكايا كثيرة، وشم الزمن مطبوع فوق خاصرتها. الموسيقى الأندلسية تلحق سمعك أينما يممت، والهواء النقي يبعث على الصفاء والطهر. في الرباط أثناء رحلتي الربيعية القصيرة جداً في شهر أبريل من العام 2013، تشكيلة من المياه العابثة تتلاعب بك لا تعرف من أين تبدأ، ولا أين تنتهي، تتواعد بين ظهرانيها مياه المتوسط مع مياه الأطلسي لترتشف قهوة الصباح على الساحل الرباطي العتيق. جبال الأطلس تتبختر مزهوة بعرشها الذي اختاره لها الله، قدرها أن تكون محمية بعناية إلهية، في الصباح الباكر تتأنق لتعانق ضوء الشمس القادم من الشرق، ليلقي تحيته الصباحية ويقبل وجهها النائر المخلّد، عنوان مغربي لا يحمل رقما بريديا، لكن الساعي إليه لا يتوه في الطريق، من حسن حظ سكان تلك السلسلة من الجبال أن ينعموا بمغازلة جبالهم في الصباح والعشي، وأن تكون ماشيتهم أسعد حالاً من أي ماشية في مكان آخر من العالم. القهوة الكحلة، والشاي الأخضر المنعنع يأتي به النادل بعد وجبة الكسكس المعتاد تقديمها يوم الجمعة، بمشاركة صحون السلطة المغربية، وصحون الفواكه على الغداء، أما الحريرة والطاجين المغربي بأنواعه فتتربع على مائدة العشاء، وأما عصير الأفوكادو فهو ملك العصائر المغربية بدون منازع، مضافا إليه القليل من الحليب. في طريق العودة من مكناس إلى الدار البيضاء تحيط الأشجار بالقطار من جانبيه ليشعرك بأنك داخل غابة متنقلة. تلك حكايتي مع مكناس والرباط وجبال أطلس لامتناهية الارتفاع والشموخ. في كازابلانكا أما حكايتي مع كازابلانكا فتلك قصة أخرى، يرويها باب مراكش الواقف بثبات أمام السوق الشعبي المزدحم بالباعة والمارة، وشارع للا ياقوت. من مدينتي البيضاء إلى مدينتي ناصعة البياض.. البياض يدثرني بعباءته الكشميرية الدافئة، حتى وأنا في عمق الليل الحالك..الدار البيضاء مذ دخلتها وأنا أستشعر دفء الضياء داخل شراييني، وحتى الشعيرات الدموية صارت أقل دموية، واعتكفت تصلي من أجل سلام بيضاوي لعروس بحرها المتوسط، تلك هي دُرّتي التي عانقتني عناقاً طويلاً، وحمّلتني سلاماً ومحبة لمدينتي التي تلونت باللون القرمزي الغامق. اليوم الأخير في كازا كما يحب أن يدللها أهلها وأنا.. غداً أنطلق إلى مطار محمد الخامس، وفي جعبتي حنين ويقين بأني سأعود.. البيضاء اليوم تغتسل من الصباح الباكر، وتتعطر برائحة المطر من رأسها حتى أخمص قدميها..هي تستعد لوداعي..سماؤها تبكي لفراقي.. اعتادت على تسكعي في شوارعها..سأذهب لأقابل بيضائي الأخرى التي تركتها في انتظاري.. مطر..مطر..مطر عيناك غابتا نخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر هكذا أنشد السيّاب لموطنه العراق..لكنّ بيضائي لم ينأ عن عينيها القمر..بل عيناها هما الشمس والقمر معاً. سأذهب..أيتها المدينة الشامخة بتاريخك، بأسوارك، بأمطارك.. بأطفالك الذين تنظر عيونهم إلى الأمام. سأذهب..وأترك فيك بعضاً مني في الدار البيضاء لا تحتاج أن تفتش عن الحب..فهي تعطي الحب دون انتظار مقابل. هي مدينة قانعة وصابرة، تُلهم زائريها الشعر والخواطر. مدينة تختفي فيها كل الأعراق لتكوّن عالماً إنسانياً بامتياز. مدينة تغازل الإنسان وحده غير عابئة بأصوله، أو عرقه، أو جنسه، أو دينه. مدينة تسعى إلى الكمال الإنساني..وها هو يأتيها من بين يديها ومن خلفها. أسمع صوت بيضائي وهي تهمس لي سراً: عودي إليّ..وكأني أسمع نجاة الصغيرة وهي تصدح برائعة نزار قباني: ارجع إليّ..ارجع إليّ فإن الأرض واقفة..كأنما الأرض فرّت من ثوانيها ارجع إليّ..ارجع إليّ فبعدك لا عقد أُعلقه ولا لمست عطوري في أوانيها الرجل المغربي يحب المرأة، يساعدها، ويأخذ بيدها، هذا ما لمسته على الأقل خلال رحلتين إلى المملكة المغربية، خلال هذا العام. الرجل المغربي أكثر اهتماماً بالمرأة من غيره، يقدم لها المساعدة في كل شيء، يشعر بمسؤوليته نحوها، وحسبي أن أقول إن المرأة إذا حلّت في المغرب ستكون محاطة بالعناية والاهتمام. أما المرأة المغربية فهي امرأة جذابة، وسلسة تمتلك شخصية قوية، وندّيّة، حضورها فاعل ومتفاعل دون انتظار إطراء..قيمتها من قيمة الوطن..وقيمة الوطن من قيمتها..تشعر وأنت تقابلها بأن عليها مسؤوليات جسام، لكنها تستطيع إنجازها بيسر، وثقة من تثق بإمكانياتها..الغاية عندها لا تبرر الوسيلة بقدر ما الوسائل عندها تنعجن لتصل إلى الغاية. في السوق الشعبي عند باب مراكش أول ما ينتبه إليه الزائر هو سماع صوت القرآن يخرج عبر أبواب المحال التجارية، وعندما تدلف إلى داخل السوق تجد المساجد والزوايا في انتظارك، مثل الزاوية القادرية البودشيشية، وغيرها كثير، تتصاعد رائحة البخور النفاذة منها. اعترضت طريقي امرأة في العقد السادس على ما يبدو..اقتربت مني أكثر..وضعت يدها على كتفي، وقالت إن حياتي سيكون فيها الكثير من الحظوظ السعيدة..أخفيت ابتسامة لأني لا أُريد جرح مشاعرها..تلك المرأة المسكينة لا تعرف أني ناقدة في الأدب وأن دراسة الأدب والنقد تفتح آفاقنا على كثير من الأمور، وأن دراسة الأفكار الماركسية، واليسارية والاشتراكية والبنيوية والتفكيكية وغيرها أفسدت الكثير من فطرتنا..فالدراسة أحيانا تفسد طباع الإنسان الفطرية..أعطيتها ما كتّب الله كما نقول بالدارجة الليبية، فرسمت قبلة على رأسي ودعت الله أن يهبني ما أتمناه. شعرت بالأسى حيالها، لأن الحياة لا يمكن أن ترتهن لقبلة على الرأس، أو اكتناه الحظ للآخرين..تساءلت من منا على صواب: المرأة المتكهنة التي رابطت في السوق تقرأ مستقبل زائريه، وامتهنت تقبيل الروؤس أم ناقدة عرفت نظريات الأدب وتأويلاته؟ الجواب لا يكمن في تحديد الصواب من عدمه..وإنما في عملية الارتياح..فقد توسمت في تلك المرأة الراحة والرضا..ربما هي القناعة بأننا لا نختار مصائرنا. اليوم أحزم حقيبتي للتوجه إلى المطار..أطفالي الثلاثة ينتظرونني، فقد غبت أسبوعاً كاملاً عنهم. أتلهف لرؤيتهم..ابتعت لهم بعض الأغراض التي يرغبونها، وهي عبارة عن دسكات تحتوي على ألعاب (x box) تخص فيصل ومبشر..أما صغيرتي نورهان فابتعت لها حقيبة جلدية جميلة..الصناعة الجلدية في المغرب على أعلى مستوى .. ومن يطأ أرض المغرب لن يقاوم شراء شيئا مصنوعاً من الجلد الطبيعي. كما حطّت بنا الطائرة قبل ستة أيام..ها هي تعود لتقلع من جديد عابرة السحب والفضاءات لتتجه إلى مطار طرابلس الدولي، محمّلة بالحلويات المغربية التي يبتاعها المسافرون الليبيون عادة أثناء عودتهم لتقديمها هدايا لأحبائهم وأصدقائهم..كما أنها محمّلة بالذكريات المليئة الفرح والبهجة. ليبيا - فريدة المصري الكذبة البيضاء للكاتب! يغرف الكاتب مادته من الحياة، من الأمور العادية جداً والمألوفة جداً. لكنه لا يكتب هذه الحياة، لا يكررها، لا ينسخها، لا يصورها بالكاميرا. إنه يقيم حياة أخرى خاصة به، عالماً آخر فيه شيء من روحه، من ذرات وعيه وإحساسه وعلاقته بالأشياء، وهو ينجح في إقامة المزاوجة بين العالمين، الداخلي والخارجي، كلما كان مبدعا أكثر، إلى الدرجة التي تجعل من الصعب علينا كقراء أن نعرف أين تبدأ الحياة المعيشة وتنتهي الذات أو العكس. ولكن الكاتب، وهو يكتب، يفتري على الحياة، أي أنه يخترع حكايات لم تحدث، أو بتعبير مبتذل بعض الشيء، نقول إنه حين يكتب يقترف خطيئة الكذب. مرة سئل أحد الكتاب عن مصادر كتابته فرد بجواب يبدو للوهلة الأولى صادماً، حين قال إن الكذب هو أحد مصادر هذه الكتابة، ولكي نمتص بعض هذه الصدمة علينا الذهاب إلى الشرح الذي يليها، يقول الكاتب إنه منذ كان طفلاً كانت لديه مقدرة على الكذب أمام والديه وأهله، حين يسألونه عن سبب تأخره في العودة إلى البيت ولا يريد أن يذكر السبب الحقيقي لأنه يدرك أنه سيغيظ الأهل، فيلجأ إلى تأليف حكاية محكمة التفاصيل، لا يكتفي بذكر سبب عابر في كلمة أو كلمتين كأن يقول كنت أمشى مع صديقي أمام «الترعة» مثلاً، وإنما يقدم حكاية مفبركة بإتقان فيها جوانب درامية لزم التأثير النفسي على الأهل، حيث يقعون تحت هذا التأثير للحكاية الدرامية وينشغلون أو ينسون التدقيق في أمر تأخره، فينجو من التعنيف. لكنه مع الوقت اكتشف في نفسه هذه المقدرة على تأليف أو اختراع الحكايات وسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها الشك حول أن الحكاية ليست حقيقية، بمعنى أنها لم تحدث حقيقة، أو أنها لم تحدث بالحذافير التي رواها هو، أي أنه انطلق من تفصيل صغير، واقعة صغيرة ما، حدثت وبنى عليها حكاية متكاملة، وسيتعلم صاحبنا بعد حين أن هذا «الكذب» ليس سوى المخيلة التي يعوزها الكاتب وهو يكتب، وسيدرك أيضاً أن هذا «الكذب» هو من الوجهة الإبداعية رديف الصديق الأدبي، رديف الموهبة، أي أنه لم يكن يملك هذه المقدرة على اجتراح واختراع الحكايات التي كان يخفي بها أمام والديه أسباب تأخره في العودة إلى البيت لما كان قد أصبح بعد كاتباً ورائياً حصراً. منذ فترة قدم بعض أبرز الروائيين العرب شهادات مكتوبة عن: «كيف تعلموا كتابة الرواية»، والطريف أن واحداً أو أكثر منهم اقترب من الإشارة إلى موضوع الكذب هذا، بل إن جمال الغيطاني، الروائي المصري، تحدث عن «الكذب الأبيض»، الذي برع فيه منذ طفولته، حين كان يخترع هو الآخر حكايات لأهله وأصدقائه عن أشياء لم تحدث أبداً، ولكن الملاحظ أن الكل أجمع على أن الموضوع يتصل بالموهبة، أي أن الكاتب لا يصير كاتباً مهما تعلم وقرأ إذا لم يكن قد ولد أصلاً وهو مبتلِ بجينات الكتابة، وهناك من شرح ذلك بالقول: بعض الناس يتمتع بموهبة الرسم، الكتاب يولدون بموهبة الكتابة، إنها عطية، نعمة. طبعاً كان بإمكانه أن يضيف أنها قد تتحول إلى نقمة، ولكن هذا حديث آخر. وأخشى ما يخشاه المرء أن يؤول الكلام على الكذب الذي أوردناه أعلاه على نحو غير النحو الطيب أو البريء الذي نعنيه. ذلك أنه ما من مبدع يوضع أمام امتحان الصدق مع الذات وأمام المتلقي كالكاتب. طبيعة الإبداع بالرسم أو بالموسيقى مثلاً تنطوي على فسحة أوسع من التجريد تسمح للمبدع بالتواري عن القول المباشر، التعبير المباشر، أما الكاتب فلا سبيل له، كي يستحق اللقب، إلا أن يغمس يديه في الماء الحار. وهو هنا أمام التحدي المركب أو المزدوج: أن يتعلم إزالة الحصى التي تعيق انسيابية ما يكتب ليصل إلى من يكتب، أي أن يتقن حرفته، أما الوجه الآخر للتحدي فأن يكون لديه من القوة والجلد ما هما كافيان لحمايته من الارتطام بالصخور التي تعترضه عند كل منعطف. حسن مدن * كاتب من البحرين