يكشف محمد الغلوسي، رئيس فرع الهيئة الوطنية لحماية المال العام بمراكش، في هذا الحوار الذي أجرته معه «المساء»، عن «خطة» بعض المتابعين في ملفات تتعلق بتبديد أموال عمومية للحصول على حكم البراءة من القضاء، ويطالب وزير العدل والحريات بتحريك ملف تعاونية الحليب وغيره من الملفات بغض النظر عن الانتماء الحزبي للمتورطين. كما يتحدث الغلوسي عن حقيقة تسريبات «البام»، وحقيقة ثروته وممتلكاته، وأشياء أخرى. - كيف ترى قرار النيابة العامة وقاضي التحقيق بمراكش بمتابعة قياديين حزبيين ومنتخبين في ملفات تتعلق بالفساد وتبديد أموال عمومية، سبق لفرع الهيئة الوطنية لحماية المال العام بمراكش أن تقدم في حقهم بشكايات؟ نسجل بارتياح المتابعات القضائية الجارية ضد بعض المسؤولين عن الاختلالات المالية، التي عرفتها الجماعة الحضرية لمراكش، في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة. ولكن لا يفوتنا في الوقت نفسه أن نبدي تخوفنا وقلقنا من أن تأخذ قضايا الفساد المالي بمراكش مسارا آخر. - ما أسباب ومؤشرات هذه التخوفات؟ يعرف الجميع في مراكش أن لوبي الفساد تمكن من نسج علاقات مصلحية وزبونية، أفقيا وعموديا، يستقوي بها، ويوظف كل الوسائل من أجل إفراغ المتابعات القضائية من أي محتوى، إلى حد أن المتهمين في قضايا الفساد المالي لم يتقبلوا قرارات قاضي التحقيق، القاضية بإغلاق الحدود في وجوههم، وسحب جوازات سفرهم، ووضعهم تحت المراقبة القضائية، فسعوا بكل الوسائل إلى نسفها، وإجراء تدخلات على مستويات متعددة، للتملص من المسؤولية الجنائية، والإفلات من العقاب، وهو وضع يراقبه الرأي العام المحلي والوطني، وسيشكل اختبارا حقيقيا لاستقلال القضاء ولخطاب الإصلاح. - من يجري هذه الاتصالات التي تحدثت عنها؟ مشكلتنا ليست مع الأشخاص، ومن يعتقد بذلك فهو واهم، ويسعى إلى شخصنة قضايا معقدة كالفساد ونهب المال العام. إن مشكلتنا الحقيقية مع الإفلات من العقاب، الذي لازالت مؤشراته مستمرة للأسف، رغم وعي الجميع بخطورة الفساد ونهب المال العام على مستقبل التنمية، والملفات التي تقدمنا بها إلى القضاء لا تشكل إلا جزءا ضئيلا من الفساد، الذي يعتري السياسات العمومية بالجهة، أما ما خفي فأعظم. وعلى كل حال، نحن نتابع هذا المسار، وسنقوم بتقييمه في اللحظة المناسبة، ونستخلص منه العبر والدروس، وسنفضح أي انحراف يتعرض له هذا المسار. لذلك نريد أن نقول للجميع كفى من الفساد ونهب المال العام. نريد مغربا جديدا يتسع لكل المواطنين، مغرب الحرية والكرامة. - هل المسيرة التي تعتزم التنسيقية الجهوية لمناهضة الفساد تنظيمها تدخل في نطاق عملية الفضح هذه؟ تشكلت مؤخرا التنسيقية الجهوية لمناهضة الفساد بجهة مراكش، وهي تضم هيئات وازنة، نقابية وحقوقية وسياسية ومدنية وإعلامية، وسطرت برنامجا نضاليا طويل الأمد، يهدف إلى مناهضة الفساد والقطع مع الإفلات من العقاب، والمطالبة باسترجاع الأموال المنهوبة. وهو برنامج يهدف أيضا إلى استعادة زمام المبادرة الجماهيرية. ولذلك فإن التنسيقية ستنظم يوم الأحد 19 يناير المقبل بمراكش مسيرة شعبية ضد الفساد ونهب المال العام تحت شعار «لا للفساد ونهب المال العام، نعم للديمقراطية والعدالة». وهي الخطوة الأولى في مسار التنسيقية، التي ستطالب بمحاكمة المتورطين في جرائم الفساد المالي، ووضع إستراتيجية وطنية للوقاية من الفساد، مع اتخاذ إجراءات وآليات تشريعية وقضائية لضمان استرجاع الأموال المنهوبة لتوظيفها في خدمة التنمية، عوض الزيادة في الأسعار وإرهاق كاهل شرائح واسعة في المجتمع، وهو الشيء الذي أفلحت فيه الحكومة إلى حدود الآن. - لكن الملاحظ أن «حمى» الشكايات والمتابعات اقتصرت على مراكش دون باقي المدن الأخرى. ألا يثير ذلك الشك والريبة حول خلفيات هاته المتابعات والجهات التي تحركها؟ بعض المتابعات القضائية لها علاقة بالفساد المالي بمدن أخرى، ونسمع عن متابعات قضائية تجري ضد بعض المسؤولين بكل من الدار البيضاء وفاس والرباط، التي توجد بدائرتها محاكم زجرية خاصة بالمال العام. وقد تميزت مراكش عن باقي المدن في هذا المنحى، وذلك راجع لعدة أسباب، من بينها الدينامية النضالية، التي استطاع فرع الهيئة الوطنية لحماية العام بالمغرب خلقها بالمدينة، من خلال استجماعه تقارير ومعطيات ووثائق تكشف عن حجم الفساد المستشري بالمدينة، وتنظيمه أشكالا نضالية متعددة، إضافة إلى تجاوب القضاء مع الشكايات المقدمة، دون أن نغفل الدور الإيجابي الذي قام به الإعلام في هذا المسار. ونتمنى أن تسير هيئات المجتمع المدني بمختلف المدن على نفس المنوال، وأن تقدم شكايات إلى القضاء، خاصة أن هناك تقارير للمجلس الأعلى للحسابات في هذا الشأن تتضمن وقائع ومعطيات ذات صبغة جنائية لم تتم إحالتها على القضاء إلى حدود الآن. - ألا تقف فاطمة الزهراء المنصوري، عمدة مراكش، ومعها حزب الأصالة والمعاصرة، خلف هذه التسريبات والتحركات ضد خصوم حزب «التراكتور» من أجل إزاحتهم عن دائرة التنافس السياسي؟ هذه إشاعة من بين الإشاعات الكثيرة، التي استهدفت الهيئة، وأريد أن أؤكد لكم بأن الهيئة مستقلة عن أي حزب أو أي جهة، وهي عصية على أن توظف من طرف أي كان في تصفية حسابات سياسية، مع أنك تعلم جيدا أن الهيئة قدمت شكايات ضد قيادات تنتمي إلى حزب الأصالة والمعاصرة، وتمت متابعتها قضائيا، وطالبنا أكثر من مرة بالاستماع إلى إفادات فاطمة الزهراء المنصوري، بصفتها رئيسة المجلس الحالي. كما طالبنا بأن تتحمل مسؤوليتها من خلال انتصابها طرفا مدنيا بخصوص قضايا الفساد المالي، وهو الموضوع الذي تتهرب منه، ويشكل لها حرجا مع أغلبية المجلس، التي أصبحت متابعة قضائيا، وتهربها هذا يضعها أمام مسؤولية قانونية، ذلك أن المال العام الذي تعرض للتبديد هو ملك للمدينة، وهو ما يفرض عليها حمايته وإلا تعرضت للمساءلة. - بالرغم من الشكايات التي قدمتها الهيئة الوطنية لحماية المال العام بمراكش ضد بعض قياديي حزب «البام»، فإن ملف تعاونية الحليب الجيد، الذي له علاقة بأحد مسؤولي الحزب، لم يبرح مكانه لدى الجهات القضائية. إِلامَ يرجع ذلك في نظرك؟ ملف تعاونية الحليب الجيد من بين الملفات، التي تقدمنا بشكاية في شأنها، وهناك ملفات أخرى لازالت لم تراوح مكانها كملف الضريبة على الأراضي الحضرية غير المبنية، وملف العمارات المجاورة للإقامة الملكية، والاختلالات التي اعترت بناء سوق الجملة للخضر والفواكه الجديد، وجمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي وأعوان الجماعة الحضرية لمراكش، والاختلالات المالية التي عرفتها بلدية الصويرة، وجماعة تمصلوحت... إلخ. ونحن نطالب وزير العدل والحريات، بصفته رئيسا للنيابة العامة، بأن يتحمل مسؤوليته، وأن يحرك المياه الراكدة، تحقيقا للحق والعدالة، وأن يعمل على تسريع الأبحاث التمهيدية، وتحريك المتابعات القضائية ضد كل المتورطين في قضايا الفساد المالي، بدون انتقائية وبغض النظر عن انتمائهم الحزبي. - يتهمك البعض بأنك تسعى من خلال هذه الشكايات إلى إيجاد موطئ قدم في الانتخابات، وكسب شهرة وشعبية أكثر لدى الرأي العام المحلي والوطني، خاصة أنك محام بهيئة مراكش. الإشاعات ضدنا لا تتوقف، فكل يوم أسمع شخصيا إشاعة مثيرة للضحك، وهذه ضريبة النجاح نتقبلها بصدر رحب. فالهيئة أصبحت تشكل بالمدينة رقما يصعب تجاوزه أو تجاهله، وخلقت نقاشا عموميا غير مسبوق حول تخليق الحياة العامة والتحسيس بمخاطر الفساد، وأصبح صداها يتردد وطنيا، واكتسبت مصداقية وسط الرأي العام. ونحن مناضلون وتاريخنا معروف، ولم «يقطر بنا السقف»، ونحن لسنا نكرة، ولا نسعى من وراء نضالنا إلى أي كسب انتخابي أو شهرة مزيفة، فالأشخاص بقدراتهم وطاقاتهم هم الذين يمنحون الإطارات قيمة مضافة، وليس العكس، وطريقنا لا يوصل إلى المقاعد الانتخابية، بل يجر علينا متاعب ومخاطر نحن واعون بها، كما أن السعي إلى الظفر بمقعد انتخابي لا يشكل أي إغراء بالنسبة إلينا، والجميع يعرف المسالك والممرات الموصلة إلى المقاعد الانتخابية. - لماذا اقتصرت الشكايات التي تقدمت بها الهيئة على المؤسسات المنتخبة، دون غيرها؟ وأين تكمن مسؤولية وزارة الداخلية الوصية في ذلك؟ على العكس من ذلك، نحن تقدمنا بشكايات لا علاقة لها بالمؤسسات المنتخبة، وإذا كانت أغلب الشكايات لها علاقة بالمجلس الجماعي فذلك راجع إلى الوثائق والمعطيات التي نتوفر عليها، والتي ترتبط في مجملها بتلك المؤسسات. - هذا يعني ضمنيا أن هناك جهات داخل المجلس الجماعي لمراكش تسرب لكم الوثائق والمعطيات؟ لقد قمت بالرد على هذه النقطة بشكل واضح. - لكنك اعترفت قبل قليل بحصولكم على وثائق ومعطيات من المجلس الجماعي. هذه إشاعة من الإشاعات التي لاتنتهي. لقد اعتمدنا على تقرير المجلس الجهوي للحسابات بخصوص نفس الموضوع، ونحن لن نتردد في تقديم شكايات لها صلة بمؤسسات عمومية أو شبه عمومية متى توفرت لدينا الحجج والوثائق الكافية، التي تفيد قطعا بوجود مظاهر الفساد ونهب المال العام، وأنت تعرف أن القضاء يتعامل بالأدلة وليس بالكلام، الذي يروج في الشارع العام. أما بخصوص وزارة الداخلية فإنها مسؤولة عن الفساد المستشري بالمؤسسات المنتخبة. وللأسف الشديد، فإن البحث القضائي بخصوص شكايات الفساد المالي بمراكش لم يذهب إلى أبعد الحدود، ولم يسائل الولاة والعمال المتورطين في جرائم الفساد المالي. كما أن المتابعات القضائية لم تشمل هؤلاء المسؤولين السامين، وهو ما يؤكد بأننا لا زلنا بعيدين عن دولة الحق والقانون. لذلك فإننا نجدد طلبنا بخصوص الاستماع إلى مسؤولي وأطر وزارة الداخلية، باعتبارها، من الناحية القانونية، مسؤولة ووصية على الجماعات المحلية، ولا يجب تحصينها من المساءلة والمحاسبة تجسيدا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. - ما السبب في ارتفاع وتيرة شكايات حماية المال العام بمراكش في ظل وجود آليات رقابية متعددة؟ هل لذلك علاقة بضعف هذه الأجهزة؟ هناك تعدد وتداخل لاختصاصات مختلف الأجهزة الرقابية على المال العام، الشيء الذي لا يساعد على ضمان النجاعة بخصوص حماية المال العام من أي تبديد أو اختلاس. والمشكلة التي نواجهها في هذا الإطار هو أنه رغم وجود آليات إدارية وقضائية فإن أدوارها تبقى محدودة وضعيفة، ولا ترقى إلى المستوى المطلوب، ناهيك عن غياب إرادة سياسية حقيقية لمناهضة الفساد ونهب المال العام. وهنا لا يفوتني بكل موضوعية أن أسجل الدور الذي تلعبه المجالس الجهوية للحسابات وكذا المجلس الأعلى للحسابات، الذي يتوفر على قدرات وكفاءات مهنية مهمة، وهو يتعرض لما سبق أن تعرضت له هيئة الإنصاف والمصالحة، ذلك أن التيار المناهض لأي إصلاح في الدولة والمجتمع يواجه هذه التجربة الفتية من خلال عرقلة مسارها، بتبديد وإتلاف الوثائق وعدم التجاوب مع ملاحظاته، رغم أن تجربته لا تخلو من انتقادات وملاحظات جوهرية تحتاج إلى إثارتها، والعمل على جعله مؤسسة دستورية تحظى بصلاحيات واسعة في المراقبة والمتابعة. - بمناسبة حديثك عن التضييق والعرقلة، ألا تواجه الهيئة الوطنية لحماية المال العام بمراكش بدورها مضايقات في نشاطها وتحركاتها؟ لقد استنتجنا، من خلال تجربتنا المتواضعة في مجال مناهضة الفساد ونهب المال العام، كم هي كبيرة الصعوبات التي تواجه عملية الإصلاح، وتجعلها عملية معقدة، تحتاج إلى نفس نضالي طويل، والمضايقات التي نتعرض لها مظهر من مظاهر هذه التعقيدات، فأنت تعرف أن لوبي الفساد مارس مضايقات وتهديدات معلنة ومبطنة ضد نشطاء الهيئة والإعلاميين، بل إن تلك المضايقات والتحرشات لم يسلم منها حتى القضاء، فالمفسدون يعتقدون بأن القانون وضع فقط كسيف على رقاب البسطاء من أبناء الشعب. - هل يمكن أن تكشف لقراء «المساء» عن وقائع لمضايقات وتحرشات من أسميتهم رموز الفساد ضد نشطاء الهيئة والإعلاميين والجسم القضائي؟ لقد سخر لوبي الفساد ومن يدور في فلكه كل الإمكانيات من أجل المس بنشطاء الهيئة والتشهير بهم، وخاصة شخصي المتواضع كرئيس للهيئة. وعلى سبيل المثال فقد روجوا بأنني حصلت على فيلا فاخرة من مؤسسة عمومية بمنطقة تسلطانت، وأخرى بالصويرية نواحي مدينة آسفي، وأنني حصلت على بقع أرضية، واقتنيت مكتبا للمحاماة، وسيارة فاخرة بطرق ملتوية، وأنني سافرت إلى فرنسا على نفقة رجل الأعمال ميلود الشعبي. كما عمد لوبي الفساد إلى طبع منشورات ومطبوعات توزع مجانا بالمدينة تشير إلى أنني متهم بخيانة الأمانة والنصب، وأن هناك شكايات ضدي لدى الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف، وأخرى لدى نقيب الهيئة، وعملوا على توزيع تلك المطبوعات على زبنائي. هذا فقط غيض من فيض، وهذه كلها إشاعات لا تنتهي. والهدف من وراء ذلك كله هو تحريف معركة النضال ضد الفساد بالمدينة عن مسارها الصحيح ومحاولة شخصنتها وخلق تشويش وبلبة لدى الرأي العام. وهو أمر لم ولن يفلحوا فيه، فعزيمتنا وإصرارنا أقوى من دسائسهم ومناوراتهم. كما أن لوبي الفساد حاول أيضا شق صفوف الإعلاميين بالمدينة لكونه يعرف أن الإعلام لعب دورا مهما في هذه المعركة، لذا عمد إلى الاتصال ببعض مدراء الجرائد الوطنية، ومحاولة تسويق صورة الضحية، متهما الصحفيين محليا بكونهم غير محايدين ولا يتمتعون بالنزاهة المطلوبة، بل إن البعض تجاوز كل الحدود ونظم وقفة احتجاجية أمام مقر جريدة وطنية. أما على المستوى القضائي، فهناك معطيات حول وجود محاولات للتأثير على القضاء والتشويش على عمله من خلال تحركات سرية وخرجات إعلامية مخدومة، تهدف إلى ربح الوقت وتحويل معركة الفساد المالي بالمدينة إلى قضايا روتينية، بل إن هناك من بدأ بإصدار أحكام بالبراءة حتى قبل أن تنطلق المحاكمة. - في التصريح الحكومي قال عبد الإله بنكيران إن الحكومة عازمة على محاربة الفساد، ومحاسبة ناهبي المال العام. هل تلمس فعلا وجود هذه الإرادة الحكومية في التعاطي مع العديد من الملفات؟ لقد رفع حزب العدالة والتنمية، الذي يشكل قطب هذه الحكومة، شعار مناهضة الفساد والاستبداد أثناء حملته الانتخابية. وقد استمر هذا الشعار بأشكال مختلفة في بداية تشكيل الحكومة في نسختها الأولى، إلا أننا بدأنا نسمع بعد ذلك «عفا الله عما سلف»، ولم تعد قضايا تخليق الحياة العامة والحكامة ومناهضة الفساد وعدم الإفلات من العقاب تشكل أولوية للحكومة، رغم أن المغرب صنف مؤخرا ضمن الرتبة 91 ضمن مؤشر الرشوة الذي تعتمده المنظمة العالمية للشفافية «ترانسبرانسي» بعدما كان يحتل الرتبة 88. - ألا يمكن اعتبار الأحزاب هي الأخرى طرفا في الفساد ومسؤولة عنه بشكل مباشر أو غير مباشر؟ لغة التعميم في هذا المجال ضد المنطق وحقائق الأشياء، إذ هناك فعلا بعض الأحزاب، التي ساهمت ولازالت في توسع مظاهر الفساد والريع ببلادنا. وهناك قيادات حزبية متابعة اليوم بتبديد ونهب أموال عمومية. ويظهر فساد بعض الأحزاب، خاصة أثناء الانتخابات وتشكيل الأغلبيات في المجالس المحلية أو في البرلمان. - لا شك أنك تشير إلى الأحزاب التي تصنف ضمن خانة «الإدارية». لكن ألا ترى أن بعض الأحزاب اليسارية مسؤولة بدورها عن هذا الفساد، إذا ما أخذنا مراكش نموذجا؟ التاريخ يشير إلى حقائق موضوعية يصعب على أي كان تجاهلها، فهناك أحزاب استفادت من الريع والفساد، ووظفت لخدمة أجندة المخزن، وهذه أشياء أصبحت معروفة لدى الجميع، وهناك أحزاب وطنية وديمقراطية تأسست على أرضية مناهضة الفساد والاستبداد ومن أجل الديمقراطية والعدالة، والمسؤول في نظري عن الفساد المستشري في دواليب ومؤسسات الدولة والمجتمع هو غياب الديمقراطية ودولة الحق والقانون واستقلال القضاء. - لكن ألا ترى أن المغرب قطع أشواطا من أجل الانتقال إلى الديمقراطية والقطع مع سياسة الريع والفساد من خلال اعتماد دستور جديد يعزز الحكامة ويربط المسؤولية بالمحاسبة؟ لا يمكن لأي متتبع موضوعي أن ينكر وجود بعض الإصلاحات، التي مست مختلف الجوانب، خصوصا خلال العقد الأخير، سيما ما يتعلق بحقوق الإنسان (حرية الإعلام، حقوق المرأة، الأمازيغية...)، البنيات التحتية، حدوث تقدم في مجال تنظيم وإجراء الانتخابات، إنشاء مؤسسات الوساطة...، إلا أن تعميق هذه الإصلاحات يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية وجبهة سياسية واجتماعية ضاغطة لكون الماضي لا زال يلقي بثقله على الحاضر من خلال الاستمرار الضخم لمؤشرات الاستمرارية مقابل ضعف مؤشرات الانتقال والتغيير. وقد تجلى ذلك بوضوح أثناء معركة التنزيل الديمقراطي للدستور، ومن خلال استمرار كل التقاليد والأعراف والطقوس اللادستورية المكبلة لعملية الانتقال الديمقراطي، والتي لم تترك مجالا لنَفَس الإصلاح، الذي تختزنه بعض مواد الدستور الجديد، وهو وضع يساهم فيه أيضا ضعف وهشاشة النخب الحزبية والسياسية. - لكن في ظل الوهن الذي أصاب الجسم اليساري، ألا ترى بأن عملية الإصلاح تبدو أكثر تعقيدا؟ إن الوضع الذي تعيشه الأحزاب الديمقراطية واليسارية يعتبر من بين الإشكالات التي تواجه المشهد السياسي وعملية الانتقال الديمقراطي. ذلك أن هذا الضعف والتراجع تستفيد منهما، بالدرجة الأولى، القوى المحافظة والمناهضة لأي إصلاح، سواء كانت في الدولة أو المجتمع. لذلك فإن سؤال وضع اليسار يتطلب فتح نقاش عميق بين مختلف أطيافه من أجل تحويل اليسار إلى قوة سياسية واجتماعية بمشروع واضح، يهدف إلى إقامة ملكية برلمانية، بعيدا عن أي نزعة ذاتية ضيقة أو مزايدات لا طائل منها. على اليسار أن يتحلى بالواقعية المطلوبة والشجاعة السياسية، وأن يستخلص العبر والدروس من تجاربه المريرة. كما عليه أن يستثمر كل عناصر القوة التي يتوفر عليها لبناء قطب يساري ديمقراطي لمواجهة تحديات المرحلة الراهنة.