رغم أنها مجرد جسم دائري الشكل «منفوخ» بالهواء، فإنه قادر على أسر جوارح الناس والتلاعب بعواطفهم وتحويلهم إلى سكارى وما هم بسكارى.. هذا هو سحر الكرة الذي يتجاوز مفعوله حدود منطق الأشياء، ويسحب البساط من تحت أقدام رجال الفكر والسياسة والفن، فيحولهم في تسعين دقيقة أو أكثر إلى كائنات تدين بالولاء للاعب محبوب جماهيريا حين يداعب الكرة قبل أن يتخلى عنه الجميع عندما يطلق الكرة أو تطلقه. توقفت عقارب الزمن السياسي والفكري وألغيت كثير من المواعيد الكبرى بسبب كأس العالم للأندية، فقد كان الناس يرفعون ابتهالاتهم إلى الله ويرفعون عيونهم في خشوع إلى السماء مترقبين مجيء غيمة داكنة بعد تأخر سقوط الأمطار، لكنهم قرروا إقامة صلاة الاستسقاء طلبا لانتصارات الرجاء، بعد أن مسحت الكرة أحزان الفلاحين والرياضيين على حد سواء. ولأن كأس العالم للأندية كالحق يعلو ولا يعلا عليه، فقد عرفت الكثير من المناظرات الفكرية عزوفا جماهيريا، ذنبها أن تزامن تنظيمها مع مباريات الرجاء في مونديال الأندية؛ بل إن خرجات قيادات حزبية لم تجد لها الصدى الإعلامي المرغوب لأن الموعد الكروي ألغى الكثير من المواعيد السياسية ورمى بها خارج صفحات الإعلام. طالب ادريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بمراجعة أحكام الإرث ومارس هجوما على مدونة الأسرة، لكن ذلك لم يثر زوبعة إعلامية، والسبب أن الجماهير كانت تطالب بلاتير بمراجعة مدونة الكرة. في غمرة السجال الكروي، رفض مجلس المستشارين الموافقة على الشطر الأول من مشروع القانون المالي ل2014، وفازت المعارضة على الأغلبية في مباراة التصويت، لكن فوزها لم يلق رواجا إعلاميا لأن الفوز الحقيقي الذي أخرج الجماهير إلى الشارع في عز قساوة البرد هو ذاك الذي سجل بأقدام اللاعبين لا بأصوات البرلمانيين؛ بل إن مباراة سياسية مؤجلة شهدت عزوفا سياسيا غير مسبوق، هي مباراة انتخاب رئيس مقاطعة سباتة، حيث أجريت بأقل عدد من الناخبين ثم انتهت بهزيمة كريم غلاب، رئيس مجلس النواب، في صمت رهيب أمام منافسه عزيز حسن.. فلم يكن من الاستقلالي إلا أن ابتلع الخسارة على مضض ملقيا باللائمة على الكرة التي حكمت على الانتخابات بالعزوف الجماهيري؛ وحتى خرجة الزعيم الاستقلالي ضد العدالة والتنمية والتي اتهم فيها حميد شباط الحزب الحاكم بتلقيح التيار المعارض له، لم تجد لها صدى لأن كل الأضواء كانت مسلطة على مراكش؛ بل إن سحب الباراغواي اعترافها بجبهة البوليساريو ونجاح «البام» في تحقيق مكسب سياسي نيابة عن الحكومة، لم يجد كذلك لدى عشيرة السياسيين أثره ولم يسجل في صحيفة حسنات إلياس العماري، فقط لأن المونديال يعلو ولا يعلا عليه. خلت كراسي مسارح المملكة من الجماهير، لأن لجنة دعم الفرق المسرحية اعتقدت، خطأ، أن برمجة مباريات المونديال لا تفسد للفرجة قضية، قبل أن تقف على حقيقة راسخة تسحب الأبوة من تحت أقدام المسرح وتقول إن الكرة أم الفنون وأبوها؛ بل إن محاضرات فكرية لم تشفع أسماء منشطيها في استقطاب من أخطأ الموعد مع الكرة وعانت من عزوف ونقص حادين في سجال العقل. الآن وقد جمع المونديال أغراضه وتفرق الجمع واستعادت ساحة جامع لفنا سحنتها الحزينة، فإن لسان حالنا يردد لازمة منشطي برامج الفضائيات «فاصل ونواصل».. نواصل لأن الحياة مستمرة وأهالي مراكش يعولون على هبة رأس السنة واستبدال أحمر الفريق البافاري بأحمر بابا نويل وأحمر الشفاه والنبيد في ليالي المدينة الحمراء. توقفت الكرة عن الدوران حول نفسها وحول عشاقها، وتخلصت الصحف الورقية من زحف الرياضة، وبدا ملعب مراكش وحيدا كمزار مهجور؛ لكن الحياة لم تتوقف عند حدث رياضي، فالآن قد يستعيد المشهد السياسي النقاش حول الميزانية المصادرة، ويتجدد حديث الفساد وينتظر الفلاحون إشارة من وزارة الأوقاف لاستجداء المطر واستبدال البرد بالغيث، وتستأنف الدراسة بعد استصدار عفو شامل على كل التلاميذ المتغيبين بسبب وجودهم في موقع الحدث بأكادير ومراكش، وتستفز العلبة الصوتية للهواتف المحمولة أصحابها الذين لطالما التمسوا من أمهاتهم دعما ماليا بسبب طول مقام الرجاء في المونديال، ستحرض الشركة صوتا نسويا كي يشعر المشتركين بنفاد الرصيد وعدم استجابة الأم للطلب، حينها تعود حليمة إلى عادتها القديمة وتعود الكرة إلى الدوران في ملاعب قد تلتحق بالمخطط الأخضر بعد أن أصبحت تربتها صالحة لزراعة البطاطس. خسر نادي الرجاء كأس العالم وفاز بقلوب الناس، وتحولت مراكش إلى عاصمة للعالم، وتبين أن الكرة هي الكائن الديمقراطي الوحيد في العالم لأنه يجعل الغني والفقير متساويان في الفرح والحزن، ويحول أكابر القوم إلى أطفال يفرحون ويبكون من أجل قضية اسمها الكرة. حتى في خطب الجمعة، خرج كثير من الخطباء عن النص، وانخرط المصلون في شأن الكرة، فوجدوا أنفسهم يجددون الدعوة لياجور الرجاء بالدقة والتركيز ويتمنون لريبيري البايرن «سوفل» مدخني سيجارة «ماركيز».