عندما يلتقي المنتخبان المغربي والجزائري، في مباريات ودية أو رسمية، تقفز الحمرة إلى الخدود انفعالا، وتتسارع نبضات القلب هلعا، ويستعجل الناس نهاية المباراة لمعرفة من يكون الفائز في مباريات ظلت دائما كأنها معارك جانبية تكمل ما بدأته السياسة، وفي كل مرة ينتصر فيها منتخب على آخر يكون ذلك بمثابة انتصار سياسي أكثر مما هو انتصار كروي. وفي تلك السنوات البعيدة، عندما انتصر المنتخب الجزائري على المنتخب المغربي بخمسة أهداف في المغرب، كان ذلك بمثابة نكسة وطنية حقيقية، وكثير من الناس بكوا تأثرا بتلك الهزيمة المشينة. والحقيقة أن تلك الهزيمة لم تكن لتكتسب كل ذلك الوقع لولا ثقل السياسة ومشاكل الجوار. مباريات الكرة بين المغرب والجزائر تحولت إلى ساحات وغى مباشرة بعد سنة 1975، أي أن مشاكل السياسة قفزت رأسا نحو ملاعب الكرة، وصارت الهزيمة أو الانتصار في مباراة بين المنتخبين بمثابة انتصار أو هزيمة في السياسة، بل أحيانا يكون الوقع أكبر بكثير. وقبل سنوات قليلة، عندما كان منتخب المغرب تحت إمرة المدرب البلجيكي غيريتس، حقق المنتخب المغربي انتصار قويا على الجزائر في ملعب مراكش بأربعة أهداف نظيفة، فعاد الناس فورا بذاكرتهم إلى تلك الأيام البعيدة، زمن مباراة الخمسة أهداف، واعتبروا انتصار مراكش ردا منصفا لديْن جزائري قديم، إلى درجة أن المدرب غيريتس صار يتصرف بعدها كأنه جنرال عسكري خارج التصنيف. لكن الأشياء تبدو مختلفة تماما في مناسبات أخرى؛ فعندما يلعب المنتخب المغربي أو الجزائري، في فرنسا مثلا، مباريات ودية أو رسمية، حيث الوجود القوي للمغاربة والجزائريين، فإن الجمهوران الجزائري والمغربي يكونان واحدا، ويمتزج العلمان المغربي والجزائري بشكل مذهل، وتتناسق الشعارات والنبرات والحسرات، ويحدث أن يحمل الجزائريون أعلاما مغربية ويحمل المغاربة أعلاما جزائرية، وحين يسجل لاعب هدفا، جزائريا كان أو مغربيا، يهتز الجميع فرحا، مغاربة وجزائريين. أتذكر أياما في تونس، حين كنت أركب سيارة أجرة فأدردش مع السائق الذي يسألني فورا حول ما إن كنت مغربيا أو جزائريا، ويقول إنه لا يستطيع التفريق بين اللهجتين المغربية والجزائرية، فأحزن لكل هذه المشاكل التي تريد أن تفرق شعبين يبدوان موحدين في كل شيء. هناك تجارب يحكيها مغاربة وجزائريون كثيرون، عندما يلتقون في مكان ما، فيحسون بانجذاب خاص نحو بعضهم البعض كأنهم إخوة دم فرقت بينهم عوادي الزمن، فيحاول كل منهما أن يكرم الآخر حتى لا يْنسى لقاءهما أبدا. أتذكر منذ سنوات طويلة، عندما كنا نبقى حتى ساعات الصباح نستمتع بصيف مدريد المنعش، هربا من نهاره القائظ، في جلسات بطلها صديقنا الجزائري شفيق، عازف القيثارة الأنيق، فنجتمع في «قمة ليلية» دائمة، تدندن فيها القيثارة بأغان مغربية وجزائرية، بدءا ب»يا عمي بلقاسم» والأغنية الأمازيغية الجميلة «آبابا إينوفا»، وانتهاء ب»الشمعة» و»مرسول الحب». كنا وقتها في إقامة تجمع طلبة من جنسيات كثيرة، وكان الطلبة العرب كثيرا ما يفغرون أفواههم دهشة حين يروننا، مغاربة وجزائريين، نردد نفس الأغاني والدعابات، وكأنهم رأوا الإنس والجن في جلسة واحدة. ومرة التقيت بجزائري في الرباط، كان يحدثني والدموع تنحبس في عينيه، وسألني عن سر الحفاوة التي يلقاها في كل مكان في المغرب. لم أجد له جوابا، لكنه أجاب نفسه حين قال إن المغاربة يلقون نفس الحفاوة في الجزائر. لزمن طويل ظل المغرب والجزائر كأنهما بلد واحد، ولوقت طويل نزح مغاربة وجزائريون في الاتجاهين؛ وعندما استعمرت فرنسا الجزائر، سنة 1830، لم يجد جزائريون كثيرون أفضل من المغرب مقرا وموطنا، فصاروا اليوم مغاربة أبا عن جد. واليوم، على طرفي الحدود بين البلدين، الناس يلوحون لبعضهم البعض ولا يتراشقون بالحجارة، ورابح درياسة والشيخ العنقة ونورا الجزائرية وإيدير والهاشمي القروابي هم مغاربة في اعتقاد كثير من عشاقهم المغاربة، ورويشة وناس الغيوان وجيل جيلالة والحاجة الحمداوية وعبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط هم جزائريون في اعتقاد كثير من عشاقهم الجزائريين. في المغرب والجزائر نتقاسم التاريخ والدم والمصير، نتقاسم أيضا الشتائم التي يرميها نحونا «إخواننا» المشارقة الذين يرون فينا مجرد «رْباعة بربر» علمونا العربية ثم تمردنا عليهم. نتقاسم بطولات الأمير عبد القادر والأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وبطولات المقاومين ودماء الشهداء. نتقاسم، أيضا، مركزا حدوديا مقفلا بين وجدة ومغْنية يسمى «جُوجْ بْغال».. ولا حول ولا قوة إلا بالله.