عندما فتح ادريس الخوري عينيه على هوامش الدار البيضاء، كان والده «التروبادور» (عازف الوتر) قد عزف عن الحياة ولحقت به أمه في نفس السنة، فتكفل أخوه بتربيته ورسْمِ حياته: علمه القرآن، الذي حفظه وهو في ال13 من عمره، واختار له «الكص» اسما عائليا. لكن الشاب ادريس مزق إطار أخيه وعاد إلى حياة والده التي عثر عليها في الأدب و»الحياة المحرمة»، واختار اسم «ادريس علال» ثم «الخوري» الذي يحيل على عائلة لبنانية اشتهرت بالأدب والموسيقى. فوق كرسي اعتراف «المساء»، يحكي «بَّا ادريس» كيف اجتاز امتحانات الشهادة الابتدائية له ولأحد أصدقائه فرسب هو بينما نجح صديقه، فأصبح الناجح شرطيا، والراسبُ كاتبا مشهورا سيقدِّم محمد بنعيسى، عندما كان وزيرا للثقافة، كتاباته إلى نجيب محفوظ، قائلا: هذه أعمال أهم كاتب قصة في المغرب. وعلى كرسي الاعتراف أيضا، سوف نغوص داخل «الوقائع الغريبة» لعلاقة الخوري بالكتابة والحياة رفقة صديقيه: محمد زفزاف الذي يعتبره روائيا كبيرا لم ينل حقه من الاعتراف، ومحمد شكري الذي يقول إنه كان كذابا ووقحا وأنانيا.. ومن عمق ذاكرته القوية، يحكي «با ادريس» عن طرائف علاقته بالصحافة والرياضة والمسرح والسينما.. وحكاياته مع «أدب القذافي» و«ساعة صدّام حسين». - حدثنا عن ولادتك ونشأتك.. ازددت في درب غلف بالدار البيضاء، في نهاية سنة 1939. والدي من أصول دُكالية، من العونات، وأمي داودية من منطقة كيسر في نواحي سطات. - ماذا كان يشتغل والدك؟ قيل لي إن والدي كان «تروبادور» (التروبادور هم شعراء جوالون عاشوا في الجنوب الفرنسي بين القرنين ال11 وال13، كانوا يغنون أشعارهم باستعمال آلات موسيقية). لقد كان والدي يغني ويعزف على «كمبري» ويتجول بين الأسواق. لقد نشأت يتيم الأبوين، ولا أتذكر أبي ولا أمي، فقد توفي كلاهما وأنا لم أتجاوز سنتي الأولى، وتركا عائلة من خمسة أفراد: السي محمد، وعبد القادر وفاطنة، وصالح، وأنا آخر العنقود. أنا، بعدما توفيت أختي، كبرت في كنف أخي الكبير السي محمد الذي كان عاملا في ميناء الدار البيضاء، فيما تكفل أخي عبد القادر بتربية أخي صالح الذي أصبح نجارا يشتغل مع كبرى الشركات الإيطالية في حي المعاريف. لقد تقاسم السي محمد وعبد القادر مأساتنا العائلية. - أخوك السي محمد هو من سيختار اسم عائلتكم، المثبت في الوثائق الإدارية: «الكص»؟ نعم، وقد وقع اختياره على هذا اللقب لأنه كان معجبا بأحد الممثلين المصريين يحمل اسم «الجص». وعندما اعتمد المغرب نظام الحالة المدنية اختار أخي السي محمد هذا اللقب كنية لعائلتنا. - كيف عشت، خلال الأربعينيات والخمسينيات، سنواتك الأولى في حي درب غلف الشعبي، المتاخم لحي المعاريف الأوربي؟ درب غلف هو حي تشكل من البدو القادمين من قبائل دكالة وعبدة واولاد احريز.. فكان خليطا من مهاجرين استقروا في هذا الحي، وفيه بنوا دورا صغيرة وبعض الخيم. في وسط درب غلف، كان يصب نهر يأتي من سيدي مسعود؛ وبجوار الحي، كان هناك حي شعبي آخر اسمه «قطع ولد عيشة» كان يقطنه عمي... - كيف كانت دراستك الأولى؟ في المسيد، حفظت القرآن الكريم «خرّجت السلكة»، وعمري 13 سنة. - المعروف أن «المحضري» الذي يحفظ القرآن كاملا يكون قد تنقل بين عدة مساجد. في كم «مسيدا» درست؟ درست في «جوج مسايد»، «المسيد» الأول كان في زنقة واطو المؤدية إلى المعاريف، و»المسيد» الآخر كان يوجد في زقاق قريب من المسجد. وقد كان يشرف على التعليم في «المسيد» الأول فقيه اسمه السي الفاطمي. وفي السابعة عشرة من عمري، التحقت بالمدرسة العصرية في شارع الفِداء بدرب السلطان الذي كان يسمى «بولفار سويس». وبما أنني كنت متمكنا من القراءة والكتابة، فقد تم إلحاقي مباشرة بالقسم الخامس ابتدائي، لكني اجتزت امتحانات الشهادة الابتدائية فرسبت. - لماذا؟ لأنني كنت ضعيفا في الحساب.. لقد كانت لي ذاكرة قوية في الحفظ. في هذه المرحلة، نهاية الخمسينيات، كانت الوظائف العمومية متاحة بعد الحصول على الشهادة الابتدائية. اجتزت امتحانين، واحد لي، وآخر لصديق لي في درب غلف، كان يسكن رفقة أمه في «براكة»، بحيث وضعت على ورقة الامتحان صورتي أنا واسمه هو، وبينما رسبت أنا نجح هو، وبفضل تلك الشهادة اشتغل في البوليس (يضحك).. يا لها من مفارقة. - ما الذي حدث لك في العام الموالي؟ في السنة الدراسية الموالية، تابعت دراستي الثانوية في المدارس الحرة، وبالضبط في مدرسة الرشاد، في درب السلطان، إلى حدود البروفي، حيث غادرت مقاعد الدرس بسبب ظروفي الاجتماعية القاسية، ذلك أن أخي كان قد تزوج وأنجب أبناء ولم يعد يهتم بي كما كان يفعل في السابق. لكني إن غادرت حجرات التحصيل فإني لم أتخل عن مطالعة الكتب. - ألم توظف حفظك للقرآن في أي مجال ديني؟ لا، لم يحدث ذلك، لأنه خلال مرحلة دراستي الثانوية أصبح لي ميل إلى الأدب، لذلك عكفت على القراءات الأدبية القديمة والحديثة، وهنا اكتشفت ميلي إلى الكتابة. - هل كنت لا تزال مقيما في منزل أخيك السي محمد؟ لا، بعد زواج أخي وإنجابه أطفالا بدأت أتعرض لمضايقات من طرف زوجته وأمها، ولذلك التحقت ببيت عمي في حي «قطع ولد عيشة» قرب «فرانس فيل». وقد كان عمي يشتغل بدوره في الميناء وهو الذي شغل أخواي السي محمد وعبد القادر هناك. بقيت في منزل عمي إلى حدود سنة 1964، وقد منحني غرفة خاصة بي. وفي هذه المرحلة، بدأت أبعث محاولاتي الأولى في الكتابة إلى جريدة «العلم». - من في محيط العائلة أو الحي أو المدينة أثر فيك ودفعك إلى دراسة الأدب وكتابته؟ كان ميلا وشغفا شخصيا لم يساهم فيه أي شخص بعينه؛ فعندما كنت في المدرسة برزت مواهبي في كتابة الإنشاء، وقد طعمت تلك الموهبة بالانكباب على قراءة الكتب والمجلات، فكنت أقرأ مجلة «الأديب» البيروتية، وكتب المنفلوطي، و»الأيام» لطه حسين، وكتب عباس محمود العقاد، وقصص يحيى حقي، ومحمود البدوي.. وكل الأسماء الكبيرة. - من هنا جاءتك فكرة أن تصبح كاتبا؟ نعم، لقد كنت معجبا كثيرا بالأدباء الذين كنت أقرأ لهم، مثل جبران خليل جبران الذي شغفت به كثيرا، وكنت أعتبره الأحسن ضمن مجموعة أدباء المهجر أو ما يسمى «الرابطة القلمية».