يقال، والله أعلم، إن كلمة «برلمان» الأعجمية تعود في أصلها الاشتقاقي إلى جذر عربي هو «برّ الأمان»؛ ذلك أن السياسيين العرب الأوائل، الذين عاش معظمهم – وربما ما يزال- في صحراء الجاهلية الأولى اعتبروا نجاحهم في الانتخابات النيابية بمثابة قطع صلة أكيد مع ما سبق أن عاشوه من فقر وتشرد ومع ما يمكن أن يهددهم من متابعات بسبب بعض القضايا المرفوعة ضدهم من «الدهماء»، من قبيل تلك المتعلقة بالاعتداء على الغير أو بشيكات بدون رصيد، كما اعتبروه بلوغا لأقصى ما يمكن للمرء أن يتمناه في هذه الحياة الدنيا، وربما في الآخرة أيضا (بحكم تخمين العديد منهم أنهم ذاهبون حتما إلى جهنم)، لذلك أطلقوا على البناية التي جمعتهم إلى بعضهم بعضا بعد نجاحهم ووصولهم سالمين غانمين: «بر الأمان»، وهو الاسم الذي سيتم تحريفه فيما بعد إلى «برلمان» من قبل ممثلي بعض الأحزاب السياسية الغربية التي كان أسلافنا سبّاقين إلى تلقينها مبادىء الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان...وما إلى ذلك من المفاهيم المؤسسة ل«دولة الحق والقانون»، حسب تعبير شهير للمناضل الديمقراطي الكبير: الحجاج بن يوسف الثقفي. وقد لاحظ بعض المحلّلين النفسيين (الأجانب طبعا، وليس المحليين الذين تصحّ بالنسبة إليهم تسمية «محرّمين نفسيين») أن وصول النواب المحترمين إلى «بر الأمان» تنجم عنه بعض الظواهر النفسية الاجتماعية الغريبة (الشبيهة بانعدام الوزن بالنسبة إلى رواد الفضاء) من بينها النوم الثقيل الذي ينزل عليهم بمجرد جلوسهم على المقاعد المخصّصة لهم تحت قبّته، مما يجعل بعض الناس يظنون – وبعض الظن إثم- أن نومهم هذا إنما هو ناجم عن سهراتهم الليلية الطويلة على ملفات المواطنين وانكبابهم عليها قصد إيجاد حلول لها. لذلك بات كثير منهم يفضّلون التغيب عن الجلسات بدل أن يراهم الناس نائمين على شاشة التلفزة فيخطئون في حقهم ويعقدون عليهم آمالا عراضا ليس بينهم وبينها سوى الخير والاحسان. إلا أن هذا الخيار الصعب، سرعان ما سيضعهم في معاناة نفسية حقيقية، وذلك بسبب بعض «الغوغاء» الذين يسيئون، عن قصد، تأويل غيابهم هذا ويبذلون جهدا كبيرا في تأليب أولي الأمر عليهم، إلى حدّ أننا بتنا نسمع اليوم أصواتا تدعو إلى ضبط حضور النواب المحترمين وتسجيل أسماء المتغيبين منهم واقتطاع أيام (أو شهور) غيابهم من أجورهم «الهزيلة» (التي يعتبرها بعضهم مجرد أجور «رمزية») مع التشهير بأسماء المتغيبين ونشرها على صفحات «الجريدة الرسمية»! فأية إهانة يمكن أن تلحق بنوابنا المحترمين أكبر من هذه؟ يبذلون الغالي والنفيس من أجل الجلوس تحت قبة «برّ الأمان»، وبمجرد جلوسهم، و قبل شروعهم في الاستمتاع بخيرات هذا الجلوس، يفاجؤون بأن صورتهم لا تختلف كثيرا عن صورة مجموعة من التلاميذ الكسالى «المكاصيين» من قاعة الدرس! إن هذا الأمر لا يمكن القبول به مطلقا، فالبرلمانيون المحترمون – في العالم كله وليس عندنا نحن فحسب- يتمتعون بحصانة تسمى «حصانة برّ الأمان»، تجعلهم أحرارا في القيام بكل ما يريدونه بعيدا عن كل مساءلة أو محاسبة: من شاء منهم أن يتغيب عن القبة تغيّب عنها، ومن شاء أن ينام فيها نام، ومن شاء أن يتغيب وينام في الوقت ذاته فله ذلك منعّما مكرّما، وليس لأي منا أن ينازعه في ذلك ما دام من حقه أن يرتاح بعد كل التعب الذي مرّ به إلى أن وصل حيث وصل؛ رزقنا الله وإياكم خير الخاتمة وحسن المآل.