خرج مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 بوضع المغرب تحت الحماية الأجنبية، والذي كرّس ذلك في العام 1912، فاستهدفتإسبانيا شماله و جنوبه، بينما تركزت فرنسا على وسطه. أما طنجة فكانت قد اعتبرت منطقة دولية، في الوقت الذي كان المغرب يعاني من حالة التشرذم والانقسام اللذين همّا العائلة المالكة وصراعاتها الداخلية بغية السيطرة على الحكم.. وفي خضمّ هذه المواقف تداعت إسبانياوفرنسا على بلاد المغرب العربي للقضاء على الإسلام والخلافة الإسلامية واستغلال ثروات البلاد. وظنت فرنسا -كما ظنت إسبانيا- أنها لن تجد مقاومة من قِبَل المغاربة، ولكنّ العقيدة التي اعتنقها أهل المغرب، والتي غرست في قلوبهم معنى الحرية والإباء والكرامة، حرّكت هممهم لمقاومة المحتلّ الغاصب، وتزعمَ هذه المقاومة الأميرُ محمد عبد الكريم الخطابي، الذي لم يرقه رؤية بلاده ترزح في نير الاحتلال بدون مقاومة وعزم قيادة الثورة في سبيل إخراج المحتلّ والدفاع عن الخلافة الإسلامية العثمانية. توحيد قبائل الرّيف كان لذلك القرار أثرٌ بالغ في نفوس الشعب المغربي، الذي بدأ حملات الجهاد والمقاومة، خاصة في منطقة الشمال، التي بدأت ضد المحتل الاسباني (أثناء تغلغله في منطقة الريف الشرق) بقيادة محمد الشريف أمزيان في بداية العام 1906 حتى 1912) تلك الحملة التي كانت منصبّة بالأساس على عرقلة تغلغل الإسبان في «ازغنغان»، بعد مده السكة الحديدة لاستغلال مناجم الحديد في «أفرا» و»جبل إكسان»، مكبّدا الإسبان خسائرَ مادية وبشرية هائلة، إلى جانب قضائه على ثورة الجيلالي الزرهوني، الذي يلقب «ببو حمارة» أو «الرّوكي».. وبعد موت الشريف أمزيان في الخامس عشر من ماي 1912، واصلت أسرة عبد الكريم الخطابي النضال المستميت ضد التكالب الاستعماري (الاسباني والفرنسي) وهو النضال الذي أضحى يقوده الثائر الجديد محمد عبد الكريم الخطابي (وُلد في بلدة أجدير في الرّيف المغربي في عام 1882 وتتلْمذ على يد والده وحفظ القرآن قبل أن يتم دراسته في مدرسة «الصفارين والشراطين» في مدينة فاس، التي سرعان ما عاد إليها كموفد من طرف السلطان عبد الحفيظ العلوي لشرح موقف والده من الحرب على «بوحمارة»، التي استمرّت ستة أشهر وانتهت به بنهاية مؤلمة) الذي أثارته الحمّية في مقارعة المحتلّ الإسباني بعد أن لملم صفوف الجهاد ودعا أبناء الريف إلى القتال المسلح ضد الإسبان، التي احتلت الحسيمة بعد احتلالها الناضور وتطوان.. مؤسسا بذلك إمارة جهادية على أحكام شريعة الله وأنظمة الإدارة الحديثة، ليقود مسيرة الجهاد المسلح ضد الإسبان بعد أن اتخذه أهل الريف بطلا جماهيريا لقيادة الثورة الشعبية والدفاع عن أرضهم وأعراضهم باسم الجهاد والحق المبين..
ثورة الرّيف سرعان ما بدأت المناوشات المسلحة بين مقاومي عبد الكريم الخطابي (بعد أن وحّد صفوف قبائل الشمال المغربي مجتمعة ابتداء بقبيلته»بني ورياغل» وقبلية «آيت تمسمان» و»آيت توزين» و»ابقوين») وقوات الاحتلال الإسبانية، التي سرعان ما أعدّت له يوم 21 يولي 1921 جيشا جرارا (25 ألف جندي) للقضاء على مقاومته وأفراد جيشه (1500) بعد أن أضحى يشكل تهديدا مباشرا لمصالحها، لتندلع الحرب لمدة خمسة عشر يوما، والتي انتهت بانتحار سلفستري (القائد العام للجيوش الغازية) ومقتل الكولونيلموراليس، الذي أرسل عبد الكريم الخطابي جثته إلى مليلية، بعد أن الحق بفلول الجيش الإسباني عدة هزائم في عدة مواقع ومناطق (دريوش، جبل العروي، سلوان).. مجبّرا إياه على الفرار إلى عقر داره مليلية، التي رفض عبد الكريم الخطابي احتلالها نظرا إلى أسوارها المحصنة ولاعتبارات سياسية وعسكرية.. وفي هذا يقول أزرقان، مساعد عبد الكريم الخطابي الشخصي: «نحن، الرّيفيين، لم يكن غرضنا التشويش على المخزن من أول الأمر ولا الخوض في الفتن، كيفما كانت، ولكنْ قصدنا الأهمّ كان هو الدفاع عن وطننا العزيز، الذي كان أسلافنا مدافعين عنه، واقتفينا أثرهم في ردّ الهجمات العدوانية التي قام بها الإسبان منذ زمان، وكنا نكتفي بالدفاع والهجوم عليه في ما احتله من البلدان، مثل مليلية، التي كان في طوقنا أخذها بما فيها من غير مكابدة ضحايا جهادية، لكننا لم نفعل ذلك لما كنا نراه في ذلك من وخامة العاقبة، فإنه ليس عندنا جند نظامي يقف عند الحدود التي يراعيها».. لا إمارة ولا جمهورية يعترف عبد الكريم الخطابي في مذكراته (مع شعور بالأسف لعدم استرجاعه مليلية) قائلا: «إثر معركة جبل العروي وصلنا أسوار مليلية وتوقفنا، وكان جهازي العسكري ما يزال في طور النشأة، فكان لا بد من السير بحكمة، خاصة أنني علمت أن الحكومة الاسبانية وجّهت نداء عاليا إلى مجموع البلاد كي تستعدّ لتوجه إلى المغرب كل ما لديها من إمدادات، فاهتممتُ أنا من جهتي بمضاعفة قواي وإعادة تنظيمها، فوجهت نداء إلى كل سكان الرّيف الغربي وألححتُ على جنودي وعلى الكتائب الجديدة الواردة مؤخرا بكل قوة ألا يفتكوا بالأسرى ولا يسيئوا معاملتهم، ولكنني أوصيتهم في نفس الوقت وبنفس التأكيد بألا يحتلوا مليلية اجتنابا لإثارة تعقيدات دولية، وأنا نادم على ذلك بمرارة، وكانت هذه غلطتي الكبرى».. كان الأمير عبد الكريم الخطابي (رغم أسفه على عدم تحرير مليلية) قد احتسى كأس النصر بهذه البطولة التاريخية التي حققها على المحتلّ الاسباني، مقيما (حسب الروايات) «جمهورية الرّيف»، داعيا إلى الاعتراف الدّولي بها، وانطلق يهتف في جموع الريفيين قائلا: «أنا لا أريد أن أكون أميرا ولا حاكما وإنما أريد أن أكون حرّاً في بلد حر ولا أطيق من سلب حريتي أو كرامتي.. لا أريدها سلطنة ولا إمارة ولا جمهورية ولا محمية، وإنما أريدها عدالة اجتماعية ونظاما عادلاً يستمدّ روحه من تراثنا».. وختم قوله متوجها بالقول إلى قادة الاحتلال الإسباني بقوله: «افعلوا بي ما تشاؤون من اليوم، فأنتم ظالمون على كلّ حال ولا تنتظروا مني شيئا غير المقاومة وقيادة الثورة حتى التحرير الكامل لأرضنا المُغتصَبة». الأسر والمنفى الأخير لمّا اشتدّت وطأة الأمير عبد الكريم على الإسبان، بعد الهزيمة التي ألحقها بهم في غشت من عام 1924م، لم يسع الديكتاتور الإسباني بريمو دي ريفيرا إلا أن يتولى القيادة العسكرية بنفسه، ليعمل على إنقاذ جيشه، وتفاوض مع الفرنسيين لكي يقوموا بنجدته، وأثمرت مفاوضاته معهم، فاتفقت القوتان الفرنسية والإسبانية على محاربة عبد الكريم الخطابي، بعد أن رأوا اشتداد شوكته، إذبدأ يهدد المصالح المشترَكة ويقضّ مضاجع المحتل.. وبدأ التكالب بين إسبانياوفرنسا ضد القائد الريفي الكبير، وابتدأ الهجوم تحت ستار صدّ الهجوم المفتعَل والقضاء على ثورته (كان الهجوم على ثلاثة مستويات، برا وبحرا وجوا) حتى تم حصار قوات الخطابي وإلقاء القبض عليه يوم عاشر أكتوبر 1926 ونفيه في ما بعد إلى جزيرة «لارينيون)» في المحيط الهندي (بعد ضغوط الحكومة الإسبانية لتسليمه إليها).. لكنْ، وأثناء عملية نقله، تمكن الخطابي من الفرار لحظة مروره بقناة السويس، ليبقى في مصر حتى وفاته في القاهرة سنة 1963 (رغم حصول المغرب على الاستقلال).. وأقام له الرّاحل جمال عبد الناصر جنازة ملكية فخمة ليوارَى الثرى في أرض الكنانة، رغم الدّعوات المتتالية لنقل جثمانه إلى الأرض التي حارب وناضل من أجلها حتى آخر رمق..