على الصوت المُصمِّ للمدافع المضادة للطائرات، استيقظتُ في ذلك الصباح من يوم الخامس من يونيو 1967 في القاهرة، كانت تلك هي بداية حرب الأيام الستة التي سماها الجنرال ديّان بذلك الاسم، لا بسبب المدة التي استغرقتها فحسب وإنما أيضاً للتذكير بأن الرب قد خلق العالم في مدة زمنية مماثلة، فيما يشي بنزعة روحانية لا تخلو من جنون العظمة...، تلك العظمة التي بنى زعماء الدولة العبرية عليها أحلامهم وطموحاتهم وأقاموا دولتهم على أنقاض الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يناضل لنزع استقلاله وحريته التي لم يحرم منها بسبب ضعفه ولا بسبب عدم التكافؤ العسكري كما يعتقد الكثيرون إنما السبب ومن وجهة نظري الشخصية هو التخاذل الدائم من طرف القيادات العربية التي لو أرادت تحرير فلسطين (لو ملكت الإرادة الفعلية للتحرير) لعمدت إلى تحريرها منذ زمن بعيد حتى قبل عبد الناصر، الذي علق الكثيرون آمالهم عليه حتى بدا الزعيم الأوحد للأمة العربية، خاصة بعد أن أخذ يسير في نهجه القاضي بإقامة الجمهورية العربية المتحدة، لكن ما وقع كان مغايرا تماما.... ألغاز الحرب الإسرائيلية فبمرور ستة أيام فقط احتل جيش الدولة العبرية وبغمضة عين أراضي عربية شاسعة تضم سيناء المصرية وقطاع غزة التي كانت تديرها حكومة القاهرة، والضفة الغربية التابعة للمملكة الهاشمية بالإضافة إلى القدس الشرقية وهضبة الجولان السورية، فلم يكن أحد يدري بعدُ أن تلك الحرب الخاطفة ستغيّر بصورة عميقة من طبيعة الدولة العبرية وأنها ستخلق شعوراً بالهوية داخل الأوساط اليهودية، وتزيد من حالة الضعف التي تعيشها الأنظمة القومية العربية والتنظيمات العلمانية اليسارية لصالح البلدان المحافظة، بل إنها ستحُدِث انطلاقة غير مسبوقة للحركات الإسلامية وستسجّل بدايات الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط وما سهله من افول للإتحاد السوفياتي، وبدت بالتالي أهمية تلك الحرب الخاطفة التي قامت بها الدولة العبرية ظاهرة للجميع على الصعيد المحلي والدولي وعزّزت بأهميتها تلك المكانة العسكرية لجيشها التي أخذ قادته ينادون(من خلال الحشد الكبير للأساطيل والأباطيل والألغاز الإسرائيلية) بكونه الجيش الذي لا يقهر، كل ذلك رغم أن خلفيات هذه الحرب لم تكن في صالح الدولة العبرية التي تخوّف قادتها من القيام بها ضد الدول العربية مجتمعة حسب الوقائع التي كشف عنها العديد من المؤرخين، خاصة الإسرائيليين منهم، حتى باتت الصورة بالنسبة لي واضحة وضوح الشمس حول خلفيات تلك الحرب، بعد استنادي إلى السجلات الرسمية الخاصة بالقوى المعنية وإلى شهادات بعض الشخصيات الفاعلة والشاهدة على تلك الأحداث، التي جمعتها في سلّة واحدة لأصيغ إليكم شهادتي المتواضعة، المبنية على تحقيقات أجريتها في الدولة العبرية والعديد من الدول العربية قبل النزاع وأثناءه وما تلاه من أحداث..وإليكم التفاصيل.
تطورات الأزمة استيقظت في ذلك الصباح على دقات باب غرفتي الخاصة بفندق سيمرايس الشهير الواقع على ضفاف النيل، وكان على ذلك الباب نادل الفندق الذي بدأ يقول لي بعد السؤال عن ماهية الطارق : room service sir ، كان ذلك في الخامس من يونيو 1967 الذي يُعد اليوم الوحيد الذي آخذه كإجازة منذ وصولي إلى القاهرة التي بقيت فيها مُنكبّا ولأسابيع طوال على إعداد التقارير اليومية التي أُطلِعُ قراء صحيفة «لوموند» يوماً بيوم على تطورات الأزمة الناشبة بين الدولة العبرية وجيرانها، خاصة أن التوقعات كانت تشير حتما إلى وقوع النزاع المسلح بينهما، رغم أنه قد بدا لي وفي يوم راحتي هذا أن احتمالات التوصل إلى تسوية بالتراضي هو أمر ممكن، الشيء الذي يعني استبعاد أي مواجهة عسكرية وشيكة، فآمالي الكبيرة التي بنيتها وأعددت التقارير بشأنها لم تكن من صلب خيالي الخاص بقدر ما أمدني بها وقبل يومين فقط من بداية الحرب(الثالث من يونيو) تشارلز يوست مبعوث الرئيس الأمريكي جونسون لإدارة الأزمة بالتعاون مع السفير الأمريكي المعين حديثا في القاهرة، وهي معلومات جاءت من خلال اللقاء الخاص ب(يوست) وبناء على وساطة قام بها أندريه فونتين رئيس تحرير صحيفتنا لوموند الشهيرة، الذي عزم بدوره على إقناع (يوست) بأن المعلومات التي سنحصل عليها ستبقى سرّية إلى اليوم الذي يمكن نشرها فيه بدون خسائر ممكنه.