في الشهور الأخيرة، صارت وسائل إعلامنا، المكتوبة والمسموعة المرئية، تمتلئ بأخبار متواترة عن الأزمة الاقتصادية والمالية الكبرى التي بدأت نذرها تضرب بلادنا، وهي أخبار لا يمكنها إلا أن تبعث قدرا لا بأس به من الخوف في أوصال المواطنين أو تجعلهم، على الأقل، يعيشون في حالة من التوتر تضعف معنوياتهم خوفا من مستقبل قادم غير واضح ولا مضمون. هؤلاء المواطنون الذين يصدقون، لشديد الأسف، كل ما تبثه وسائل الإعلام تلك باعتباره حقيقة لا مجال للشك فيها، ولا يدركون أن تلك الوسائل، سواء أكانت عمومية أم خاصة، لا تهدف إلى تقديم الحقيقة إلى متلقيها بقدرما تسعى إلى خدمة «أجندة» معينة (كما يقال اليوم)، واضحة بهذا القدر أو ذاك؛ وبالتالي ينبغي التعامل معها (أي وسائل الإعلام) بحذر شديد وإخضاع كل ما تبثه للنقد والتمحيص. من الأخبار التي جرى تداولها بشدة، مثلا، في الآونة الأخيرة، وفي أكثر من منبر، خبر يقول إن حجم الودائع من العملات الصعبة في بنك المغرب قد انخفض إلى حد بعيد، وقد لا يكفي لأداء مشتريات بلادنا لأكثر من ثلاثة أشهر؛ إلا أن ناشري هذا الخبر لم ينتبهوا إلى تناقضهم حين كانوا يهللون، في وقت نشر الخبر نفسه، للمهرجانات الموسيقية والغنائية الراقصة المنظمة في بلادنا، والتي يحضرها مغنون وموسيقيون من جميع أنحاء العالم؛ متناسين أن هؤلاء تدفع لهم مقابل غنائهم ورقصهم (بالتبان، أحيانا) مبالغ مالية مرتفعة جدا (تقدر بمئات الآلاف من الدولارات)، يتقاضونها بالعملة الصعبة (وليس ب«الزوالغ» التي نتصارف بها داخل البلاد) كي يحملوها معهم إلى بلدانهم. ويكفي أن نقارن بين عدد تلك المهرجانات و«جيوش» الفنانين الأجانب المشاركين فيها لكي نكتشف أن الحديث عن «أزمة السيولة» في العملة الصعبة هو مجرد حديث متهافت لا يقوم على أساس. ما يؤكد ذلك أكثر أن الأمر لا يتوقف عند مهرجانات الغناء والطرب التي صارت بلادنا متخصصة في تنظيمها دون منازع، وإنما يتعداه إلى مجالات أخرى، منها الظاهر ومنها الخفي: فهذه شركة مغربية للعقار تأتي قبل بضعة أسابيع بممثل هندي مشهور لكي يصوّر لها وصلة إشهارية تدعو المغاربة إلى اقتناء منتوجها والسكن فيه، وتدفع له مقابل غنائه ورقصه مبلغا (بالعملة الصعبة) قيل إنه في حدود سبعمائة مليون سنتيم (وهو مبلغ قريب من مليون دولار)؛ هذا دون أن نضيف بطاقات سفره في الدرجة الأولى وإقامته، طيلة فترة تصوير الوصلة، في جناح فخم بواحد من أكبر فنادق العاصمة الاقتصادية للبلاد، لكن مع الإشارة إلى أن الدفع هنا، كما ينبغي الاعتراف إحقاقا للحق، كان بالعملة السهلة وليس الصعبة. والجميل في حضور الممثل الهندي إلى بلادنا أن جرائدنا، وخاصة «الطلائعية» منها، لم تهتم بمسألة المبلغ المرتفع الذي تقاضاه من العملة الصعبة (وتناقضه مع أخبارها عن أزمة السيولة) قدر اهتمامها بإعجابه الشديد ب«الحريرة» وسؤاله عن كيفية تركيب مكوناتها (تماما، فالأمر يتعلق بسلاح كيماوي دون شك) كي يعدّها في بيته بعد عودته، سالما غانما، إلى بلده الأم: الهند. كما لم يطرح أحد السؤال حول «الحكمة» الثاوية خلف استقدام ممثل هندي لكي يقوم بالدعاية للسكن الاقتصادي المغربي: هل هي دعوة للسكان الهنود كي يلتحقوا ببلادنا ويقتنوا شققا فوق أرضنا؟ أم إنها إشارة إلى أننا في الطريق إلى أن نصبح مثل الهند (التي ينام عدد لا بأس به من سكانها في الشوارع)؟ أم إنها، لا هذا ولا ذاك، مجرد دعوة لطيفة من أصحاب الوصلة الإشهارية لكي نغض الطرف، فرحين، عن «العملة الصعبة» وهي تحلق أمام أعيننا فارّة باتجاه الخارج تاركة إيانا لوحدنا مع عملتنا السهلة المسكينة نتبادل معها النظرات في مشهد مؤثر حزين شبيه بالسينما الهندية؟