يخوض العالم المقاصدي أحمد الريسوني، في هذه الحلقات التي خص بها جريدة «المساء» خلال شهر رمضان، في عدد من القضايا التي أصبحت محط نقاش المجتمع المغربي، من قبيل القيم الكونية، و خصوصيات المجتمعات الإسلامية، ومفهوم الحرية وحدوده الاجتماعية والشرعية، وكرامة الإنسان التي يقول فيها الريسوني: «لو تصورنا أن للإنسان سعرا معينا، فإن ما لا يقل عن تسعة أعشار قيمته هي كرامته».. انطلاقا من منهجية ومبادئ «مقاصد الشريعة الكبرى»، القائمة على أن الشرع يكون حيث تكون مصلحة المواطنين. كما يؤصل رئيس رابطة علماء أهل السنة وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لهذه المواضيع التي سبق أن أدلى فيها برأيه الذي فاجأ الإسلاميين قبل العلمانيين، تأصيلا يحرص على إظهار ملازمة العقل للنقل في القيم والمبادئ الإسلامية، كما يدعو إلى التأسيس لقيم كونية بديلة.
من الآيات الأكثرِ ترددا على الألسنة والأكثرِ طرقا للأسماع في هذا الشهر الكريم، قولُه تعالى (يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]. فالصيام إذاً يُقصد به ويُرجى من ورائه تحصيل التقوى والتحلي بها. وإذا كانت التقوى هي مقصود الصيام، فهي أيضا مقصودُ سائر أجناس العبادات، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21]. فما هي هذه التقوى التي لأجلها كتب علينا الصيام؟ ولأجلها وضعت العبادات؟ التقوى في جوهرها عبارة عن شعور قلبي تنشأ عنه رقابة ذاتية باطنية، يتقي بها صاحبها المزالق والمعاصي والسقطات. فهي تأتي من داخل الإنسان وبرضاه وقناعته. ولذلك فهي تظل حاضرة وفاعلة في كل وقت وحين، من دون وازع خارجي. فالإنسان في حياته يمكن أن يغيب عن الناس ويغيب عنه الناس، فيتخلص من رقابتهم ومحاسبتهم ولومهم وضغطهم، ويمكن أن يكون مَقامه فوق الناس، بسلطانه ومنصبه، أو بعلمه ومرتبته، أو بجاهِه وقوته، ولكن تقواه - إن كان من أهل التقوى - تظل حاضرة معه رقيبة عليه موجهة لسلوكه، في سره كما في علنه، وفي سفره كما في حضره، وفي ليله كما في نهاره، وفي انفراده بنفسه كما في اجتماعه مع غيره. والتقوى في الإسلام - رغم ذاتيتها - ليست مجرد ميول جميلة ومشاعر خيِّرة تنبعث من داخل الشخص التقي، وفق طبعه النبيل المتسامي، أو طبق ما تقتضيه مكارم الأخلاق، بل هي - إلى ذلك - تقوى ذاتُ وجهة معلومة وحدود مرسومة. بمعنى أنها ذاتية في تحركها ومبعثها، ولكنها موضوعية في وجهتها ومسارها. فالتقوى أولا هي تقوى لله تعالى ومراعاة لمقامه الجليل المهيب (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40، 41]، بمعنى أن المتقي يتقي ربه ويرعى له مقامه، فلذلك يتقي الوقوع في معصيته وما لا يرضاه، ويتحرى أن يكون في طاعته وفيما يحبه. والله تعالى لا يحب لعباده ولا يحب منهم إلا كل خير ونفع، ولا يكره لهم ولا يكره منهم إلا كل شر وضرر. ومن هنا تختلف التقوى عن الضمير. فالضمير - رغم كونه من فطرة الخير التي فطر اللهُ الناس عليها - إذا بقي وحده، يكون عرضة للسقوط في الذاتية والشخصانية والأحادية. أما التقوى فهي تنطلق من الضمير الباطني، ولكنها موجهة ومحصنة بمراقبة الله والتزام شرعه. ومن الإيجابيات المشرقة للعصر الحديث، توصُّلُه إلى فكرة «دولة الحق والقانون»، وهي تحاكي «دولة الشريعة» التي جاء بها وأسسها الإسلام، حيث تكون الشريعةُ فوق الجميع: الحاكمِ والمحكوم، والغنيِّ والفقير، والشريفِ والضعيف. وعندما ولي أبو بكر الخلافة، خطب رضي الله عنه في الناس وقال: القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له. هذه بعض ملامح «دولة الشريعة»، أو «دولة الحق والقانون الإسلامية». لكن «دولة الحق والقانون»، سواء كانت قامت على القوانين الشرعية، أو على القوانين الوضعية، أو على مزيج من هذه وتلك، فإنها لا تستغني ولا تُغني عن التقوى وعن مجتمع التقوى. وقديما قال علماؤنا: إن الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ومفهوم هذه القاعدة هو أن الله يَزَعُ بالقرآن ما لا يزع بالسلطان. فلذلك لا بد من الجمع بين الوازع الدياني والوازع السلطاني. الوازع الدياني تكفُلُه تقوى الله ومراقبته عز وجل، والوازع السلطاني تكفله دولة الحق والقانون. ومما لا شك فيه أن المساحات التي تتوقف على الضمير والتقوى والوازع الداخلي، هي أضعاف المساحات التي تتوقف على الدولة والقوانين. ولذلك نستطيع أن نقول: ليس بالقانون وحده. بل حتى الدين نفسه، لا يصح ولا يجدي إذا كان صاحبه بدون تقوى وبدون ضمير، بل إن التدين بدون تقوى يصبح من أشد الأخطار والأضرار على صاحبه وعلى الناس، لأنه يتحول إلى مظهر بلا جوهر، ويتحول إلى خداع ودجل. قال بعض الحكماء: «لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء: لا يتم الدين إلا بالتقوى، ولا يتم القول إلا بالفعل، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع، ولا يتم العلم إلا بالعمل. فالدين بلا تقوى على الخطر، والقول بلا فعل كالهذر، والمروءة بلا تواضع كالشجر بلا ثمر، والعلم بلا عمل كالغيم بلا مطر». لأجل هذا كان من أول ما ينادي به جميع الأنبياء: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعونِ) وقد جاءت هذه الآية بلفظها على لسان عدد من المرسلين، في عديد من السور. وهذا معناه أن (التقوى) أساس مشترك وقاعدة ثابتة في جميع الشرائع المنزلة، وأنه لا دين بلا تقوى. وفي الحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سُئِل رسول اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عن أكثر ما يُدْخِل النَّاسَ الجنةَ فقال: تقوى اللَّه وحُسنُ الخُلق. وسُئِل عن أكثر ما يُدْخِل الناسَ النارَ فقال: الفَم والفرْج». وعن أبي ذر رضي الله عنه قال، قلت يا رسول الله أوصني، قال: «أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله». وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي المسافرين خاصة بتقوى الله، لأن المسافر ذاهب إلى حيث لا يعرفه أحد، وربما مر من حيث لا يراه أحد. فهو بحاجة أكثر إلى استصحاب تقواه وإلى إعمال تقواه. عن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني أريد سفرا فزودني. قال: زودك الله التقوى... الحديث. وعن أبي هريرة قال: أراد رجل سفرا فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني، فقال: «أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شَرَف».