لا يختلف اثنان أن الواقع الذي يعيش فيه الشعراء لا يمكن إلا أن يترك أثره وتأثيره عليهم. كما أن التراث الإنساني الثقافي بمختلف تجلياته يمارس ضغطه على وعيهم و لا وعيهم، وبالتالي فهم يجدون أنفسهم مشدودين إلى واقعهم على الأرض وعقلهم الباطني. وهذا يبدو جليا مع شاعرين عاشا لحظة فارقة في العالم العربي. يتعلق الأمر بأدونيس وأمل دنقل، إذ اختار كلاهما أن يركبا "سفينة نوح" لقول ما لا يمكن أن ينقال بالمباشر. قصة نوح مع قومه قصة طويلة على مستوى الزمان والأحداث، ورغم طول زمن الدعوة وتحذير أطول نبي قامة وعمرا لقومه بالإيمان بالله فإنهم وضعوا أصابعهم في آذانهم وسخروا منه ولم يؤمن برسالته إلا نفر قليل جدا، وقالوا له فيما يشبه التحدي: «يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»، فكان لابد من إنزال العقوبة بعد أن أقيمت الحجة. إنه العذاب الاستثنائي، الذي لم تعرف الأرض له مثيلا، لا من قبل ولا من بعد، فكأنه كان بمثابة غسل وتطهير كامل لها من كل المذنبين والعاصين والمجرمين. لقد قرر الله إغراق الجميع. إنه الطوفان. لكن كان لابد من حماية من آمن. وهكذا تقرر أن يحمل الجميع مع كل زوجين من الحيوان والطير في سفينة، ستشكل البديل المؤقت للأرض /السفينة السابحة في الفضاء إلى حين أن تقلع السماء ويغيض الماء. وبعد الطوفان ستكون هناك ولادة جديدة. «وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44 هود) خيبات بمذاق الحنظل هذه القصة معروفة في كل العالم. تمثلها الشعراء منذ زمان، وكان آخرهم الشاعر السوري علي أحمد سعيد الشهير بأدونيس، إلى جانب شعراء آخرين، على رأسهم الشاعر المصري أمل دنقل بالنسبة للقصيدة الحديثة. استوحى أمل دنقل قصائده من رموز التراث العربي، في وقت كانت العادة هي انفتاح الأصوات الشعرية على الميثولوجيا الغربية عامة واليونانية خاصة. عاصر أمل دنقل عصر أحلام العروبة والثورة المصرية، لكنه صدم ككل العرب عامة بنكسة 1967، التي سقطت فيها ورقة التوت وبقيت عوراتنا في مرمى النبال. كما سقط ذاك الشعور بالبطولة والفخر بأننا سليلو أبناء حضارة عظيمة. وهكذا انهالت الأسئلة الجارحة المؤلمة التي ظهر أثرها بالخصوص في أكوان الشعراء وشكل قصائدهم ولغتها. لقد تغير العالم ولم يعد كما كان. أدونيس ودنقل عاشا الوقائع وتأثرا بها، فكلاهما عاش زمن الحراك العربي والأحلام، فالأول من مواليد 1930 والثاني من مواليد1940. كانت الأحلام العربية كبيرة، لكن الخيبات كانت مرة بطعم الحنظل وثقيلة بحجم الصخر، الذي يبرك على القلب. انكسرت أحلام الشعوب العربية في هزم كيان جديد اسمه إسرائيل في 67 و73. وانتهى الصراع معه بتوقيع معاهدة سلام معه، فتم تحييد أي خيار لنزع الحقوق بشرف في ظل مقاومة عربية، فماتت التطلعات في مهدها. أيضا يلتقي دنقل وأدونيس في البحث عن رموز يتكئان عليها لقول ما لا يمكن أن يقال بالمباشر، فكتب دنقل «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة «، والثاني «أغاني مهيار الدمشقي. مارت الأحداث في داخلهما كما تمور الأرض، ونضحت في القدر قبل أن يفور التنور. طوفان نوح فوق الصفيح الساخن الذي كانت تعيش عليه الشعوب العربية وانكسارات الخاطر،الذي كان يبحث على من يجبره، لم يجد الشاعر أمل دنقل أفضل من الرجوع إلى تمثل سفينة نوح، فالوقت مليء بكثير من الغيم والطوفان على الأبواب. يقول دنقل: «جاء طوفان نوحْ!/ المدينة تغرق شيئاً.. فشيئاً/المدينة تغرق شيئاً.. فشيئا/ تفرّ العصافيرُ، والماء يعلو /على درجات البيوت –الحوانيت- مبنى البريد- البنوكِ /التماثيل (أجدادنا الخالدين) –المعابد- أجولة القمح /مستشفيات الولادةِ –بوابة السجن –دار الولايةِ /أروقة الثكنات الحصينةْ» ويضيف: «هاهم الحكماء يفرّونَ نحو السفينة /المغنّونَ –سائسَ خيلِ الأميرِ- المرابون /قاضي القضاةِ (… وملوكُهُ!) /حامل السيف –راقصة المعبد /(ابتهجت عندما انتشلت شعرها المستعار) /جباةُ الضرائب –مستورد شحنات السلاحِ /عشيق الأميرة في سمتهِ الأنثوي الصبوح! /جاء طوفان نوحْ/هاهم الجبناء يفرّون نحو السفينهْ» وحين يشتد الصراع، وتموج الناس في بعضها البعض يعلو النداء: «اُنجُ من بلدٍ.. لم تعد فيه روحْ!» /قلت: طوبى لمن طعموا خبزه.. /في الزمان الحسن /»ُنجُ من بلدٍ.. لم تعد فيه روحْ!» /قلت: طوبى لمن طعموا خبزه.. /في الزمان الحسن /وأداروا له الظهر.. يوم المحنْ..؟ /ولنا المجد –نحن الذين وقفنا /يرقد الآن /فوق بقايا المدينة /زهرة من عطن هادئاً /بعد أن قال «لا» للسفينة وأحبّ الوطن وأداروا له الظهر.. يوم المحنْ..؟ ولنا المجد –نحن الذين وقفنا إلى أين تُبحرين يا فُلْكَ نوح؟ هكذا بعد أن ادلهم الليل واشتدت الأمواج وتعالت الصيحات، كان الاختيار هو الوطن. وليس السفينة، ولا شك أن يوم مصر ليس يوم حظها الذي تدخل فيه على التاريخ. أيام العرب كانت يوم شؤم ويوم حظ، ومن دخل في يوم الشؤم قطعت رأسه. هل هذا ما وقع حين لف الحبل على عنق الثورة؟. ثورة 25 يناير بمصر سارت مسارات أخرى، وأخذ بقرنها «انتهازيون ولا يدري أحد إلى أين سيكون المسار. قطعا ليست هذه هي الأهداف المسطرة. فهل كلما أظلمت الدنيا لا يجد الشعراء إلا سفينة نوح قشة للنجاة؟ نفس التوجه سار فيه الشاعر السوري أدونيس في محاولة للبحث عن قشة نجاة لشعب الشام، فحينما ادلهم الليل بسوريا واشتد الصراع بين أبناء الشعب الواحد لم يجد سوى «فُلْكَ نوح» للقبض على هذه اللحظة الفارقة في الزمن السوري والعربي طبعا، لكون نجاح أي ثورة هنا أو هناك هي دعم للشعوب العربية من المحيط إلى الخليج؟ «فلك نوح» في قصيدة صاحب «مهيار الدمشقي»تائهة» بين «أنياب» الموج العاتي هناك، والذي نفخت فيه جهات متعددة من هنا ومن هناك لتشابك المصالح، إذ تعتبر سوريا «الملعب الاستراتيجي» الذي يعض عليه بالنواجذ ولا يمكن التفريط فيه بسهولة، فلا أحد يحب أن يقدم عنقه لمقصلة العاصفة القادمة. فمن جهة هناك الدب الروسي، ومن جهة أخرى إيران وحزب الله، ومن جهة ثالثة هناك دول الخليج وعلى رأسها العربية السعودية، و من جهة رابعة هناك إسرائيل التي تراقب الوضع عن كثب. وبين هذا الصراع، بين المطرقة والسنديان دقت وتدق يوميا رؤوس كثير من الأبرياء. إن أدونيس وهو الشاعر الذي لعب في «محراب» السياسة، لم ينفعه حدسه السادس إلا أن يقول في عمق قصيدة له إلا أنه لا يدري. لا يدري إلى أين تسير الأفلاك ب»فلك نوح» ولذا تساءل: «إلى أين تُبحرين يا فُلْكَ نوح؟» يقول : «كانتِ اليدُ تَصنع وسائدَ لنجومٍ أضناها الأرَقُ وكانت الخرائطُ حوله تتقطّر دماً وفي الغيوم التي تحفُّ به خُيِّل إليّ أنّني ألمَسُ شظايا رؤوسٍ وأجسامٍ تُرى هل صار الهلالُ وحشاً؟ وكيف يصير المساءُ فرْواً لمجازرَ تلتهمُ كواكبَ العقل وأفلاكَ المخيِّلة؟ قلْ لجِراركَ يا ثلجَ أرارات أن تصبّ خمورها لرُعاة النّجوم وأعرفُ: يوماً ستنفجرُ فوّهات أعماقكَ ولسوف تؤاخي ثلجَك المجرّاتُ والبساتين أولئك الذين ذُبحوا في ما وراءك، وفي ما حولك، وفيك ومن أجلكَ هم الآنَ ثمرٌ هم الآنَ غيمٌ يحمل المطرَ هم الآنَ مطرٌ تتدثّر به الأرض ويضيف قلقا، مغتاطا منددا ويضيف وهو بين موج كالجبال: «لا تتركْني، ليتك تسحرني وأتحوّل، ولو لحظةً واحدة إلى ضوءٍ فائقِ السّطوع لكي أستطيعَ أن أرى ما بداخل هذا الكائن الملاكِ الشيطان الذي يُسمّى الإنسان لا يقتلُ أخاه وحده لا يقتل نفسه وحدها يقتل كذلك الطّينة التي جُبِل منها والبيت الذي يؤويه يقتل الأرض ولماذا يبدو كأنه لا يريد أن يعيش أو يفكّر إلاّ قاتلاً أو قتيلاً مجرماً أو ضحيّة؟ وأنتِ يا فُلكَ نوحٍ، هل اطمأنّت أشرعتُك؟ وإلى أين تُبحرين؟ هل القدر هو الذي يسوي الحسابات دائما؟ لا يجد المرء أمام انبثاق حيوانية الإنسان واحمرار عينيه كالجمر إلا أن يقتل، ولا يجد الشعراء سوى أن يبحثوا عن سفينة وليست أي سفينة، بل سفينة نوح للنجاة ونجدة القوم من الموت والمستقبل المجهول المنتظر على سنان البنادق والمصالح. صحيح أن ما يتبقى يقوله الشعراء، فالشاعر كالنبي في الصحراء، فهل هناك من يسمع النداء وسط عواصف الغبار؟ أم أنهم سيسخرون كما فعلوا في الماضي، حينما تساءلوا :»ما خطب «نوح» يبني السفينة في القفر؟»