كشف الإعلان عن رغبة الأمينين العامين للحزب العمالي والحزب الاشتراكي في الاندماج في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مدى الصعوبات التي تواجه مسلسل توحيد اليسار. أكيد أن الجميع يتحدث عن نبل هذه المبادرة وكونها تشكل، في نفس الوقت، حاجة وضرورة لمواجهة التحديات التي يفرضها تنامي القوى المحافظة، غير أن ذلك لا ينبغي أن يخفي مخاطر تغليب النزعة الإرادوية المحكومة باعتبارات ذاتية تجعل من المبادرة، في آخر المطاف، مبادرة ظرفية تخلو من أي بعد استراتيجي، وذلك بالتجاهل التام للاعتبارات الموضوعية أو، على الأقل، محاولة القفز عليها. أظهرت ردود الفعل الأولى على مبادرة اندماج الحزب العمالي والحزب الاشتراكي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من قبل أحزاب تنتمي إلى العائلة اليسارية عمق أزمة اليسار وصعوبة تجاوز معيقات توحيده. لقد بدت مبادرة «المسار الاندماجي» كأنها موجهة، في البداية، إلى مكونات العائلة الاتحادية. ومعلوم أن هناك العديد من الأحزاب السياسية التي انبثقت من رحم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي الذي انفصل عنه الحزب الاشتراكي والحزب العمالي، مع التذكير بأن مجموعة الوفاء للديمقراطية ابتعدت عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لتندمج في اليسار الاشتراكي الموحد وتشكل معه الحزب الاشتراكي الموحد. لقد كانت ردود فعل الحزبين المنبثقين عن العائلة الاتحادية، وهما حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي، من مبادرة «المسار الاندماجي» ردودا سلبية ولم يعتبراها، بأي حال من الأحوال، مبادرة جدية؛ كما أن الحزب الاشتراكي الموحد قلل من أهميتها؛ في حين تجاهلتها أحزاب تعتبر نفسها يسارية، سواء تعلق الأمر بالحزب المشارك في الحكومة، وهو حزب التقدم والاشتراكية، أو بعض الأحزاب التي توجد خارج الحكومة، كجبهة القوى الديمقراطية وحزب اليسار الأخضر. إن «مبادرة المسار الاندماجي» عوض أن تدفع القوى اليسارية إلى البحث عن «المشترك» الذي يجمع بينها، دفعتها إلى الحفر عما يفرق بينها على مستوى تمثل المرجعية اليسارية، من جهة، وعلى مستوى المواقف، من جهة أخرى. وهنا فرضت قراءتان نفسيهما في التعاطي مع مبادرة المسار الاندماجي: تركز القراءة الأولى على أن هذه المبادرة قد فتحت الباب للحديث عن «اليسار المخزني». وهذا الحديث ليس جديدا، بكل تأكيد؛ فقد اتهم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية، عندما شاركا في حكومة التناوب التوافقي بقيادة عبد الرحمان اليوسفي والحكومات التي تلتها، بكونهما حزبين يجسدان اليسار الحكومي؛ كما صنفت العديد من الفعاليات اليسارية، التي لعبت دورا كبيرا في «هيئة الإنصاف والمصالحة» في خانة «اليسار المخزني». وعودة الحديث عن «اليسار المخزني» بمناسبة الإعلان عن مبادرة المسار الاندماجي ليست بدون مقدمات، فالكل يتذكر أن الحزبين اللذين يرغبان في الاندماج في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهما الحزب العمالي والحزب الاشتراكي، كانا عضوين في ما سمي بالتحالف من أجل الديمقراطية الذي تشكل من ثمانية أحزاب سياسية، وهي، بالإضافة إلى الحزبين المشار إليهما، حزب الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار والاتحاد الدستوري والحركة الشعبية وحزب اليسار الأخضر وحزب النهضة والفضيلة. وقد أثر هذا التحالف، الذي تشكل قبيل إجراء استحقاقات 25 نونبر 2011، كثيرا من الجدل، خاصة حول الأحزاب ذات المرجعية اليسارية التي أعلن زعماؤها، في موقف تبريري واضح، أن زمن بناء التحالفات على أساس المرجعيات الإيديولوجية قد ولى. كما يتذكر الكل أن قيادات داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وفي خضم التنافس الشديد على منصب الكاتب الأول خلال المؤتمر التاسع، اعتبرت ادريس لشكر ممثلا للتيار المخزني داخل الحزب. لذلك، كان من الطبيعي أن يعتبر البعض من داخل اليسار ومن خارج اليسار أن مبادرة المسار الاندماجي لا تروم توحيد اليسار وتقويته بقدرما تسعى إلى التشويش على مبادرات اقترحتها قوى يسارية أخرى، من قبيل مبادرة الحزب الاشتراكي الموحد؛ كما أن هذه المبادرة لا تهدف إلى خلق توازنات في مواجهة القوى المحافظة لأن هذه المهمة لا يمكن أن تقوم بها إلا قوى محافظة أخرى نظرا إلى موازين القوى السائدة في السياقات الراهنة، بقدرما ترغب في تعقيد مهام أحزاب يسارية اتخذت موقفا مناهضا لمسلسل الإصلاحات، بما في ذلك دستور فاتح يوليوز 2011، ولا زالت تشكل دعامة حركة 20 فبراير أو ما تبقى منها. تذهب القراءة الثانية، في تعاطيها مع خلفيات وملابسات مبادرة المسار الاندماجي، إلى كونها تروم الالتفاف على الأزمة التنظيمية للأحزاب الثلاثة؛ فمعلوم أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لم يرفع تحديات مؤتمره التاسع إلا بكلفة باهظة على الصعيد التنظيمي، فلا أحد بإمكانه أن يتجاهل قرار انسحاب بعض قياداته منه أو تصريحات بعض الوجوه المحسوبة على العائلة الاتحادية عموما والحزب خصوصا، والتي تصب كلها في اتجاه تأكيد «موت» أو «نهاية» حزب القوات الشعبية، كما لا أحد بإمكانه أن يتجاهل ما أشار إليه عبد الواحد الراضي، الكاتب الأول السابق للحزب، في ما يخص «غشا» طال عملية انتخاب الكاتب الأول الجديد، مما يخدش مشروعيته ويعزز مواقف خصومه. وعلى ضوء هذه المعطيات، فإن مبادرة المسار الاندماجي من خلال هذه القراءة تهدف أساسا إلى تقوية مشروعية الكاتب الأول الجديد. وأكيد أن هذه الاعتبارات الشخصية هي نفسها التي يستحضرها الأمين العام للحزب العمالي والأمين العام للحزب الاشتراكي، خاصة وأن عبد المجيد بوزوبع يدرك قبل غيره ضعف حزبه ومحدودية حضوره، كما أن عبد الكريم بن عتيق أتعبته طموحاته، ليحاول الرجلان اختصار الطريق والبحث عن موقع قيادي داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بدل الاستمرار في البحث عن زعامة مفتقدة. إن المتبنين لهذه القراءة ينطلقون من معطيات، يكمن أولها في كون بعض قيادات ومناضلي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قد أبدى تحفظات في ما يخص طريقة تدبير المسار الاندماجي، بما يفيد أن المبادرة ليست نتاج قرار مرتبط بممارسة الديمقراطية التشاركية؛ ويتجلى ثانيها في كون المسار الاندماجي لا علاقة له بالاندماج بقدر ما يشكل محاولة لابتلاع حزبين صغيرين من قبل حزب يعتبر نفسه كبيرا؛ ويتمثل ثالثها في كون مثل هذا المسار، المسمى اندماجيا، يهدف إلى تقوية مواقع بعض القيادات أكثر مما يخدم أهدافا ذات أبعاد استراتيجية، وبالتالي فإن مثل هذا المسار الاندماجي لا يشكل إضافة كما لم يشكل اندماج الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إضافة تذكر في السابق.