أخذ فيلم “غاتسبي العظيم”، الذي عرض في افتتاح الدورة السادسة والستين لمهرجان “كان” السينمائي، للمخرج الأسترالي باز لورمان، عن رواية «غاتسبي العظيم» ( The Great Gatsby) للكاتب الأمريكي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد. نشرت هذه الرواية لأول مرة في عام 1925 ، وتعتبر واحدة من كلاسيكيات الأدب الأمريكي وإحدى أهم الوثائق الأدبية التي أرَّخت لعقد العشرينيات الصاخب، وهي فترة مفصلية شكلت نقطة تحول في حياة الأمريكيين، أخلاقياً ومادياً واجتماعياً، أطلق عليها فيتزجيرالد اسم عصر الجاز ( The Jazz Age)، فأضحى المسمى في ما بعد المصطلح المعتمد في الدوائر الأدبية، الأكاديمية منها وغير الأكاديمية. ويبدأ عصر الجاز مع نهاية الحرب الكونية الأولى، ومباشرة بعد رواج موسيقى الجاز، وحلة الرفاه التي مر منها الاقتصاد الأمريكي، مما انعكس على الحياة الاجتماعية وعلى العادات والتقاليد، وظهرت مواضعات اجتماعية جديدة، كان من بينها ازدهار فن الجاز وما رافقه من سعي نحو اغتنام الحياة بكل فصولها. و«غاتسبي العظيم» ليست محض حكاية غرام، بل، بالحري، قصة كد ومثابرة لشاب معوز، لكنه طموح مغامر ينطوي على إمكانات واعدة، يفشل في الزواج من فاتنته الموسرة، حتى بعد أن أصاب حظاً من الثراء فاحشاً. فإلى جانب التوثيق التاريخي والاجتماعي لحقبة عصر الجاز، فإن الرواية تعطي في تضاعيفها إلماعات إلى أحداث شخصية في حياة كاتبها، إذ لم يفلح فيتزجيرالد في الوقوف على مبعدة من حياته الخاصة، وهذه إحدى سمات أسلوبه، الذي يتميز بكثير من إسقاطات التجربة الشخصية والسيرة الذاتية، وهو أمر لا يدين الكاتب ولا العمل، فانشباك الفنان بأعماله الإبداعية مسألة جدلية قديمة قدم الإبداع نفسه. الرواية أشبه ما تكون بقصة اعترافية بحياة فيتزجيرالد مع زوجته زيلدا. فهو، كالراوي نك كارويه، شاب دائم التفكير، مثقف، من ولاية مينسوتا، يدرس في إحدى أعرق الجامعات الأمريكية (نك يدرس في جامعة ييلYale) ) وينتقل بعد الحرب إلى مدينة نيويورك. ويشترك فيتزجيرالد مع بطل الرواية جيه غاتسبي في أنه شاب يعبد الثروة ليقدمها ذبيحة تحت قدمي شابة فائقة الحسن يتيّم بها أثناء أدائه الخدمة العسكرية في الجنوب. المؤلف والبطل يأتيان من خلفية متواضعة، لكنهما ينجحان في مسيرتهما العملية في سن مبكرة نسبياً. وكما عاد فيتزجيرالد من نيويورك بعد رواج روايته الأولى للزواج من زيلدا (أنظر حياة الكاتب)، بعد أن كانت رفضته لفقره، يعود غاتسبي وقد وصل إلى غاية الثراء وخرج من الضيق إلى السعة بعد ضنك العيش وتباريح الشوق في جبهة الحرب، ليبحث عن ديزي التي كانت تزوجت من رجل آخر. وتسجل الرواية ما أصابته المرأة من نجاح في انتزاع حق المساواة مع الرجل، فما نراه من المُسلّمات الآن في الحياة الأمريكية كان حلماً بعيد المنال لدى النساء آنذاك. فمثلاً، لم تمنح ولاية نيويورك المرأة حق التصويت إلا عام 1917، أي قبل وقوع أحداث الرواية بخمس سنوات فقط، وهذا ينسحب على حقوق عديدة كحقها في السفر، وممارسة الرياضة، وقيادة السيارة، وما استتبع ذلك من ممارسات أتت بها الحرية والمساواة كالتدخين، وتعاطي المشروبات الكحولية، والحرية الجنسية . . . الخ، وهكذا تمتعت النساء في ذلك العصر بحرية لم يتسن لهن أن يحلمن بها من قبل، وكل ذلك كان حاضراً في ذهن فيتزجيرالد، الذي التقط كل تلك الجزئيات في مجتمع سريع في تطوره، متطور في إنجازاته. وتتطرق الرواية إلى قانون تحريم الخمور في أمريكا، الذي صدر في العشرينيات من القرن الماضي، والذي جرى التهليل له من الكنيسة، التي رأت فيه نصرا، بعد أن تضرر العمال من تناول الخمور صحيا وعقليا وأصبح المجتمع الأمريكي مهددا في موارده البشرية. يكتب الناقد العربي محمد رضا عن الفليل الذي افتتح مهرجان كان: «غاتسبي العظيم» حسب لورمان هو واحد من ست محاولات قدّمتها السينما في تاريخها عن تلك الرواية التي قال فيها النقاد إنها واحدة من أفضل الروايات التي تمثّل الولاياتالمتحدة، والحيرة بين الواقع والطموح وما ينتهي إليه من يخلط الحدود بين الاثنين فيخفق في الاثنين معاً». المرّة الأولى التي حولت فيها رواية «غاتسبي العظيم»، كانت سنة 1926، عبر الفيلم الصامت، الذي أخرجه هربرت برينون وقام ببطولته وورنر باكستر في دور جاي غاتسبي ودايزي بوكانن في دور حبيبته . النسخة مفقودة اليوم، لكن ناقدة صحيفة “ذ نيويورك تايمز” كتبت حينها بعنوان “ذهب وكوكتيل”: “هذه النسخة السينمائية ترفيه جيّد لكنها في الوقت نفسه من الواضح أنها كانت تستطيع استخدام الخيال أكثر مما فعلت”، وعن أداء باكستر وبوكانن قالت إنهما كانا يمثّلان «بتكلّف» . النسخة الثانية وردت بعد 23 سنة عندما قام إليوت نوجنت بتقديمها في فيلم من إنتاج باراماونت مع ألان لاد وبيتي فيلد. وهي نسخة اختلف حولها النقاد بين معجبين ومنتقدين، لكن الثابت، بعد مشاهدتها قبل سنوات معروضة على محطة TCM، أن السيناريو لم يستطع حمل ثقل الرواية ولا روحها الساخرة، ولا عرف المخرج ممارسة إلمام فعلي بالكتاب، فجاء الفيلم مسطّحاً في معظم جوانبه . كذلك فإن الممثل آلان لاد لم يكن معتاداً على تجسيد شخصيات مختلفة عن شخصياته المغامراتية التي عُرف بها، لذلك لم يختلف هنا في طريقة تمثيله عن أفلامه الأخرى، رغم أن الشخصية ومساراتها مختلفة تماماً. النسخة الثالثة (1974) هي الأشهر وأنتجتها أيضاً باراماونت مع بطولة لروبرت ردفورد وميا فارو، ومع لفيف من نجوم ووجوه السبعينيات، من بينهم كارن بلاك وبروس ديرن وسكوت ويلسون. العناية بالفترة التاريخية (العشرينيات) وبالأجواء البيئية جيّد في هذه النسخة، كذلك تمثيل ردفورد المناسب، ولو أنه ليس من أفضل أدواره . كتب السيناريو فرنسيس فورد كوبولا، وهو كاتب ماهر، ولو أنه لم يستطع التعامل جيّداً مع تلك السخرية التي انسابت بين أسطر فيتزجرالد، ولا استطاع المخرج كلايتون تنفيذ الكتابة على نحو من ينقل المضمون وأبعاد الفكرة على نحو صحيح . بالتالي، بدا الفيلم اصطناعياً، مما جعل مقارنة الفيلم بالرواية تميل لمصلحة الأصل على نحو حاسم. هناك نسخة خرجت سنة 2000 متمثّلة في فيلم صنع لحساب التلفزيون وتبع منهجه، حيث الدراما تتحوّل إلى «سوب أوبرا». هذا الفيلم كان من بطولة توبي (اسمه توبي ستيفنس) والممثلة ميرا سورفينو .