أتخيل أن مؤرخ المستقبل إن أراد أن يكتب التاريخ العربي المعاصر، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية حتى وقتنا الحاضر، سيواجه بمشاكل بالغة التعقيد. مشاكل المنهج المناسب قد تكون هي أقل المشاكل جسامة، لأن تتابع الأحداث وتعقيدها وتضارب رؤى الزعماء السياسيين، واختلاف الملوك ورؤساء الجمهوريات، والجدال بين المحلي والعالمي، والتفاعل بين العوامل الداخلية في كل قطر عربي والظروف الدولية، كلها تمثل مشاكل حقيقية للمؤرخ الذي يريد أن يقدم تاريخا موثقا يتسم بأقصى درجة ممكنة من الموضوعية. غير أن هناك عاملا آخر يزيد، ولا شك، من مشاكل مؤرخ المستقبل، وهو أن الحقبة التي نتحدث عنها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى وقوع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا عام 2011 يمكن وصفها بأنها كانت حقبة التطرف! وأنا أقتبس هذا الوصف من المؤرخ البريطاني الماركسي الشهير إريك هوبزباوم والذي أعطى لكتابه الفريد في تاريخ القرن العشرين عنوان «عصر التطرفات Age of Extremes»، ويعني به أنه كان عصر الصراعات الإيديولوجية الكبرى، أولا بين النازية والفاشية والديمقراطية، ثم بين الشيوعية والرأسمالية، ولا ننسى أنه في هذا القرن اشتعلت الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، مما جعل القرن العشرين زاخرا بالأحداث السياسية الدرامية، ومزدحما بالمعارك العسكرية، ومليئا بالصدامات الإيديولوجية الكبرى. ما الذي جعلني أقتبس عبارة «عصر التطرفات» التي استخدمها هوبزباوم لأصف هذه الحقبة المتميزة من التاريخ العربي المعاصر، وأقصد من عام 1945 نهاية الحرب العالمية الثانية إلى عام ثورات الربيع العربي في 2011؟ يعود ذلك إلى أنه -على غرار المعارك الإيديولوجية الأوربية الكبرى التي دارت في القرن العشرين- دارت معارك إيديولوجية شرسة في العالم العربي ابتداء من معارك القوى الوطنية العربية ضد قوات الاحتلال الإنجليزي في العراق ومصر، وضد الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان، وضد الاستعمار الإيطالي في ليبيا، وضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر. معارك عربية بطولية ضد الاستعمار بكل شراسة، راوحت بين المفاوضات السياسية لانتزاع حق الاستقلال الوطني، وحروب التحرير في أروع صورها كما حدث بالنسبة إلى الجزائر، بلد المليون شهيد، التي هزمت الجيش الفرنسي هزيمة ساحقة ولم يجد الرئيس ديغول مفرا من الاعتراف باستقلالها. مرت مرحلة الاستقلال الوطني بكل ما دار فيها من صدامات دامية، وبدأت المعركة الكبرى لبناء الدولة الوطنية المستقلة، وهنا تماما بدأ عصر التطرفات العربية الكبرى إن صح التعبير. هذا العصر تميز بتعدد الفاعلين السياسيين المتصارعين: لدينا، أولا، الصراع العسكري المدني بين القادة العسكريين الذين خططوا للقيام بانقلابات عسكرية تتيح لهم الحكم السياسي المباشر، كما فعل حسني الزعيم في سورية في مارس 1949، وكما فعل جمال عبد الناصر ورفاقه من «الضباط الأحرار» في مصر عام 1952، وكما فعل حزب البعث العراقي، في العراق وحزب البعث السوري في سورية، ومعمر القذافي وزملاؤه في ليبيا، وذلك في شتنبر 1969. غير أن أخطر من هذا الصراع بين العسكريين والمدنيين كان الصراع الإيديولوجي بين الشيوعيين والقوميين، ثم الصراع الدامي في إطار السعي إلى تحقيق الوحدة العربية، بين الدول التقدمية التي قادها الرئيس جمال عبد الناصر والدول التي اعتبرت رجعية أو، بعبارة أخرى، بين أنصار الاشتراكية أيا كان الوصف الذي سنعطيها إياه، وهل هي اشتراكية عربية أم تطبيق عربي للماركسية، وبين الداعين إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في كل الميادين، سياسة واقتصادا وثقافة. وفي هذا الإطار، نشأت في مصر -على سبيل المثال- المعركة التاريخية الكبرى بين جماعة «الإخوان المسلمين» وبين ثورة 23 يوليوز 1952 في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، ذلك أنه بعد فترة تعاون وثيقة بين «الإخوان» و»الضباط الأحرار»، سواء قبل الثورة -في سنوات الإعداد لها- أو بعد الثورة مباشرة، سرعان ما دبّ الخلاف لأن «الإخوان المسلمين» حاولوا أن يهيمنوا على الثورة ويقودوا خطاها، وهذا ما رفضه «الضباط الأحرار»، وبدأ الصراع الدامي بين الطرفين عقب محاولة اغتيال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية عام 1954، التي دبرتها جماعة «الإخوان»، مما أدى إلى صدور قرار بحل الجماعة ومحاكمة قادتها والزج بالألوف من أعضائها في السجون والمعتقلات، حيث لاقوا صنوفا متعددة من التعذيب، ووصل الصراع الدامي إلى ذراه بالقبض على منظّر «الإخوان المسلمين» المفكر سيد قطب وزملاء له بتهمة تكوين تنظيم لقلب نظام الحكم، وانتهت المحاكمة بإصدار الحكم بإعدام سيد قطب. كان هذا التاريخ الدامي بين جماعة «الإخوان المسلمين» وثورة يوليوز 1952 أحد مشاكل تقييم التاريخ المصري كجزء من التاريخ العربي. والسؤال الذي طرح وما زال مطروحا: هل كان عبد الناصر زعيما ثوريا استطاع، بتبنيه مشروع القوى الوطنية الذي صاغته قبل الثورة للإصلاح الاجتماعي، أن يقدم إلى الجماهير العريضة مشروعا قوميا عنوانه «الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية»، أم كان -على العكس- ديكتاتورا نكّل بخصومه السياسيين، وفي مقدمهم أعضاء جماعة «الإخوان المسلمين» وأعضاء الأحزاب الشيوعية السرية؟ هناك إجابات مختلفة عن هذا السؤال، وتتوقف الإجابة على: من هو الذي يجيب، وما هو توجهه الإيديولوجي، وما هو وضعه الطبقي، وما هي علاقته بثورة يوليوز 1952؟ يلفت النظر بشدة أن الذي تصدى للرد على هذا السؤال أخيرا هو الدكتور محمد مرسي، رئيس جمهورية مصر العربية، والذي قال -وإن كان بصورة عابرة- في أحد خطاباته: «الستينيات وما أدراك ما الستينيات»! ويقصد بذلك الأحداث المروعة -من وجهة نظره كقائد من قادة «الإخوان المسلمين»- التي حدثت لأعضاء الجماعة في هذه السنوات، من محاكمات يعتبرونها ظالمة، ومن اعتقالات وتعذيب. وهذا التصريح لم يدهش المراقبين السياسيين، لأنه يعبّر عن العداء التاريخي بين جماعة «الإخوان» وثورة يوليوز 1952 ومع جمال عبد الناصر، باعتباره الزعيم الشعبي الذي كانت له جماهيرية كاسحة، ليس في مصر فقط ولكن في العالم العربي من المحيط إلى الخليج. إلا أن ما أدهش المراقبين السياسيين حقا هو تصريح آخر لمرسي في خطابه الذي ألقاه في عيد العمال الذي احتفل به للمرة الأولى في قصر رئاسي هو قصر «القبة»، وليس في ميدان عام كما كانت العادة من قبل، وقال فيه -ويا للدهشة البالغة- «إنني سأسير على خطى جمال عبد الناصر الذي أسس قلعة صناعية لمصر». كيف استطاع الرئيس مرسي أن يتجاوز العداوة التاريخية المتأصلة بين جماعة «الإخوان المسلمين» والناصريين بهذا التصريح بالغ الأهمية، والذي يحمل في ذاته تقديرا عاليا للإنجازات الوطنية والتنموية لبعد الناصر؟ لذلك لم يكن غريبا أن يتقدم الصفوف مفسرا هذا التصريح أحد قادة «الإخوان» قائلا -لا فض فوه- هذه ليست «إشادة» بعبد الناصر وإنما هي نوع من أنواع «الإنصاف»! في هذه العبارة الأخيرة تكمن مشاكل التاريخ العربي المعاصر، والتي تتمثل في التحيز الإيديولوجي والموضوعية العلمية. ولكن، هل هناك حقا موضوعية كاملة في كتابة التاريخ؟ لقد سبق لجونار ميردال، العالم الاجتماعي السويدي الشهير، أن نقد مقولة الموضوعية في العلم الاجتماعي، حين قرر ببساطةٍ أخّاذة وآسرة: «الموضوعية هي أن تعلن ذاتيتك منذ البداية»!