لو صدق الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط في قوله عن الحكومة نصف السكرانة، لجاز القول له: «خل السلاح صاحٍ يا حميد»، فالتعديل قادم. ولكن ما العمل، إذا كان نبيل بعبد الله، شريكه في الحكومة، براء من هذا القول، ويعتبره مجرد تخريف لا غير وإلهاء للحكومة التي هي منشغلة ب»المسائل الكبيرة والعظيمة» وتسعى إلى تحقيق المنجزات الواعدة وتتعفف عن الانجرار إلى السفاسف. فهذه ليست المرة الأولى التي يثير فيها شباط موضوع الوزراء المخمورين، إذ سبق أن ألمح قبل أيام إلى قدوم وزير في حكومة السِّي عبد الإله إلى القبة وهو في حالة سكر. والأكيد أن شباط اهتدى إلى ذلك بأرنبة أنفه، و»الأرنبة» ليست ك»السلوقية»، لا يمكن أن يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وشباط زاد ركعة في الصلاة حينما رفع «البارّة» عاليا وهزّ الشباك من جديد بأن اتهم الحكومة نصف الملتحية بكونها «حكومة نصف السكايرية». ولا نعرف، هذه المرة، على وجه التحديد، ما إن كان السيد حميد يقصد حرفيا ما يقوله أم إن لغة الفصاحة والبيان خانته، وإنه ما كان يعني «السكر» بالخمور ومشتقاتها وإنما «السكر» عن حال البلاد والعباد وعدم مجابهة المشاكل الحقيقية للمواطنين في بلاد تمرّ من «عنق زجاجة» الأزمة وتشحن نفسها بمزيد من القروض والديون من البنك الدولي وغيره، ولا ينفع معها «عنق زجاجة بولبادر». لو كان السيد حميد يقصد هذا المعنى الأخير لهانت الأمور ولربما كان له فضل ابتداع المعاني؛ أما إذا كان يقصد بالسكر المصطلح المعروف عند شيوخ الصوفية، فإنه يكون بذلك قد بلغ شأوا بعيدا في التلميح إلى حالة الحيرة التي توجد عليها الحكومة اليوم، ذلك أن مقام الحيرة في المصطلح الصوفي، كما هو معروف، أدنى مقام في سلم الارتقاء الصوفي، تتبعه مقامات كثيرة، منها مقام القرب ومقام البعد ومقام الوصول، ليكون مقام السكر هو أرقى مقام، تتوحد فيه الذات بالصفات وتبلغ درجة الصفاء. فإذا كان هذا هو المعنى الذي أراده «الشيخ» حميد عندما وصف أهل الصفا وخلان الوفا في الحكومة نصف الملتحية بكونهم سكارى وما هم بسكارى، فإنه يكون قد حاز قصب السبق في إطلاق هذا التوصيف بالغ الدلالة، والذي لا يفقه فيه إلا الضالعون في «الأحوال وتقلباتها». لو كان الشيخ محيي الدين بن عربي على قيد الحياة لفهم «اللفتة» الشباطية، فللمتصوفة عالم خاص من اللغة قائم الذات، لا يلجه إلا مجرب، ولهم «أذواق» هي التي تقودهم إلى تلك المقامات العالية، ولهم «اللطيفة»، وجمعها «لطائف»، وهي أقوال مضغوطة بشكل جيد ومرمزة ومستغلقة المعاني، لا يفك شيفراتها إلا من يملك «الكود بوك» الصوفي، حتى يلج إلى هذا العالم الذي لا يكتمل، حتما، إلا ببلوغ مقام السكر؛ حتى إنك تراهم سكارى وما هم بسكارى، وهذا هو الفعل السامي الذي يفوق طاقة البشر، أو ربما يزوده بطاقة أخرى بديلة، قادرة على استغوار المسائل البعيدة واستخلاص الخلاصات؛ فمع مقام السكر تنجلي الحقيقة ويزول اللبس ويسدر المتصوف من السماء الدخانية إلى سماء الحديد التي لا ينفذ إليها إلا من كان يملك سلطان العلم وغيره. الذين يحكمون بالظاهر، سارعوا إلى مهاجمة واستنكار تصريحات شباط وأوغلوا في اتهامه بشتى أنواع الكلام الكبير، في حين أن نية الرجل كانت حسنة ولم يقصد ظاهر الكلمات، فالمظاهر خداعة كما يقال. إن هؤلاء المغرضين يريدون أن يخلقوا «وزارة» مبتدعة في حكومة معالي السيد رئيس الحكومة، اسمها «وزارة شم الأفواه والمحاليل»، بحيث تكون مهمتها الأولى والأخيرة هي الشم اليومي لأفواه السادة الوزراء وأخذ عينات من دمهم بداية كل أسبوع إلى المختبر لمعرفة من تناول المشروبات الروحية في «الويكاند» ومن يصبر على نفسه حتى يغادر سدة الحكومة، وحينذاك فأرض الله واسعة. إن لسان حال حميد يقول: لا ضير أن تسكر، بل الضير أن تسكر عن مشاكل الخلق من المغاربة الذين ينتظرون مع الحكومة «الحلول» وليس «الحلول الصوفي». هذا أغلب الظن، وإن كان بعض الظن إثما، والله أعلم.