غير خاف أن الدول المتقدمة التي سيستقدم الوزير جامعاتها إلى المغرب، لم تصل إلى مكانتها المشرفة العلمية والاقتصادية والثقافية وغيرها، إلا بفضل استعمالها للغاتها الوطنية ممارسة وتحصيلا وتدريسا وتلقينا وإبداعا وتأليفا في مختلف أنشطتها الأدبية والعلمية والفنية والتقنية وغيرها، وما نقلته إليها من معارف وعلوم بصورة مطردة، وما جندته من جهود جمة في هذا السبيل، وما حققته من مشاريع بحثية ضخمة ومتنوعة ترجمية ولسانية وغيرها، وبنيات مؤسساتية وافرة كإنشاء كل واحدة منها العشرات من الكليات الخاصة بالترجمة المكتوبة والفورية والمئات من المدارس والمعاهد العليا لتدريس اللغات في مختلف ربوع أوطانها، مقابل هذا نخجل ونعجب لوجود مؤسسة جامعية واحدة خاصة بتدريس الترجمة، ذات الولوج المحدود، إلى حد الآن بالمغرب، وهي : «مدرسة الملك فهد العليا للترجمة» بطنجة، التي تأسست سنة 1983 بمبادرة ودعم من المملكة العربية السعودية !! كما نستغرب عدم وجود أي مؤسسة ترجمية بجميع الكليات متعددة التخصصات التي أحدثت، منذ عقد من الزمن، بمختلف جهات البلاد، حيث يصح تسميتها بالكليات مكرورة التخصصات لاحتوائها على التخصصات المألوفة في تعليمنا العالي منذ الاستقلال إلى الآن، التي تلقن في كليات الآداب والعلوم والحقوق. إن اللغة الوطنية الرسمية ركيزة أساسية في مجال البحث العلمي عند الدول المتقدمة جمعاء، إلى حد لا يمكن الفصل بينهما توخيا لتعميم فائدة ثمارهما على مواطني هذه اللغة بالدرجة الأولى، كما لا يمكن الفصل بين هذا الثنائي اللغة والبحث العلمي وبين الترجمة التي تغنيهما وترفدهما بمختلف ما تزخر به المعارف والعلوم الإنسانية والحقة. إن توطين التكنولوجيا أو تحويل المغرب إلى بلد تكنولوجيا حسب تعبير الوزير الوصي، له شروطه وحيثياته ومراحله، ولن تقوم له قائمة بمعزل عن هذا القطب ثلاثي الأركان، الذي يظل من الشروط الأساسية لتلاقح وسموق الحضارات وارتقاء الأمم والشعوب والدول ماضيا وحاضرا. من هنا تكتسب اللغة الوطنية معناها وهويتها وحياتها، وبعبارة أدق جوهرها الذي هو سمة بارزة من سمات الحضارة والتقدم الإنساني، التي تتميز بها الدول المتقدمة عن نظائرها المتأخرة، إذ لا نجد بين هذه الدول المتقدمة دولة رضيت باستعمال لغة غيرها بديلا للغتها الوطنية، إلا الدول المتخلفة والسائرة في طريق النمو. وهكذا تصبح هذه السمة معيارا نقيس به مدى امتثال اللغة الوطنية عند شعب من الشعوب أي مدى تقدمها أو تأخرها في سلم التقدم والنماء على الصعيد الدولي. الأمر نفسه يمكن قوله عن البحث العلمي والترجمة اللذين يعرفان نشاطا شاسعا مكثفا في العالم المتقدم وفتورا كبيرا في العالم الثالث. إن الإصلاح في مجال التربية والتكوين على وجه التحديد لا تقوم له قائمة إلا انطلاقا من صميم بنيته وإملاءاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها لا خارجها، إن توخي مقاما مشرفا لجامعاتنا على المستوى القاري أو الأورومتوسطي أو العالمي لن يستقيم ويبلغ شأوه ما دام دكاترتنا يستنزفون ويحترقون كل يوم وحين منذ ما يزيد عن 15 سنة في وضعية مخجلة جدا تتميز بالتبخيس والتهميش والشتات والحصار والمهانة على كافة الأصعدة مهنيا وماديا ومعنويا وعلميا وقانونيا، وهو موضوع أفضنا الحديث عنه في سلسلة من حلقات دراستي المنشورة بجريدة «المساء» السنتين السابقتين. فكيف يسوغ في ظل هذا الوضع تحقيق حلم الوزير بتحويل المغرب إلى بلد تكنولوجي خلال 10 سنوات على غرار الدول المتقدمة كاليابان التي يكمن سر تقدمها التكنولوجي في كون قادتها منحوا المعلم «راتب وزير وحصانة دبلوماسي وإجلال الإمبراطور»، حسب قول رئيس وزرائها الذي تناقلته العشرات من المواقع الإلكترونية. إنه مرمى يندرج في إطار استراتيجية معكوسة تنبثق من منظور نفعي مادي صرف، ومن مفهوم قاصر ومعطوب لمعنى البحث العلمي، وفصل ساذج و عقيم بين العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية، ومن خلفية يكمن بيت قصيدها وواسطة عقدها، في تعبيد السبيل بشكل تعليلي احتيالي لإنهاء التعليم المجاني بالتعليم العالي، مقابل فتح المجال لنظيره الطبقي الجاني للمال والأرزاق، دون أن تفيدنا بتحديد دقيق وشامل للبحث العلمي الذي هو قوام تقدم الشعوب والدول، وكيف توفينا بذلك وصاحبها الوصي على قطاعها لا يعترف بالبحث العلمي إلا في مجال العلوم التطبيقية كالهندسة وغيرها، ما جعله يحط من قدر الآداب والعلوم الإنسانية، ويعلي من شأن الهندسة والمهن الجديدة حينما قال: «البلد ليس في حاجة إلى كليات الآداب، بل إلى المهندسين والمهن الجديدة»، وكأن الإنسان آلة تفتقر إلى عنصر الحدس و الخيال الذي يدين له جهابذة العلم وفلسفته بالشيء الكثير، كغاستون باشلار وإيمانويل كانط وألبير إينشتاين، وكأن البحث العلمي هو وسيلة وغاية، وموضوع وهدف في الآن عينه، مقصور وحكر على هذه المجالات العلمية التطبيقية دون غيرها كالفلسفة والآداب والفنون، باعتبار أن طبيعتها لاعلمية ولا تمت بصلة إلى ما هو علمي أو بحث علمي !!! بمعنى أن فاقد الشيء لا يعطيه لكونه ليس علميا حتى مع نفسه وأقواله حينما يتناقض في مواقفه بمختلف المناسبات، حيث نجده على سبيل المثال في ندوة «استراتيجية الحكومة في النهوض بالبحث العلمي»، يوم 16 أكتوبر 2012، يقول: «الدخل السنوي للبلاد لا يسمح بتمويل الاقتصاد، وتمويل الجامعة، وتمويل البحث العلمي»، بينما يقول في برنامج قضايا وآراء، حيث استضافته القناة الأولى يوم 26 فبراير 2013، لمناقشة موضوع «البحث العلمي بالمغرب»، ما يلي: «ليس هناك مشكل في التمويل بل في تدبير البحث العلمي، لأنه يوجد تمويل مهم هذه السنة والسنة القادمة»، و«لماذا نأتي بالخبراء من الخارج، وهذا إهدار غير معقول»، ما يتناقض مع استراتيجية استقدامه لمجموعة من الجامعات الأوروبية والكندية والأمريكية وإقامتها في مختلف ربوع المغرب. بل وصل هذا التناقض والاختلال إلى إطلاق الكلام على عواهنه بروح تهكمية، كقوله في البرنامج المذكور: «إن ارتفاع عدد العاطلين يعود إلى سبب تكاثر النسل بالبلاد في السنين الأخيرة»، ودعوته تحت قبة البرلمان يوم 23 يناير 2013، إلى وجوب استغلال عشبة الكيف أو القنب الهندي، بصورة منتجة، باعتبارها ثروة وطنية، قبل أن يردف قائلا: «وعلاش ما نديروش البحث العلمي فيه، وما يبقى حد يدير السبسي؟ نحن لا نقوم بالبحث العلمي، وثروة بين أيدينا تركناها لتخرب المجتمع عوض أن تبنيه». كما أعطى إحصاء شاملا لأنواعها الموجودة في كل ربوع البلاد، التي حددها في 4200 نوع، قبل أن يصرح قائلا: «لا نستغل منها سوى 200 نوع»، ليختم قوله بأن: «كل من يملك هكتارا من الأرض لا يجب أن يكون فقيرا». هذا هو الرأي الثاقب والفكر الخارق لكل نمو وتطور وتقدم، الذي توصل إلى إيجاد بديل للبحث العلمي ومحاربة الفقر بالمغرب !!! ليس أخرب وأغرب حالا وأعطب وضعا من بقاء وضعية ثرواتنا الوطنية الأكاديمية العليا: دكاترتنا العاملون في مختلف أسلاك الوظيفة العمومية تحت نير الإقصاء والتهميش والحيف والجور والتنكيل والمهانة والمذلة طيلة أكثر من 15 سنة !! ليس أرن جهلا وجحودا وجورا واحتيالا من أن يزيد المسؤولون دكاترتنا تكبيلا ولجاما وحصارا وحرمانا، حتى من الترشح للتباري في مجموعة وافرة من المناصب العليا، لاشتراطهم شروطا تعجيزية أمامهم، كتلك التي أعلن عنها لحسن الداودي الوزير الوصي على التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، بناء على قراره رقم 091066/06، الصادر بتاريخ 15 نوفمبر 2012، لشغل المناصب التالية: مدير المركز الوطني للبحث العلمي والتقني، ومدير المكتب الوطني للأعمال الجامعية والاجتماعية والثقافية، ومدير الموارد البشرية والميزانية، ومدير التقييم والمستقبلية، حيث قيد باب ترشيحها بشروط تتسم بالإقصاء والتحيز والتعجيز، كالتوفر على «تجربة ثابتة مهنية كأستاذ التعليم العالي من الدرجة ج أوب»، أو «كباحث بمؤسسات وطنية أو أجنبية للبحث العلمي لمدة 20 سنة على الأقل ومشهود له بالكفاءة العلمية»، وعلى «تجربة ثابتة في التعامل مع مؤسسات البحث العلمي الدولية وصيغ الاستفادة من تمويلاتها، وخاصة منها الأوروبية والأمريكية الشمالية»، وكذا في «مجال إنجاز دراسات اجتماعية واقتصادية أو ديموغرافية أو هما معا»، ما ينافي ويناقض جملة وتفصيلا القوانين التنظيمية المنوطة بالتعيين في المناصب العليا وغيرها. أي دور لمديرية التقييم والمستقبلية حينما تعنى بتحيين وتوزيع استمارة دراساتها، منذ 20 يناير 2012، على مؤسساتها الجامعية التابعة لها، فيما يخص «الحاجيات من هيئة التدريس الدائمة حسب التخصص في أفق 2020»، مع التركيز على إحصاء وتحديد «الحاجيات السنوية لتعويض المحالين على التقاعد»، دون أن تعنى بإحصاء دكاترتنا المطرودين من حظيرتها، العاملين بمختلف أسلاك الوظيفة العمومية، باستثناء نظرائهم المنتمين إلى قطاع التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، البالغ عددهم 409 دكاترة، الذين حددت لهم 300 منصب لتحويل إطارهم إلى أستاذ التعليم العالي مساعد عبر التباري في شأن مناصبها !!. أي إحصاء توافينا به هذه المديرية عندما تحدد الخصاص الآني في هيئة التدريس بمؤسساتها على لسان وزيرها الداودي في 2500 أستاذ للتعليم العالي مساعد، بينما حدده محمد درويش، الكاتب العام السابق للنقابة الوطنية للتعليم العالي، في 5000 أستاذا!.