تعالت الدعوات في العالم العربي منذ ثلاثينيات القرن الماضي لإصلاح اللغة العربية التي اعتبر البعض أن العصر تجاوزها، خاصة انطلاقا من اللحظة التي قرر فيها أب الأتراك، مصطفى أتاتورك، إحلال الحروف اللاتينية محل الحروف العربية في كتابة اللغة التركية. لقد دعا بعضهم، مثلا، إلى الحذو حذو حفدة العثمانيين، كما دعا بعضهم الآخر إلى إجراء عملية تجميل على اللغة العربية تجعلها أقل تعقيدا، من قبيل تسكين أواخر الكلمات بدل إعرابها، وحذف المثنى بحكم أنه لا وجود له في اللغات الهند-أوروبية التي تنتقل من المفرد إلى الجمع مباشرة معتبرة أن هذا الأخير يبدأ بمجرد اجتماع شخصين إلى بعضهما البعض. إلا أن هذه الدعوات تعثرت كثيرا ولم يكتب لها النجاح أبدا، وكان لابد من انتظار حلول عصر الثورة الإلكترونية ومطلع الألفية الثالثة معا، لكي تظهر بعض البوادر التي توحي بأن عملية «الإصلاح» قد بدأت على هذه اللغة «العتيقة»، في ارتباط مع «إصلاحات» شتّى تعرفها مجالات شتّى في بلدان عربية شتّى. أول بادرة على هذا الصعيد تمثلت، كما هو معلوم، في المجهودات الحثيثة التي تبذلها وسائل إعلامنا العمومية المسموعة المرئية والخصوصية المسموعة من أجل خلق لغة جديدة تخلط العربية بالفرنسية، ونتشرف بمشاهدة «بروفاتها» الأولى عبر تدخلات المواطنين في نشرات الأخبار ومساهماتهم في كثير من البرامج أو الاتصالات الهاتفية. وهي لغة يمكن أن ننعتها بأنها «ثورية» فعلا (رغم أن بعض الثيران تتبرأ منها)، وذلك بالضبط لأنه لا يمكن لأحد سوانا (نحن مغاربة القرن الواحد والعشرين) أن يفهمها، بما يجعلها شبيهة ب»لغة الغوص» التي اخترعها جيلنا في مطلع مراهقته وكان يتخاطب بها بسهولة أمام البالغين الذين كانوا يعجزون عن فك مغاليقها المبهمة والمستعصية على أذهانهم. وتتمثل بوادر «إصلاح» اللغة العربية، أيضا، في المجهودات الخارقة للعادة التي تبذلها العديد من المواقع الإلكترونية الإخبارية في تباريها من أجل وضع قواعد جديدة للغة العربية، سواء على مستوى الإملاء أو النحو أو الصرف؛ حيث نقرأ، مثلا، عن معتدى عليه أنه «وجد مدرجا في دمائه» (في حين تعتبره اللغة القديمة «المتخلفة» مضرجا، بالضاد لا الدال)؛ أو نقرأ «حسب بعد المعطيات» بدل «بعض»؛ لكن هذه الأفضلية المعطاة للدال ليست قاعدة عامة حيث نقرأ في منبر إلكتروني «الضفاضع» (بدل الضفادع)، وهو اجتهاد طلائعي في إبداعه، لأنه اختار تكرار الضاد (في لغة الضاد) بدل الدال، وإلا فلنتصور كيف ستكون الكلمة لو صارت «الدفادع»؟ تماما مثلما أبدع المراكشيون ذات يوم فأطلقوا على الثلاثاء اسم «الطلاط» وليس «التلات»، على اعتبار أن دلالة الكلمة الأخيرة عميقة جدا وليست سطحية مثل الأولى. لا يتوقف الاجتهاد، طبعا، عند هذا الحد؛ حيث نقرأ «المسائلة الشهرية بمجلس النواب» بدل المساءلة، و»الأحبال الهاتفية» بدل الحبال؛ لكن ما يبدو غير مفهوم على الإطلاق ضمن عملية «إصلاح» اللغة هذه هو عدم اعتراف أصحابها بالنصب والجر واقتصارهم على الرفع في جميع الحالات، حيث نقرأ في مواقع إلكترونية عناوين من نوع: «إسرائيل تمنع برلمانيان مغربيان من دخول فلسطين» (بدل: برلمانيين مغربيين)، و«تمكنت المتهمة من التعرف على المتهمان الرئيسيان» (بدل: المتهمين الرئيسيين)، و«مصرع شخصان في حادثة سير بالقنيطرة» (بدل: شخصين). قد يعتقد البعض أن هذا الخيار يعبر عن موقف من المثنى في اللغة العربية «العتيقة» إلا أن «الرفع» يتجاوز المثنى إلى الجمع حيث نقرأ عنوانا يقول «أقدم جامعة في العالم العربي تتعرض للسرقة من قبل مجهولون في فاس» (بدل: مجهولين)؛ الشيء الذي لا يعمل إلا على تعزيز فرضية، أطلقها «مجهول» (من عائلة التمر المعروف بهذا الاسم) على الشبكة العنكبوتية، تقول إن هؤلاء «المصلحين» (من «المصلوح»، طبعا) يفضلون الرفع، في اللغة، على غيره، لأنهم بدورهم «مرفوعون». والدليل على ذلك نشرهم لجملة «إلكترونية» تقول : «لم تخلف الحادثة أية خسائر بشرية في الأرواح»، وكأن الخسائر البشرية يمكنها أن تحصل في غير الأرواح. والله أعلم.