من الصعب اتهام الصحفي باتريك كوكبيرن بمناهضة المحور الإيراني، ولاسيما أنه وصحيفته «ذي إندبندنت» وزميله الأشهر فيها روبرت فيسك، متعاطفون إلى حد ما مع نظام بشار كما يتبدى من تغطيتهما للأحداث في سوريا، مع التذكير بأنهما كانا دائما مناصرين للقضايا العربية. والنتيجة أنه في تقييمه للوضع العراقي لا ينحاز إلى «المؤامرة القطرية التركية»!! ضد العراق كما يردد أزلام المالكي، بقدر ما يفعل ذلك من منطلق رؤيته كصحفي يعرف العراق وسبق أن زاره مرارا قبل الاحتلال وبعده. في تقريره (الذي نشره يوم الاثنين 4 مارس)، يلقي كوكبيرن الضوء على وضع العراق بعد عشر سنوات من الاحتلال، مقرا في البدء بأنه يتحدث عن الغزو الذي أعاد «تشكيل الخريطة الدبلوماسية للعالم»، الأمر الذي لا ينتبه إليه كثيرون في معرض الحديث عن الغزو وتداعياته، ذلك أن أمريكا قبل غزو العراق كانت شيئا، وبعده أصبحت شيئا آخر. فقد استلم بوش الابن من سلفه كلينتون دولة في ذروة قوتها، حتى قيل إنها أقوى إمبراطورية عرفها التاريخ البشري، لكن التورط في مستنقع العراق وأفغانستان تحت ذريعة محاربة الإرهاب كشعار معلن، ومن أجل إعادة تشكيل هذه المنطقة لحساب الأحلام الصهيونية التي صاغها المحافظون الجدد كهدف حقيقي.. هذا التورط فرض على القوة الأمريكية تراجعا كبيرا، ووضع العالم في إطار من التعددية القطبية بدل نظام القطب الواحد الذي جاء بعد نظام القطبين قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. وإذا جئنا نفتش عن السبب الذي أوصل الغزو الأمريكي إلى الفشل، فإن المقاومة ذات الطابع السنّي في معظمها، وأقوى فصائلها تنظيم القاعدة، هي السبب الحقيقي، حتى لو وُضع البلد بعد ذلك لأسباب عديدة (فصّلنا فيها مرارا خلال الأعوام الماضية) في حضن إيران. كل ذلك لا ينبغي أن يغير من حقيقة الخدمة الجليلة والتاريخية التي قدمتها المقاومة العراقية إلى الأمة (ومن ضمنها العراق)، ممثلة في إفشال مشروع الغزو الذي كان ينبغي أن يضع العالم العربي -بل الشرق الأوسط برمته- أسير الهيمنة الصهيوأمريكية، ويعيد تشكيل هذه المنطقة سياسيا وثقافيا، وربما جغرافيا أيضا. في تقييم وضع العراق بعد عشر سنوات من الاحتلال، وفي ظل التأزم السياسي الراهن إثر انتفاضة العرب السنة، يجري التركيز على المظالم التي تعرضت لها هذه الفئة التي عانت من الإقصاء والتهميش تحت مسمى اجتثاث حزب البعث. والواقع أن البعد الطائفي كان حاضرا في السياق، أعني ميل بعض القوى الشيعية إلى السيطرة الكاملة على البلد المتهم بالخضوع سابقا لاستعمار سنّي يمثله صدام حسين، رغم ما في هذه المقولة من تزييف لوقائع التاريخ. لهذا البعد خصص كوكبيرن تقريرا آخر نشره في اليوم التالي للأول، حيث ركز من خلاله على انتفاضة العرب السنّة، ونقل فيه رؤية هذه الفئة لما يحدث في العراق ولما تعرضت له من إقصاء وتهميش، في حين تكفلت صحيفة «ذي غارديان» بفضح التواطؤ الأمريكي مع بعض القوى الشيعية في سياق السجون السرية والاعتقالات والقمع والتعذيب. وعموما، لا يبدو أننا بحاجة إلى مزيد من الأدلة على الدكتاتورية التي أنتجها المالكي في عراق ما بعد الاحتلال. يكشف كوكبيرن في تقريره الأول حقائق مذهلة عن الوضع البائس للعراق: وضع يتجاوز مظالم السنة إلى عملية فساد وإفساد لم يعرف لها التاريخ مثيلا. ويبدو أن شعور الشيعة بالحاجة إلى السيطرة على البلد، واعتقادهم بوجود من يتربصون بهذه السيطرة، قد دفعهم -في ظل حشد طائفي يجتاح المنطقة- إلى التسامح مع دكتاتور فاسد، وتشبث هو بخطاب طائفي من أجل تجييش الناس من حوله، بينما كان يرتكب جريمة كبرى في حق سائر العراقيين، وإن خصّ فئة منهم بمظالم أكبر. يقول كوكبيرن إن سجل الفشل الذريع لعراق ما بعد صدام يثير العجب بسبب الثروة النفطية التي يملكها والتي بلغت عائداتها مائة مليار دولار، إذ لا بنايات جديدة في بغداد (كذلك البصرة)، باستثناء المواقع العسكرية والأمنية المحصنة. وينقل عن مستشارة في الحكومة قولها «إن الأموال الكثيرة التي أنفقت على إصلاح شبكات الصرف الصحي، إما أنها صرفت على مشاريع لم تتحقق أو بنيت بطريقة مغشوشة، وكل هذا مرتبط بالفساد، السر الذي يعرفه الجميع والذي يأكل مقدرات البلاد، ويعني عجز الحكومة عن توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، مثل الطاقة الكهربائية والمياه الصحية». في هذا السياق، تسمع العجب العجاب في بلد تعرض لأكبر عملية نهب -ربما في التاريخ البشري- تولى كبرها المالكي والعصابة التي تحيط به، والتي تحوّل أعضاؤها من فقراء، كان بعضهم يتلقى المعونات الحكومية في الدول الغربية، إلى أثرياء يملكون عشرات ومئات الملايين. ونقل كوكبيرن عن وزير سابق قوله: «خفت قبل سبعة أو ثمانية أعوام أن يصبح العراق مثل نيجيريا، لكنه في الحقيقة بات أسوأ منها». وأشار إلى عقد لإصلاح شبكة الطاقة الكهربائية بقيمة 1.3 مليار دولار مع شركة كندية موجودة على الورق فقط، وأخرى ألمانية أعلنت إفلاسها. الأسوأ بالطبع هو الوضع الأمني، إذ لا تزال بغداد ومعها وسط العراق، من أخطر المناطق على وجه الأرض من ناحية التفجيرات والاغتيالات وعمليات الخطف التي يطال أكثرُها المدنيين وتستحق الإدانة دون شك. ويرى كوكبيرن أن العنف في العراق الآن ليس عنفا سياسيا فقط، إذ أدى تفكك المجتمع المدني إلى عودة الناس إلى تسوية حساباتهم من خلال قانون القبيلة. أما نوري المالكي الذي يحكم منذ عام 2006 -يضيف كوكبيرن- فقد تحول نظامه إلى شبه دكتاتورية تستخدم أدوات قمع متطورة مثل السجون السرية والتعذيب. ويضاف إلى هذا احتكاره للسلطة والسيطرة على الجيش والأمن وميزانية البلاد، بحيث يحصل هو ومؤيدوه على نصيب الأسد من العقود والوظائف. وقد أظهرت دراسة أن المسؤولين العراقيين يعملون 17 دقيقة في اليوم!! وهو ما يؤدي إلى الفساد والمحسوبية وحب الذات، وبالتالي حكومة عاجزة. يرى كوكبيرن أن الأزمات السياسية هي من إفرازات النظام الذي أقامه الأمريكيون في العراق، إذ إن زلماي خليل زاد هو من عيّن المالكي لأنه كان واحدا من الشيعة القلائل المقبولين أمريكيا وإيرانيا، بينما كان استقرار العراق مصلحة للطرفين. بقي القول إنه لولا الحشد الطائفي الذي يغطي على عورات المالكي لثار الجميع ضده، وفي مقدمتهم الشيعة وليس العرب السنة وحدهم كما يعتقد البعض (الأكراد يتمتعون بما يشبه الاستقلال)، وجميعهم يعانون أشد المعاناة من فساد نظامه الذي يستند إلى أنه نتاج تعددية سياسية!! من هنا، يبدو أن حشر الأزمة بالعراق في مسألة العرب السنة وما يتعرضون له من إقصاء وتهميش إنما هو نتاج الحشد الطائفي الذي يجتاح المنطقة، وفي مقدمتها العراق. لكن الحقيقة هي أن فساد السلطة يتجاوز هذه الفئة إلى عموم العراقيين، وليس لدينا شك في أن المالكي كان طوال الوقت حريصا على تعميق البعد الطائفي، لأنه يساعده في تجييش ما يزيد على نصف السكان (إذا استثنينا الأكراد) إلى جانبه خوفا من عودة الوضع السابق. الديمقراطية والتعددية التي تبنى على أساس طائفي لا يمكن أن تكون مقبولة، ولاسيما حين تستخدم فئة من الناس ضد أخرى للتغطية على فسادها، وهذا بالضبط ما يفعله المالكي وعصابته. هذه رؤية خاصة للعراق بعد عشر سنوات من الاحتلال، لم نتعرض فيها للإحصاءات التقليدية التي تتوفر في سائر المواقع عن أعداد الضحايا (قتلى وجرحى) والمهجرين والسجناء، وسائر الإحصاءات المشابهة.