لن يختلف إلا قلة من المؤرخين في إعتبار الحرب الأمريكية المباشرة ضد العراق أحد أطول حروب العالم المعاصر، حيث إنها امتدت من سنة 1991 حتى سنة 2012 أي عبرت الفاصل بين قرنين. وحتى مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لا يستطيع أحد أن يجزم رغم تصريحات واشنطن الرسمية عن سحب قواتها من العراق بأن هذه الحرب قد انتهت. ففي بداية سنة 1991 وبعد ستة أسابيع تقريبا من الحرب التي قادتها الولاياتالمتحدة مع تحالف ضم 32 دولة وأسفرت عن إنسحاب القوات العراقية من الكويت، تم الإعلان رسميا عن نهاية الحرب، ولكن ذلك كان كذبة، فطوال الإثنى عشرة سنة التي تلت ذلك شنت واشنطن ولندن وبعض حلفائهما حروبا مفتوحة على العراق، حصار إقتصادي شبه شامل أسفر عن وفاة أكثر من مليون شخص غالبيتهم من الأطفال والنساء، وحملة قصف جوية متواصلة فاق حجمها السنوي حسب أرقام القوات الحليفة 9500 غارة، أضف إلى ذلك الهجمات التي لم تكن تتحدث عنها الأوساط الرسمية والتي كانت تقوم بها القوات الخاصة الأمريكية والبريطانية داخل بلاد الرافدين. فشل الطابور الخامس عندما فقدت واشنطن ولندن ومن سار في ركبهما الأمل في أن ينهار العراق من الداخل رغم كل ما كان يتعرض له من مؤامرات وتخريب طابور خامس، وقع غزو سنة 2003. تصور الحلفاء أن بلاد الرافدين ستكون لقمة سائغة بعد سقوط بغداد في 9 أبريل 2003، وأنهم سيستطيعون مع من أتوا بهم على متن دباباتهم من أنصارهم العراقيين والإيرانيين، تملك بحر النفط العراقي الذي تفيد آخر التقديرات أنه يفوق 530 مليار برميل أي أكثر من ضعف مخزون السعودية. الواقع نسف تلك التطلعات والتصورات حيث تواصلت الحرب بإسلوب المقاومة الشعبية، وإكتشف البنتاغون أن العدة لحرب العصابات هذه وضعت قبل أشهر طويلة من بداية الغزو. غاصت القوات الأمريكية البريطانية في مستنقع الحرب في بلاد الرافدين وإجبرت واشنطن على أن ترفع تعداد قواتها النظامية إلى أكثر من 190 ألف جندي وأن تنفق أزيد من 4560 مليون دولار شهريا، ولكنها لم تنجح في حسم المواجهة لصالحها، وفي كل مرة كانت القوات الأمريكية تنجح في تحقيق خطوة إيجابية وتقدما في صراعها ضد المقاومة العراقية، خاصة بفضل إثارة النزاعات الطائفية، كانت لا تلبث أن تتراجع بعدما تتأقلم المقاومة الوطنية مع المعطيات المتجددة على الساحة. رغم أن المستعمرين الجدد لأرض العراق وهم يشنون يوم 20 مارس 2003 هجومهم تحت تسمية عملية «حرية العراق»، لم يكونوا يتوقعون حربا طويلة فإنهم شرعوا منذ البداية في فرض ما تصوروا أنه أسس تنظيم سياسي يكفل منع العراق من السعي مرة اخرى للنهوض وبناء قوة إقليمية تهدد مصالحهم أو نقطة إرتكازهم الإساسية في المنطقة أي إسرائيل. وهكذا وبعد أن أعلن الرئيس الامريكي جورج بوش في 1 مايو 2001 عن نهاية المعارك في العراق، وهو ما اعتبر لاحقا أحد أكاذيبه الكبيرة، شرع الحاكم الاداري الامريكي بول بريمر إبتداء من 16 مايو في وضع أسس تفتيت بلاد الرافدين بمنع مسؤولي حزب البعث من تولي الوظائف الحكومية ثم أعلن حل الجيش العراقي وكل أجهزة الأمن. وتوالت إجراءات المستعمرين وهكذا قرر بريمر في 6 يوليو انشاء ما سماه «مجلس حكم موقت»، وبذلك مهدت الأرضية لإقامة كيان قابل للتفتيت على أسس عرقية ودينية ووضعت مسودة دستور جديد نص على الفيدرالية. تنص المادة 119 من الدستور على انه «يحق لكل محافظة او أكثر، تكوين اقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم باحدى طريقتين: اولا، طلب من ثلث الاعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الاقليم»، و»ثانيا: طلب من عشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الاقليم». وتشير المادة 120 الى ان الاقليم يقوم «بوضع دستورٍ له، يحدد هيكل سلطات الاقليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحيات، على ان لا يتعارض مع الدستور». فرض نظام المحاصصة الطائفية فرضت واشنطن نظام المحاصصة الطائفية على العراق بدعوى دعم الديمقراطية وحماية مكونات المجتمع رغم أنها لا تطبق نفس المبدأ على مواطنيها الذين يتفوقون في تقسيماتهم الدينية والعرقية عشرات المرات على ما هو موجود في العراق. الواضح هو أن سياسي واشنطن كانوا بالمحاصصة يمهدون الأرضية للتقسيم وليس كما إدعى البعض استعارة النموذج اللبناني. على هذا الأساس تم تقاسم الصلاحيات والرئاسات الثلاث، فاسندت رئاسة الجمهورية الى الكردي جلال طالباني، والحكومة الى الشيعي نوري المالكي، والبرلمان الى السني اسامة النجيفي. ولترسيخ عملية التقسيم تم فرض هذه المحاصصة ايضا على الاحزاب التي تنتمي الى الطائفة نفسها، حيث تتقاسم هذه الاحزاب الحصة فيما بينها او تتداولها في بعض الاحيان. ويرى استاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد احسان الشمري انه «من المؤسف ان هذه المحاصصة لم تعد تشمل المناصب الرئاسية الثلاثة فقط، بل تعدتها الى الوزرات وظلت تكبر ككرة الثلج المتدحرجة على جانب الجبل حتى باتت تطال موظفي الخدمة داخل البرلمان ورئاسة الوزراء، وحتى المؤسسة العسكرية». ويشكو كثير من العراقيين من استبعادهم عن وظائف او مناصب معينة بسبب خلفيتهم الطائفية، مؤكدين أنه قبل العام 2003 واسقاط نظام صدام حسين، كان ممنوعا التحدث انطلاقا من زاوية الطائفة او المذهب. وأوردت وكالة فرانس برس يوم 14 ديسمبر 2011 تصريحات لعدد من العراقيين حول المحاصصة، فقال احمد السامرائي «36 عاما» وهو موظف حكومي عربي سني يعمل في وزارة الكهرباء انه «لا يوجد في البلد ولاء قبل السياسيين للوطن بعكس ما كان الحال عليه قبل 2003». ويوضح ان «المحاصصة الحزبية والطائفية موجودة في كل ركن وفي ابسط الاشياء مثل قوافل الحج». ويقول استاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد الشمري ان «جميع الاحزاب السياسية هي ذات ولاءات وتحالفات خارجية بشكل يفوق ولاءها للوطن»، مضيفا ان «هذه التحالفات هي المسبب الاول للازمات». المحافظون الجدد ولعبة الابتعاد عن الأضواء بعد تولي الرئيس أوباما رئاسة البيت الأبيض، أختار المحافظون الجدد الإبتعاد عن الأضواء بعد السخط الذي أثارته كثرة إخفاقاتهم ولكن دون أن يتخلوا عن أهدافهم، وهكذا قرروا إتباع مقاربة مختلفة في العراق، وهي سحب غالبية القوات الأمريكية، وكبديل الاعتماد على قوات شركات الأمن الخاصة أو ما يعرف بقوات المرتزقة، بالإضافة إلى القوى التي تلتقي مصالحها معهم في منع نهوض العراق من جديد، والتي لها أطماع في بلاد الرافدين وتصر على أخذ نصيب من الكعكة التي طبخها الاحتلال. في بداية شهر يناير 2012 نشر موقع «كاونتر بنش» الالكتروني مقالا للمحلل الصحافي البريطاني باتريك كوكبيرن توقع فيه تفكيك العراق في نهاية المطاف. وبعد أن تحدث عن الخلافات بين الساسة الذين قدموا مع الاحتلال وتبادلهم الاتهامات بالفساد والدكتاتورية والارهاب وممارسة التعذيب والاغتيالات على نطاق واسع، انتقل إلى الحديث عن ما سماه الدولة الفاشلة التي تسير نحو التفكك. «العراق يبلغ دخله الأن من النفط 100 مليار دولار في العام إلا أن لديه ألية حكومية فوضوية وقوات أمن يبلغ عدد أفرادها 900 ألف جندي وشرطي ولكنها مفتتة وعاجزة». «ومن المهم ان ندرك ان رئيس حكومة بغداد المالكي ربما يكون الرجل الوحيد المقبول لدى الولاياتالمتحدةوايران». وقد استفاد المالكي من هذا الوضع في العامين 2006 و 2010. وعندما اختير لرئاسة الحكومة قال لي أحد المسؤولين العراقيين مبتسما ان «الشيطان الأكبر» وهو الوصف الذي يطلقه الايرانيون على الولاياتالمتحدة و»محور الشر» وهو ما تصف الولاياتالمتحدة به كلا من ايران وحلفائها، اتفقا مرة اخرى واختارا المالكي ليكون رجلهم». الفساد منتشر على كل مستوى ويجري تحويل أموال الدولة الى الخارج إلى شركات وهمية سرا يملكها مسؤولون في البلاد، وكأن الأمر يتعلق بإستعداد للفرار. اما البطالة فتراوحت بين 25 و40 في المائة. والفشل في توفير الطاقة الكهربائية أصبح أحد المعالم الأكثر بروزا لسوء سير الدولة التي لم تعد تستطيع حتى الوفاء بجزء مما كان الرئيس صدام يوفره رغم الحرب والحصار. وزارة الكهرباء وافقت على دفع 1300 مليون دولار الى شركة لتوفير الكهرباء، ولكن تبين أن العقد كان مع شركة المانية مفلسة وشركة كندية لا وجود لها. وتصرف ميزانية الحكومة اساسا على الرواتب حيث يكون من يستلمونها غالبا مرتبطين بالسلطة الحاكمة. وفي الوقت الذي تتفشى فيه الرشوة في كردستان العراق، حسب قول رجال اعمال، فانه يجري هناك بناء الطرقات والمطارات والجسور ومحطات الطافة الكهربائية والمساكن، أما في بغداد فالأمر عكس ذلك. وهناك القليل من المصارف التي لا ينهشها المسؤولون في الدولة علنا. وفي نهاية الأمر، فإن استمرار الفقر والحرمان على نطاق جماعي، رغم تنامي عوائد النفط، يمكن ان يكون له أثر في عدم استقرار العراق كما هو بالنسبة للخلافات الطائفية بين السنة والشيعة. وقد تقع الكارثة ولكن ربما ليس الأن. فالسياسات العلنية العراقية يمكن ان تضلل المرء، لأن المواجهة السياسية الغاضبة لا تؤدي بالضرورة إلى صراع مفتوح في بلد يمتاز بالعنف في أفضل الأوقات. فتفكيك الدولة في النهاية يلحق الخسائر بكل الاطراف. ولعل بالامكان ان يتقرر مستقبل العراق في عواصم الدول المجاورة خلال السنة المقبلة. وتظل الولاياتالمتحدة مهمة في بغداد. وكلما ازدادت التفرقة بين العراقيين، كلما ارتفع مستوى نفوذ الدول الخارجية». مشروع بايدن غليب للتقسيم قبل أن تحسم الانتخابات الرئاسية في الولاياتالمتحدة نهاية سنة 2008 وفي نهاية شهر أغسطس نشرت ضمن «تقرير واشنطن» الذي يصدر في العاصمة الأمريكية، معلومات عن مخطط بشأن مستقبل بلاد الرافدين، ويكشف التقرير عن خطة جاهزة لتقسيم العراق سيتم تطبيقها بعد فوز أوباما بمنصب الرئاسة. وذكر حينئذ أن تلك الخطة تبناها السيناتور الديمقراطي جوزيف بايدن من ولاية ديلاوير الذي تم إختياره نائبا للرئيس ولزلي غليب الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية. الخطة تنص على تقسيم العراق إلى ثلاث دول، كردية وسنية وشيعية. المشروع لقي بعض الاعتراضات في واشنطن مرفقة بمحاولة نفي خجولة، وواجه هجوما من قبل مجموعة دراسة العراق برئاسة وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، الذي اعتبر تقسيم العراق خطا أحمر لا يمكن تجاوزه، وبخاصة أن ذلك من شأنه خلق ما أطلق عليه فوضى إقليمية جديدة، ستعطي طهران فرصة ذهبية للسيطرة على الإقليم الشيعي الجديد، كما ستثير حفيظة تركيا التي تخشى من قيام دولة كردية على حدودها الجنوبية. مشروع «بايدن-غليب» لتقسيم العراق وجد في الوقت نفسه، ترحيبا من قبل العديد من أعضاء الكونغرس خاصة من اللوبي المعروف بتأيده لإسرائيل، ومن ضمنهم السيناتورة الجمهورية كيلي بايلي هوتغيسون، التي ترى في تقسيم العراق المخرج الوحيد من المستنقع الراهن، خاصة مع إستحالة القضاء على المقاومة العراقية، التي تؤكد العديد من الأوساط السياسية في واشنطن أنه ستقود في نهاية المطاف إلى تسليم الحكم في بغداد إلى أنصار النظام الذي استهدفه الغزو المكلف. وباستثناء الأكراد، تبدو مواقف الطوائف العراقية غير واضحة فيما يتعلق بتطبيق الفيدرالية، وذلك في ظل انقسام شيعي حول المبدأ، ورفض سني من الأساس. ويشير التقرير إلى أن الحكومة العراقية أقرت صيف سنة 2008 مشروع قانون النفط والغاز، في غياب 13 وزيرا، أغلبهم من السنة، وخصص المشروع 17 في المئة من واردات النفط العراقي لحكومة إقليم كردستان، في خطوة وصفها المراقبون بأنها بداية صريحة لتطبيق الفيدرالية أو التقسيم. مركز سابن بمعهد بروكينغز للدراسات السياسية والإستراتيجية بواشنطن أصدر في توقيت متقارب دراسة بعنوان: «حالة التقسيم السهل للعراق» حاولت الإجابة على العديد من الأسئلة حول مدى إمكانية تطبيق الفيدرالية في العراق، ونسبة النجاح مقارنة بالوضع الحالي، إلى جانب الصعوبات التي ستواجه الأطراف المختلفة إذا ما تم تطبيق هذا الخيار الذي أطلقت عليه الدراسة «الخطة ب). الدراسة أعدها جوزيف ادوار، وهو باحث زائر بمعهد بروكينغز، له خبرة كبيرة في مجال إدارة الصراعات، حيث عمل لمدة عقد كامل مع القوات التابعة للأمم المتحدة بمنطقة البلقان، ولديه العديد من المؤلفات في هذا المجال، وشاركه في إعداد الدراسة مايكل هانلون الباحث المتخصص في شئون الأمن القومي الأمريكي بمعهد بروكينغز، والذي عمل مع القوات التابعة للأمم المتحدة في العديد من الدول. محاولة للتشويه يعترف الباحثان في بداية الدراسة أن هناك تحفظات كثيرة على الفكرة، وأن مجموعة دراسة العراق وعلى رأسها وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر وعضو الكونغرس السابق لي هاملتون من أكبر المعارضين لهذا المشروع، وذلك لعدة عقبات، أولها ارتفاع نسبة الزواج المختلط بين الطوائف العراقية المختلفة، مما سيجعل التعامل مع هذه الظاهرة عن طريق الفصل الجغرافي أمرا من الصعب تحقيقه، أما الثاني فهو أن تقسيم العرق إلى ثلاثة أقاليم من المتوقع أن ترفضه العديد الأطراف سواء من داخل العراق أو من قبل جيرانه. ويقول الباحثان أنهما يتفقان مع العديد من تلك التحفظات، سواء من حيث المبدأ أو الواقع، كما أنهما يعتقدان أن التقسيم ليس حلاً جيداً للصراعات الطائفية. ما لم يذكره التقرير أن القوى المحتلة هي التي صنعت ومولت الإقتتال الداخلي بين الطوائف العراقية وإستأجرت فرق الموت من داخل العراق وخارجه لتفتعل الحرب الأهلية، وبعد ذلك لتدعي أن التقسيم هو أفضل الخيارات المتاحة. الدراسة روجت لمقولة المحافظين الجدد في واشنطن التي تقول أن العنف الطائفي كشف أن العراقيين يشعرون بالأمان فقط حين يعيشون في منطقة معظم سكانها من نفس الطائفة، وأن هذا ظهر بوضوح خلال حركات النزوح التي قام بها مئات ألاف العراقيين هربا من العنف، خلال السنوات الأخيرة. الدراسة اعتمدت كذلك على ما روجت له الإدارة الأمريكية بعد تنظيمها ما سمته العملية الديمقراطية والتي ذكرت أنها أثبتت ما سمته المبدأ القائل بأن العراقيين لا يريدون العيش معا داخل دولة واحدة ذات حكومة مركزية. وأنهم عندما صوتوا في الانتخابات في السنوات الأخيرة، كان وفقا لمصالح الطوائف التي يدينون لها بالولاء. وحول مواقف الطوائف العراقية المختلفة من فكرة التقسيم تدعي الدراسة أن الأكراد هم الأكثر وضوحا، وبخاصة أن هناك شبه اتفاق بين الأحزاب الكردية في الحفاظ على سيادة إقليم كردستان العراق واستقلاله، ولا تتحدث الدراسة عن المعارضة القوية الموجودة وسط الأكراد لفكرة التقسيم أو لوجود فصائل مسلحة منهم تقاتل الوجود الأمريكي وأنصاره جنبا إلى جانب السنة والشيعة مؤكدة أن الكردي الشريف يقول أنا عراقي قبل أن يقول أنا كردي لأن الوطن أسبق وأسمى من العنصر والقومية والمذهب. والجزء ينتمي للأصل كما يفترض وليس العكس. وتقر الدراسة ضمنا بأن العرب السنة يعارضون مبدأ التقسيم، كما أن لديهم يقينا في نجاح المقاومة الوطنية والعودة إلى بلد يعيش ويزدهر بدون تقسيم طائفي كما كان الأمر قبل الغزو. وتقول الدراسة أنه بالنسبة للشيعة العراقيين يبدو موقفهم غير موحد تجاه هذه القضية حيث عارض العديد منهم الخطة التي روج لها عبد العزيز الحكيم رئيس «المجلس الأعلى الإسلامي» بشأن تقسيم العراق. تعترف الدراسة بأنه إذا لم يتم التخطيط بشكل جيد لعملية التقسيم فإنها ستؤدي إلى عدم استقرار وفوضى، وإذا اقبرت فإن الولاياتالمتحدة ستشهد ضياع ما قدمته خلال عقد من الزمن. وتدعي الدراسة أن الحرب الأهلية في العراق على حد وصف الباحثين، أدت إلى خلق واقع ديموغرافي جديد، وذلك طبقا للإحصاءات التي نشرتها المفوضية العليا لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والتي ذكرت انه حتى بداية عام2007 وصل عدد اللاجئين العراقيين للدول المجاورة إلى مليوني لاجئ، بينما وصل عدد اللاجئين داخل العراق «نزوح داخلي» إلى نحو 1.7 مليون لاجئ، كما أشارت التقارير أيضا إلى أن هناك أكثر من نصف مليون عراقي يتم تهجيرهم من مدنهم كل شهر. وفي دفاعها عن فكرة التقسيم تدعي الدراسة أنه على الرغم الدعوات الموجهة للعراقيين بالعودة إلى قراهم التي هجروها إلا أن معظمهم رفضوا العودة، مما سيؤدي إلى حدوث تأثير عميق على الحياة السياسية والاقتصادية، حيث يسعى حاليا المواطنون العراقيون إلى النزوح إلى القرى التي تتركز فيها الطائفة التي ينتمون إليها. وتواصل الدراسة الأمريكية التلاعب بما تسميه التقارير الدولية والتي يعرف العالم الأن كيف تتم صياغتها على المقاس الأمريكي. فتضيف أنه وفقا لما رصدته منظمة الهجرة الدولية، وحسب تقرير لها فإن العرب الشيعة يقومون بالنزوح من وسط العراق إلى الجنوب، بينما يقوم العرب السنة بالنزوح من الجنوب إلى الوسط، وبخاصة إلى محافظة الأنبار، وتصف الدراسة هذه الظاهرة نقلاً عن تقارير المنظمات الدولية بأن ما يحدث من موجات نزوح داخلي من شأنه تحويل العراق بالتدريج إلى بلقان جديد. نصائح لتمرير المؤامرة يشير الجزء الثاني من الدراسة إلى أن هناك العديد من العقبات التي لا بد من إيجاد حل لها قبل الشروع في عملية التقسيم، أولها تحديد كيف سيتم رسم الحدود بين الأقاليم الثلاثة، وهنا ترى الدراسة أن الظروف الحالية التي يشهدها المجتمع العراقي من زواج مختلط بين أبناء الطوائف المختلفة يجعل من الضروري رسم الحدود على أساس جغرافي، وليس طائفي، وذلك من خلال استخدام الظواهر الطبيعية كالأنهار والجبال، ويرى الباحثان انه ليس هناك مشكلة فيما يخص المحافظات الواقعة جنوب العراق، لأن معظم قاطنيها من العرب الشيعة، إلا أن المشكلة الحقيقية تظهر في المحافظات والمدن الرئيسية مثل بغداد والموصل وكركوك. وتقول الدراسة أنه قبل البدء في تنفيذ مشروع يجب إنجاز العديد من المهمات، من بينها إجراء عمليات مراجعة وتعديل لمواد الدستور كي تسهل عملية التقسيم. الدراسة تنصح أيضا بأن تتم عملية رسم الحدود بحرص بالغ، كما أن الولاياتالمتحدة يجب أن لا تتدخل في هذه العملية حتى تتجنب اتهامها بالانحياز وتقوية فصيل على أخر، وبالتالي فان الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية هما الجهتان المرشحتان للقيام بهذه العملية. وتقترح الدراسة انه ينبغي عقب عملية التقسيم تأسيس نظام جديد لإصدار بطاقات هوية خاصة بكل إقليم، يتم التحقق منها عن طريق وضع نقاط تفتيش على حدود كل إقليم، يتم تدعيمها بالبيانات الكاملة حول المواطنين في جميع أنحاء العراق، وذلك لمحاصرة العناصر التي وصفتها بالمتطرفة، وتتوقع الدراسة أن تبلغ تكلفة هذا النظام مليار دولار. وتطرح الدراسة سؤالا مهماً حول حجم القوات المطلوبة خلال تطبيق عملية التقسيم، ويقدر الباحثان حجم القوات المطلوبة بنحو 300 ألف جندي يجب أن يكون جزء منهم من دول المنطقة وتحت إشراف الأممالمتحدة. مهمة القوات الجديدة سترتكز على حراسة الحدود بين الأقاليم الثلاثة، وكذلك نقاط التفتيش، إلى جانب تأمين المنطقة الخضراء، وذلك على الأقل لفترة انتقالية تمتد من 12 إلى 18 شهرا. ما أغفلته الدراسة عن قصد هو أن النسيج الاجتماعي العراقي والتداخل العرقي والطائفي في جميع محافظات العراق يجعل من فكرة التقسيم إلى ثلاثة أقاليم أو دول خطة سطحية وسخيفة جدا، فلا يمكن الفصل من الناحية الجغرافية أو السكانية أو الطائفية بين سكان العراق، ويجب أن نتذكر أن هناك أقليات عديدة، سوى العرب السنة والعرب الشيعة والأكراد، لعل من أبرزها التركمان والمسيحيين والصابئة واليزيدية، لم تشر الخطة المزعومة إلى مصيرهم في ظل التقسيم الثلاثي المقترح، وإذا ما تم اعتماد المعيار الطائفي في عملية التقسيم، وفق تلك الخطة، فإن كل مجموعة عرقية من سكان العراق المسلمين، وبخاصة العرب والأكراد والتركمان، تنقسم من الناحية الطائفية إلى سنة وشيعة، كما أن كل قبيلة من القبائل العربية بل حتى بعض العوائل العراقية في وسط وجنوب العراق تنقسم تاريخيا ومذهبيا إلى عشائر سنية وشيعية. وهكذا تبدو فكرة التقسيم، سواء على أساس عرقي أو طائفي مستحيلة وغير مقبولة من أغلب العراقيين. تضاؤل حظوظ نجاح خطة التقسيم تقدر عدة مراكز للرصد وللدراسات أن حظوظ نجاح خطة التقسيم تتضاءل بسبب نجاحات المقاومة العراقية على الساحة رغم التعتيم المفروض عليها من طرف وسائل الاعلام الخاضع أغلبها لمجموعة التحالفات المحيطة بأمريكا، أو جهود شيطنة أعمالها. ولهذا فإن الفشل في إشعال حرب أهلية تقود إلى الهجرات الجماعية للسكان ومن ثمة إلى التقسيم، سيضع إدارة البيت الأبيض أمام خيار صعب أما العودة إلى التدخل العسكري المباشر والكثيف أو الاستسلام لنتيجة مشابهة لما وقع سنة 1975 في سيغون بجنوب الفيتنام عندما سقطت في قبضة الثوار وتذوقت الولاياتالمتحدة مرارة الهزيمة. يقول الكاتب، جاك راندوم، ضمن مقالة في موقع «ديسيدنت فويس» نشر يوم 30 ديسمبر 2011 وفي ذهنه فرضية عودة القوات الأمريكية إلى العراق. «أن الولاياتالمتحدة تبني حروبها على مبررات مختلقة، وقد فعلت ذلك، في فيتنام، وفعلته في العراق، وقد تفعله الآن مع دول أخرى. ويطالب الكاتب باستخلاص دروس تلك الحروب، ابتغاء تجنب التورط في غيرها. ويضيف الكاتب، «إن أكاذيب الحرب تنسى بسهولة ويسر مثلما الأمور الثانوية التافهة، على الرغم من أنه يجب مراجعة دروس الحرب المرة تلو الأخرى إلى أن نستوعبها ونأخذها بالجدية اللازمة. وأكاذيب الحرب في العراق، تطمَر ببساطة، حتى إن ستة من المرشحين الجمهوريين السبعة للرئاسة الأمريكية، تعهدوا علنا بالذهاب إلى الحرب ضد خصوم جدد، بناء على ادعاءات غير محققة، مماثلة للادعاءات التي قادت إلى الحرب في العراق. وقد رمينا دروس تلك الحرب المشؤومة التي تشكل أكبر خطأ استراتيجي منذ حرب فيتنام، خلف ظهورنا، بكل سهولة إلى حد أن ستة من المرشحين الجمهوريين، تعهدوا حتى قبل أن تنتهي تلك الكارثة الهائلة رسميا، بالولاء للزمرة ذاتها من المستشارين والمخططين المحافظين الجدد الذين قادونا إلى الفوضى والخراب. ويذكر الكاتب بالأكاذيب التي مهدت السبيل أمام شن الحرب في فيتنام، فيقول: إن الفرية التي حركت حرب فيتنام، هي ما سمي يومئذ ب»نظرية الدومينو»: التي ادعت أننا لو خسرنا دولة واحدة وتركناها لسيطرة الشيوعية الحمراء، فسوف نخسر الدول جميعا. وعلى أساس ذلك، اختارت ثلاثة أجيال من الدول الغربية وهي بريطانيا، وفرنسا، وأمريكا دولة صغيرة على أعتاب الصين ميدانا لحربها. وقد تطلب الأمر إزهاق أرواح أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، لإثبات أن لعبة أطفال، لا يمكن أن تكون أساسا مشروعا لسياسة خارجية. وقد بدت منطقية لا لشيء، سوى أنها تصلح أن تكون ملصقاً على مَصد سيارة خلفي، وأن زعماءنا خاضعون لهيمنة العقليات العسكرية الباحثة عن السلطة، والمجد وغنائم الإمبراطورية. وكانت أكبر كذبة بعد حرب فيتنام، هي الزعم بأننا خسرنا الحرب لأننا لم نكرس لها كل طاقاتنا. وأن الساسة في واشنطن كبحوا الجنرالات وأعاقوا عملهم. ويدحض الكاتب ذلك قائلاً: لقد ألقينا ما بين سنتي 1956 و1968 أكثر من مليون طن من القذائف، والقنابل والصواريخ، على فيتنام الشمالية، ولاوس وكمبوديا ورششنا 64 مليون لتر من المواد الكيماوية السامة فوق مساحات شاسعة من جنوب شرقي آسيا، وفي ذروة الحرب سنة 1968 نشرنا أكثر من نصف مليون جندي، بمن فيهم المجندون الأوائل منذ الحرب الكورية، فكيف يستقيم كل ذلك، مع الزعم بأننا لم نكرس للحرب كل طاقاتنا؟. وباستثناء القنابل النووية، خصصنا لتلك الحرب غير المبررة ما لم تكن لتخصصه لمثلها أي دولة أخرى، ولكن أكاذيب الحرب استمرت مع ذلك، واكتسبت سمات خرافية، وغدا تصديقها من شعائر حب الوطن والدفاع عن الديمقراطية. ولا عجب في أننا نرتكب الأخطاء الاستراتيجية ذاتها، وسوء الحكم على الأمور ذاته، ونقترف الأعمال الوحشية الإجرامية ذاتها، ونتخذ الإجراءات المتهورة والمدمرة للنفس، ذاتها، ونفعل ذلك المرة تلو المرة. ويضيف الكاتب قائلاً: في أعقاب حرب فيتنام، كان الزعماء الأمريكيون يكتفون بتدخلات محدودة النطاق، إلى أن جاء جورج هربرت ووكر بوش، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وحاك مكيدة شن الحرب في العراق سنة 1991. وعلى الرغم من أن حرب الخليج لم تدم طويلاً، فإن نجاحها العسكري أوحى للرئيس بوش أن يعلن قائلاً: «لقد دفن شبح فيتنام إلى الأبد في رمال صحراء شبه الجزيرة العربية». ولم يدم «الأبد» مدة طويلة، لأن ابن بوش البكر، شرع في حربين أعادتا شبح فيتنام إلى بؤرة الضوء. وكانت إحداهما الحرب الدائرة منذ عشر سنوات في أفغانستان، والثانية العودة إلى حرب والده في العراق. ذكرى أكاذيب الرئيس وقلة من الناس سوف تسترجع في ذاكرتها أكاذيب الرئيس الأب، ولكن أكاذيب الابن ماتزال ماثلة في الذاكرة لقرب عهدها. وهي لا تتضمن وحسب، فضيحة أسلحة الدمار الشامل، بل كذلك الادعاء اللاحق بأن العالم جميعه صدق الكذبة في نهاية المطاف. وفي واقع الأمر، كنا قد خسرنا الدعوى أمام مجلس الأمن لتبرير القيام بعمل عسكري بحجة وجود أسلحة دمار شامل في العراق. فالوكالة الدولية للطاقة الذرية، رفضت ادعاءاتنا رفضا تاما، وتم سحب الإجراء عندما غدا واضحا أن المجلس سوف يصوت ضد دعوانا إلى الحرب بصورة ساحقة. وقد ادعى أعضاء في إدارة بوش كذبا أن العراق كان متواطئا في هجمات 11 سبتمبر 2001. وادعوا كذبا أن العراق كان يؤوي عملاء من حركة القاعدة ويعمل معهم. وكانت هذه الادعاءات بادية الزيف، إلى حد أن الرئيس بوش ذاته اضطر إلى التنصل منها في نهاية المطاف. ويتابع الكاتب قائلاً: إن أكاذيب الحرب قد أوفت بالغرض. فما إن أضاءت أولى القنابل سماء بغداد، حتى أصبح تأييد الحرب مسألة تتعلق بالوطن وحب الوطن. وكانت الكذبة التالية، هي الزعم بأن ما قمنا به لا يتعلق بالنفط العراقي، بل يهدف إلى إقرار الديمقراطية في العالم العربي. وقد انفضحت تلك الفرية عندما كان أول ما فعلناه، هو حماية حقول النفط، وقبل إمكان تشكيل أي «حكومة عراقية» بوقت طويل، تعاقدنا على النفط العراقي من خلال كبريات الشركات النفطية. وهكذا تم إنجاز المهمة. ويقول الكاتب، إن أكاذيب الحرب ليست عسيرة على الكشف، وكل ما يتطلبه كشفها، عقل متفتح، وشهية للحقائق، ورغبة في التفكير. ويضيف قائلاً: إن أكاذيب حرب العراق سوف تعيش وتعمر ما لم يسلم بالحقيقة ويلتزم بها، ويتعهد بتمرير الرواية المروعة للأجيال القادمة، كل مَن كان شاهدا منا على تلك الأكاذيب، من الجنود الذين بذلوا التضحيات، إلى المواطنين الذين أيدوا الحرب والذين عارضوها. ويقول الكاتب، إن بوسعنا أن نشعر بالامتنان لأن رئيسا انتخب بناء على وعده بإنهاء حرب العراق، قد التزم بهذا الوعد رسميا، ولكننا لا نغفل عن أن ألوفا من المرتزقة الذين استأجرتهم أمريكا باقون في العراق لحماية أكبر سفارة دبلوماسية على وجه الأرض وشركات النفط. عندما يعلن الرئيس أننا خلقنا فرصة للعراقيين لكي يترعرعوا ويزدهروا كدولة ديمقراطية، فهو لا يكون مخادعا وحسب، بل إنه يديم أكاذيب الحرب ويخلدها. وإذ يعلن الرئيس أن قتالنا في العراق كان في سبيل الحرية العراقية والعدالة الدولية، فإنه يمهد الطريق أمام حرب ظالمة أخرى في مستقبل أمريكا، وهو يحاول دفن شبح فيتنام. ينبغي علينا أن نتفق جميعاً على أن حرب العراق كانت خاطئة من بدايتها. إنها لم تكن من أجل الديمقراطية في يوم من الأيام، ولا من أجل العدالة، بل كانت دائماً من أجل النفط والمصلحة الاستراتيجية.