أواه.. يا عراق العلم والفقه والشعر والموسيقى، نندبك أم نندب حاضرنا ومستقبلنا. أواه يا بغداد يا مدينة السلام وأيام الرشيد والمأمون وعصور الانفتاح الثقافي والتلاقح المعرفي. أواه من التراث المشرق للمبدعين من رجالك ونسائك أمثال الإمام أبى حنيفة النعمان وأبى حيان التوحيدي، والمتنبي، امتداداً إلى الجواهري والبياتي ونازك الملائكة. أواه فأرضك اليوم محروقة خرابا، وسماؤك ممطرة مرعدة. تعبث بمصيرك المجهول قوات الاحتلال من جيوش التحالف الإمبراطوري. قسمت أهلك طوائف وشيعاً وأحزاباً وميليشيات وجماعات إرهابية متقاتلة، أفقدتها إسالة الدماء اليومي كل وعى بما تفعله وبما يكون المصير والمال. ولم يكن لأشقائك يا عراق سواء الإعلانات الجوفاء بأنهم حريصون على استقلال العراق ووحدة أراضيه مكتفين بأداء هذا الواجب إبراء لذمتهم. أما رئيس إمبراطورية أخر الزمان بوش الصغير يعلن في كل مناسبة أنه لن ينسحب من أرضك التي أغرقها بدماء رجالك ونسائك وأطفالك حتى ينتصر. وارتكبت قواته، وما تزال، جرائم حرب لا مثيل لها حتى في غزوة هولاكو المغولي التي أدت إلى سقوط بغداد والخلافة وتدمير موروثات تاريخك الحضاري. والقوات المتحالفة تعلن بين الحين والآخر أنها سوف تنسحب- مع اشتداد المعارك- بعد ستة أشهر أو سنة، لكن شيئا من ذلك لم يحدث حتى الآن إلا في حالات نادرة وغير مؤثرة، بل إن إمدادات القوات الأمريكية ما تزال متدفقة بجنودها وأسلحتها الفتاكة. والرئيس بوش مصمم على بقاء قواته حتى يعلن النصر من تلك البارجة التي أعلن من عليها انتصاره بعد استسلام بغداد عام 1903. ومن بلاهة الرئيس الأمريكي أنه مع اتساع المستنقع الدموي الرهيب- ما يزال يردد أنه مصمم على ألا يجلو إلا مع النصر المبين، وتحقيق الديمقراطية في العراق لتكون نموذجاً للنظم الديمقراطية في الشرق الأوسط الجديد. وإذا كانت مأساة التضحيات الأمريكية رجالاً ومالاً ومهابة قد أفقدت بوش أغلبية حزبه الجمهوري المتطرف في الانتخابات الأخيرة، فإن مستنقع الدماء العراقي لن ينتهي ببساطة كما قد يتراءى لبعض المتفائلين. ولن يكون انسحاب القوات متوقعاً حتى نهاية ولاية إمبراطور آخر الزمان. وما يزال التحدي قائما، وقد يتغير التكنيك. بيد أنه مع إحساس ذلك الرئيس بمأزق حربه في العراق وخسائره التي اعترف بأنها قد وصلت إلى حدود مأساة أمريكا في حرب فيتنام، فإنه يحاول أن يجد السبيل إلى مخرج للخلاص المزيف بالنصر. وأياً ما كان هذا المخرج تظل قضية وحدة العراق أو تقسيمه إلى دويلات أو ولايات أكبر مأزق في هذا الخلاص. وسوف تستمر مواجهاتنا لهذا الاحتلال هتافات العرب وإعلانات مؤتمراتهم مطالبين باستقلال العراق ووحدة أراضيه. وأقرأ في مجلة (تايم) الأمريكية بتاريخ 13 نوفمبر 2006 مقالين أحدهما بقلم صحفي مرموق (جوكلاين) يعرض للرئيس بوش تصوره الشخصي لمعالجة الموقف في العراق، في انتظار تقرير لجنة جيمس بيكر رئيس اللجنة المكلفة بتقديم اقتراحات إلى الإمبراطور حول خيارات التصرف في المسألة العراقية والتي سوف تقدم تقريرها في نهاية الشهر القادم. يستبق (كلاين) توصيات هذا التقرير ليدلى بآرائه الخاصة. والمقال الثاني بعنوان (رؤية في العمل على تقسيم العراق) بقلم (بيتر جولبرايث) السياسي والدبلوماسي الشهير. وإذا كان المقال الأول يحاول تقديم تصورات لتفادى التقسيم ولم الأطراف المتصارعة، فإن الثاني يرى أنه لا مخرج للولايات المتحدة من أن تعترف بضرورة تنظيم عملية التقسيم التي لا خيار غيرها مع ما وصلت إليه الأوضاع الحالية من ترد وتعقد، وسوف نقتصر في هذا المقال على رؤية (كلاين) لنواصل الكتابة عن المقال الثاني في الأسبوع القادم إن شاء الله. تقرير كلاين يستعرض هذا التقرير الموجه إلى الرئيس مدى التدهور المخيف للموقف في العراق إلى الدرجة التي لم تسمح بوجود خيارات متعددة أمامه، وأن عليه أن يترك جانباً هدف تأسيس نظام ديمقراطي، وأن يركز على جانب ضمان الاستقرار. ومن الملاحظ أن القوة العسكرية الأمريكية لم تحقق شيئا يذكر حتى في هذا الهدف الأخير. لقد سيطرت جماعات السنة على موقعها الحصين الذي تمركزت فيه منطقة الأنبار. وما تزال تخسر مواقعها في بغداد التي يسيطر على الشطر الشرقي منها مقتدى الصدر، كما يسيطر على عدد من المحافظات التي يمثل الشيعيون أغلبية في سكانها. أما سلطة الحكومة الوطنية التي يرأسها نورى المالكي (الشيعي) فهي في حالة انهيار، وليس لها من سند شعبي سوى قوات الصدر الشيعية. وإذا استمر الحال على ذلك فسوف ينتهي الأمر إلى استمرار احتدام الحرب الأهلية الطاحنة، وإلى إعلان الانفصال التام للأكراد في الشمالويتساءل الكاتب: هل من خيار معقول خلال هذه الفوضى الشاملة: هل يمكن إرسال قوات أمريكية إضافية إلى العراق؟ الإرهاق والإحباط، وزيادة إعدادها مما قد لا يقبله الشعب الأمريكي بسهولة ثم إن جو التطاحن والمرارة الذي يسود حالياً بين السنة والشيعة والأكراد قد بلغ أشده مما لا يفسح مجالاً لعمليات المصالحة أو التوافق في توزيع السلطة من خلال حكومة مركزية موحدة.ولعل آخر فرصة - في تقدير الكاتب- هو التوسع الكبير في تدريب ونشر قوات الأمن العراقية، وتحت قيادة جديدة. وهذا يقتضى معالجة الذي ارتكبناه من الخطأ الجسيم -عقب إعلان النصر أول الأمر- من اضطهاد ومطاردة وتشتيت لقوى حزب البعث وجيشه الوطني. ومن ثم تبدو الحاجة ملحة الآن في السعي إلى استرجاع القيادات الأمنية والعسكرية السابقة لحزب البعث، وبخاصة القواد والقوات العسكرية الشيعية من أنصاره السابقين، وأن تحتل هذه القوى مواقع السلطة والقوة في عملية الاستقرار. ويرى معظم جيران العراق،- باستثناء إيران- أن نوعاً من مثل هذا التوجه قد يكون أنسب عمل عاجل مما يمكن القيام به. وباختصار فإن الخيار المتاح هو العمل على إحياء سلطة القوى البعثية وتنظيماتها الحزبية من طائفتي القوى السنية والشيعية. هذا فضلاً عما نقوم به اليوم من مفاوضات مع ممثلي البعثيين السنيين في الأردن. ويستدعى هذا أيضا فصل القوى البعثية عن الجماعات الإرهابية بين صفوفها. ثم إن من بين كتلة الصدر الشيعي وجيش المهدي جماعات بعثية قوية يمكن العمل على استقطابها. وتقدر المخابرات الأمريكية أن حوالي 30% من ميليشيات الصدر كانوا من القوات المسلحة في جيش العراق أيام صدام... وهنا يبرز السؤال هل يمكن العثور على قائد عسكري خدم في الجيش العراقي السابق -ومن الأفضل أن يكون شيعيا- يمكن أن يستحوذ على ولاء كل تلك الجماعات البعثية من أجل تكوين جيش جديد مدرب لمواجهة هذه الفوضى؟ وهل يمكن إعلان حالة طوارئ عامة، تنتقل فيها السلطة إلى مجلس تنفيذي يتألف من قيادات عسكرية ومدنية؟ ومع ذلك فثمة صعوبات كثيرة في الطريق، وأولها وأكثرها إلحاحاً هو قوة مقتدى الصدر الذي ينبغي إقصاؤه بكل الطرق من معادلة القوى الجديدة. وحيث إننا لا نستطيع القيام بتلك الأولوية، فمن الأفضل اللجوء إلى استدراج بعض معارضيه سواء داخل جماعته، أو من جماعة أية الله العظمى على حسيني سيستاني الذي أضعف الصدر قوتها، والتي يمكن أن تضم إلى صف القوى البعثية الجديدة. أما الأكراد فلابد من أن نضمن لهم استمرار استقلالهم الذاتي في الشمال. وتتطلب هذه الجهود مع مختلف الجماعات الوعد والتقديم لمغريات "الجزر المالية"، والمناصب في المجلس التنفيذي الجديد. وهكذا تصبح الحاجة الملحة هي السعي الحثيث إلى توفير الموارد المالية والسلاح والتدريب والتنظيم لنمو قوة حربية وأمنية في القلب من منظور إعادة تشكيل القوى الفاعلة حالياً في الحرب الأهلية. يضاف إلى ذلك بذل كل جهد دبلوماسي لاجتذاب الدول المجاورة للانضمام إلى عملية الاستقرار في المنطقة. ويؤكد الكاتب بأنه مدرك بأن علينا أن نجد قاسماً مشتركاً مع بعض "القوى السيئة" في هذا الموقف. وقد تكون دواء مراً، لكنها أقل الاختيارات المفتوحة أمامنا مرارة. وهو على يقين بأن الشعب الأمريكي سوف يكون راضياً عن أي إجراء يمكن أن يضع حداً لوجود قواتنا في العراق. والخلاصة أننا نجد في رؤية هذا الكاتب أن المخرج من المستنقع يتطلب إحياءً لقوة النظام البعث المتفرقة أنصاره بين الأحزاب والميليشيات لتكون نواة لقوة حكومة مدنية، تتفادى إمكانية سيطرة الشيعة على نظام الحكم. وقد يعنى هذا الحد من استمرار المعارك والتطاحن بين السنة والشيعة وأتساءل: لماذا تحرص الإدارة الأمريكية على ما يسميه بوش بوحدة العراق وقيام حكومة مركزية كعامل من عوامل الاستقرار في أرجائه؟ وهذا هو نفس المطلب القومي العربي، لكن أهداف كل من الطرفين تختلف عن الآخر. يعتبر الطرف العربى أن وحدة الشعب العراقي بكل أطيافه هو مصدر قوة في نضال الأمة العربية إزاء الهيمنة الأجنبية وأن له دورأ لا يعوض في قوة الصف العربى لمواجهة مبادرات الشرق الأوسط الجديد. بيد أن التوحد والحكومة المركزية بالنسبة للإدارة الأمريكية تعنى تيسير التعامل مع العراق في تحقيق أهدافها الرئيسية المتصلة باستغلال موارد النفط، ووقوفه ضد طموحات إيران في قيادة مصائر المنطقة، مع إمكانية دوره في مسيرة إنجاز مشروع الشرق الأوسط الجديد. ثم إن التعامل في هذه القضايا مع حكومة مركزية أسهل كثيراً من التعامل والتفاوض مع ثلاث دول وهكذا إذ اتفق الشكل بين الطرفين العربى والأمريكي إلا أن المضمون يتعارض تعارضاً تاماً في كل ركائزه ومقاصده. ومع موعدنا في العدد القادم لعرض رؤية جولبرايت حول ضرورة التقسيم ومزاياه من وجهة نظره وفي انتظار ما تسفر عنه لجنة بيكر -هوفمان من مقترحاتها التي يتقدمها للرئيس بوش والتي ربما لا يعلن عن كل تفصيلاتها سوف تتضح لدينا ما سوف تأتى به الأقدار من مصيرك يا عراق.التقسيم..أفضل مخرج للقوات الأمريكيةأشرنا في مقالنا بعدد الأسبوع الماضي من (الأهالي) إلى مأزق الإدارة الأمريكية في محاولتها للخروج من المستنقع الدموي الذي أحدثته بجرائم حربها على العراق، وما أثارته من الأحقاد الطائفية بين سكانه بلغت حدتها إلى اشتعال حرب أهلية طاحنة. وفي المقال السابق الذي حرره (جوكلاين) قدم تصوره في إمكانية صورة لضمان التوحد من خلال دعم قوات الأمن والجيش العراقيني من قدامى البعثيين وتمكينهم من فرض الاستقرار في البلاد.وفي هذا المقال الذي حرره (بيتر جولبرايث) في نفس العدد من مجلة (التايم الأمريكية بتاريخ 13 نوفمبر 2006) يقدم هذا الدبلوماسي المخضرم رؤيته في أنه لا مخرج للقوات الأمريكية إلا عن طريق اعتماد خطة لتقسيم العراق إلى دويلات ثلاث، موضحاً بالتفصيل مزايا هذا الخيار. وسوف نلخص أهم ما جاء بمقاله في هذا الصدد:يبدأ (جولبرايث) مقاله بعرض الموقف الحالي في الساحة العراقية مشيراً إلى أن حكومة الوحدة الوطنية الحالية ليست موحدة، ولا هي قادرة على الحكم للتفاوت البين في تركيبها، والتنازع في قراراتها وتوجهاتها. ثم إن قوات الأمن التي تمثل مركز الدائرة في الجهود الأمريكية لإيجاد الاستقرار ثبت أنها عديمة الفاعلية، بل الأدهى من ذلك ما تبين أنها عنصر مشارك في الحرب الأهلية، تقاتل مع الجماعات الثائرة حسب توجهاتها الطائفية.البديل المخيفوإذا كان الهدف الذي أعلنه الرئيس بوش من احتلال العراق هو إقامة دولة ديمقراطية موحدة، فإن هذا الحلم لم يتم الاقتراب من تحقيقه على الإطلاق. وفي سبيل البحث عن إجابات لهذا المأزق، يبدو أنها لا تتحقق إلا في خيار واحد واضح كبديل ممكن، ألا وهو تقسيم العراق إلى دول منفصلة لكل من الأكراد والسنة والشيعة حيث إن هذا الخيار هو الحاصل فعلاً على أرض الواقع. فالأكراد في الشمال يتمتعون بالاستقلال الذي طالما كانوا يحلمون به. والعلَم العراقي لا يرفرف في أرض كردستان التي توجد بها حكومة منتخبة ديمقراطياً، ولها جيشها الخاص. وفي جنوب العراق تمكنت الجماعات الشيعية من تكوين مقاطعات يحكمها رجال الدين، ولديها عشرات الميليشيات التي تمكنها من إقامة نظام ثيوقراطي على النموذج الإيراني. وفي الغرب، تخضع المحافظات العراقية لأوضاع فوضوية للميليشيات السنية، حيث يسيطر الثوار على محافظة الأنبار، بينما يسيطر المسلمون ومعهم البعثيون بطريقة خفية على محافظتي صلاح الدين ونينوى. أما بغداد قلب العراق فهي مقسمة بين الشيعة في شرقيها والسنة في غربها. ويسيطر جيش المهدي -التابع لمقتدى الصدر- وهو أكثر الميليشيات الشيعية تطرفاً على كل الأحياء الشيعية. وفي القطاع السني يلعب إرهابيو القاعدة دوراً كبيراً في مجريات الأحداث. وهكذا تحولت بغداد التي كانت نموذجاً لانصهار الشيعة والسنة إلى ساحة للحرب بينهما، تصل ضحاياها من القتلى والمصابين إلى حوالي (100) عراقي كل يوم.وإذا كان معظم العراقيين لا يريدون الحرب، لكنهم يرفضون فكرة وجود عراق موحد. وقد تأكد ذلك من نتائج انتخابات المجلس الوطني التي جرت في ديسمبر 2005، حيث صوتت كل طائفة لمرشحيها، ولم يتجاوز عدد من لم يدلوا بأصواتهم على أساس طائفي (10%) من مجموع الناخبين. وعندما قام الأكراد بإجراء استطلاع مستقل -غير ملزم- لتعرف رغبتهم في الاستقلال، وصلت نتيجة الموافقة على استقلال كردستان إلى 98.7% من المشاركين في الاستفتاء. ويرى الكاتب أن الدستور العراقي الذي وافق عليه 80%، من الناخبين يجسد نظام حكم فيدرالي يقسم البلاد إلى ثلاثة أقاليم رئيسية لكل منها حكومته المحلية، المسئولة عن شئونه وعن الرقابة حول السيطرة على موارد البترول، وإلى حقه في إنشاء جيشه الإقليمي.وهكذا يطغى القانون الإقليمي على القانون الفيدرالي في جميع الأمور تقريباً. وبذلك أصبحت الحكومة الفيدرالية مهيضة الجناح إلى درجة أن الدستور لم يعطها الحق حتى في فرض ضرائب عامة.المخرج الوحيدورغم كل هذه الوقائع العيانية فإن بوش والإدارة الأمريكية يؤكدون أن العراق قد أعطى أصواته للتوحد. وها هم اليوم يدعون العراقيين إلى وضع برنامج للمصالحة الوطنية، وإحداث تغييرات في الدستور يضمن مصالح السنة التي تشعر بالغبن في التشكيلة الحالية، وإلى إصدار قانون في الشأن النفطي يحقق العدالة في توزيع عوائده. والواقع أن جَمْع ورَبط الأطراف في نظام سياسي موحد يقتضى من الإدارة الأمريكية الغوص في التفاصيل التنظيمية والإجرائية التي لا حدود لها ومن مواجهة المشكلات والتدابير التي لا ضمان لنجاحها. هذا فضلاً عن ضرورة وجود أعداد هائلة من القوات العسكرية الأمريكية لا تُعرف نهاية لها.وفي تقسيم العراق، يرى الكاتب إنها استراتيجية تتيح للقوات الأمريكية أفضل مخرج، وتقلل من الآثار المدمرة للحرب الأهلية، وتتيح لكل القوى العراقية المتحاربة أن تتولى أمور تشكيل مصيرها بنفسها.بيد أن الرئيس بوش ما زال متمسكاً بوهم وحدة العراق، وهو يعتمد في وهمه على ركيزتين أساسيتين: أولهما الاعتماد على حكومة نورى المالكي التي تمثل الوحدة العراقية والتي في تقديره تحظى بتقدير كل العراقيين، والركيزة الثنائية استكمال توفير وإعداد قوات الأمن التي يثق فيها كل العراقيين. لكن الرئيس مخطئ في صلابة هاتين الركيزتين، فرئيس الوزراء المالكي رئيس للتحالف الشيعي الذي يضم فريقاً من الشيعة التي تنظم فرق الموت، والتي تقوم بقتل عشرات من السنيين كل يوم. ومن العجيب أنه بينما يصرح المالكي بالعمل على ضرورة تصفية الميليشيات غير الشرعية، نجده يقاوم كل إجراء تتخذه القوات الأمريكية في محاربتها.وفي الطرف السني من الأطياف العراقية تُظهر الأحداث أنهم أكثر تشدداً في مطالبهم، فرئيس مجلس النواب، محمود مشهداني وهو من أبرز القيادات السنية، له صلات مباشرة بجماعة أنصار الإسلام المرتبطة بفرق القاعدة الإرهابية، وهى التي تتصدى للقضاء على الشيعة والعلمانيين بين العراقيين. وبلغ في تطرفه أن دعا إلى إقامة نصب تذكارى لكل من يقتل جنديا أمريكيا.وعن الركيزة الثانية التي تعتمد عليها وتتحدث الإدارة عنها وهى قوات الجيش والأمن العراقي، كما لو كانت عناصر محايدة في سلوكها بحيث يمكنها إقرار الأمن العام. هذا في الوقت الذي يجدهم العراقيون أطرافاً في الحرب الأهلية، السني منهم مع المقاتلين السنيين، والشيعة مع الشيعيين. ونشير هنا إلى ما ارتكبته وحدات الشرطة من الشيعة من خطف وتعذيب وقتل لآلاف من السنة بعد حادث تفجير المشهد الشيعي المقدس في سامراء. وكذلك بالنسبة للشرطة السنية نجدها إما مع المقاتلين السنيين أو على الأقل متعاطفين معهم. أما عن قوات الجيش، وإن كانت أكثر اعتدالاً من قوات الشرطة في سلوكها، فإنها كذلك منقسمة في ولائها، ولا تمثل قوة فعالة، بل إن فرقاً منها لا تستجيب للقيام بواجبها في ساحة المعارك التي لا ترغب المشاركة فيها.وفي مثل هذه الظروف المضطربة والمتداخلة في فوضويتها كيف يمكن العمل على إيجاد أمل في وحدة العراق؟ وفي الشهر الماضي وافق المجلس النيابي على إصدار قانون بضم المحافظات الثماني في الجنوب لتكون دولة واحدة.أما الأكراد فقد أعلنوا قيام حكومتهم المنتخبة وتكوين جيشها في الشمال. ولم يبق إلا السنة معارضين لعملية التقسيم لعوامل عاطفية يستثيرها ماضيهم حين كانوا يستأثرون بالسلطة أثناء الحكم الصدامي، أو لكراهيتهم لكل ما جرى في العراق منذ غزو القوات الأمريكية. ومن العسير أن يتصور المرء أن السنة لن تُقدم في نهاية الأمر إلا كما يفعل الشيعة والأكراد على قبول دولة مستقلة لهم.مهمة صعبةويرى الكاتب أنه قد تضطر السنة لتغيير موقفها نظراً لكراهيتهم الشديدة للشيعة نتيجة سيطرتهم الحالية على الحكومة الموحدة، ولذلك قد تتبدد مخاوفهم مع التقسيم، ويشعرون أن بمقدورهم أن يكونوا جيشهم الخاص، وأن يدبروا شئون الحفاظ على الأمن في دولتهم.وفي الوقت ذاته، يرى أنه ينبغي على شروط التقسيم أن تحتفظ لهم بنسبة متفق عليها من عائدات النفط الذي تقع حقوله في الشمال والجنوب. وفي تقديره أيضا أن التقسيم، رغم صعوباته، سوف يقلل من مظاهر العنف والتناحر بين الأطراف الثلاثة، ولن تتسع الساحة لكي تعانى من ويلات الحرب الأهلية التي أهدرت عشرات الآلاف من الأرواح، ولن تكون التضحيات بأسوأ مما هي عليه الآن في حالة تمسك الإدارة الأمريكية بعملية التوحد. وقد تتمخض الظروف فيما بعد عن قيام تحالف فيدرالي بين الشيعة والسنة في المستقبل.ثم إن نفوذ إيران الذي يمتد إلى المناطق الشيعية وإلى حكومة الوحدة الوطنية حالياً، سوف يقتصر في حالة التقسيم على المنطقة الجنوبية. أما الشمال فقد تتخذ تركيا سياسة جديدة غير ما ساد لديها من التخوف في إنشاء دولة كردية في العراق، لتجد أن ما بينها وبين دولة كردستان من أواصر ومصالح يجعل منها منطقة عازلة ضد تغلغل النفوذ الإيرانى في العراق. وهى اليوم تقيم علاقات طيبة مع القادة الأكراد، ولها استثمارات اقتصادية ضخمة في كردستان.وسوف يلجأ السنيون في منطقتهم إلى ضرورة التخلص من إرهابي القاعدة ليتمكنوا من العمل على تنمية مجتمعهم. وإقامة علاقات مفيدة مع جيرانها ومع الخارج.وسوف يكون لهذا التخلص من الأزمة بالتقسيم مردود مجز بالنسبة لأمريكا من خلال سد أحد المنابع الإرهابية في الشرق الأوسط. وقد تساعد الاتصالات مع سوريا وإيران على إنجاز مهمة التقسيم الصعبة، بديلاً عن استمرار الأوضاع الحالية التي تسبب مزيداً من سفك الدماء والفوضى والآلام لكل الأطراف المعنية بما فيها طرف الشعب الأمريكي.إمبراطور آخر الزمان!ومن ثم يستدعى هذا انسحاب القوات الأمريكية تدريجيا ثم كلياً، حيث التي لن تجد لها مبرراً للبقاء على أرض العراق. إن عملية التقسيم عملية صعبة ومعقدة، وقد يتطلب الأمر الاستعانة بدول الجوار، وبالعقلاء والحكماء من القيادات العربية في الداخل والخارج. ورغم هذه الصعوبات العديدة فإن ذلك يمثل أفضل الخيارات كمخرج من المستنقع الدموي الذي أحدثته الخطيئة التاريخية بغزو العراق.تلك هي أفكار جوليرايث الدبلوماسي المخضرم، والتي ترى أن التقسيم مهما كان فيه من تضحيات وآلام إلا أنها لا تقاس بمشاهد الحرب الأهلية التي نشاهدها منذ أعوام على أرض الرافدين. ونحن في انتظار تقرير لجنة بيكر -هاملتون المكلفة من قبل الرئيس بوش بتقديم مقترحاتها في شأن التعامل مع القضية العراقية وإيجاد مخرج لإنهائها في وقت معلوم ولعل من مؤشرات الحلحلة في موقف بوش، عزله لوزير الدفاع رامز فيلد الكئيب، وتولية روبرت جيتس مكانه، وما قد يتمخض عنه حاليا موقف الحزب الديمقراطي الذي وافق على شن الحرب أول الأمر، وما قد أدركه بوش من دروس هذه الحرب في تحطيم هيبته وفي تردى المكانة العالمية للولايات المتحدة.ونقول أخيرا: لك الله يا عراق، فما بأيدينا نحن الأشقاء من قدرة وقد كبلناها بقيود التبعية والاستسلام لقرارات وتوجهات إمبراطور آخر الزمان. حركة القوميين العرب