ما عادت البنوك المغربية تمنح القروض بالشكل الذي كان عليه الأمر سابقا، فالعديد منها لجأ إلى سياسة شد الحزام والامتناع عن إعطاء القروض إلا بشروط وضمانات إضافية، وأحيانا تمتنع عن منح القرض حتى في وجود هذه الضمانات. هذه الوضعية فسرتها جهات مقربة من القطاع بالنقص الحاد في السيولة الذي تعاني منه السوق المالية المغربية وبارتفاع مستوى المخاطر، في حين يرى الخبراء أنها ليست سوى تنصل للبنوك من مسؤوليتها في دعم الاقتصاد الوطني في مرحلة الأزمة. عندما قدم مجلس المنافسة النتائج الأولية للدراسة التي أنجزها مكتب «مزار» حول القطاع البنكي بالمغرب، بداية الأسبوع الجاري، كان الجميع يتوقع أن تفرز هذه النتائج تشريحا دقيقا للقطاع يضع الأصبع على مكامن الخلل ويكشف الستار عن الجهات المستفيدة من استمرار الوضع الحالي للقطاع، غير أن شيئا من ذلك لم يقع، وظلت المعطيات التي قدمتها الدراسة سطحية للغاية، في وقت لم يعد فيه الخبراء يفهمون الدور الحقيقي للبنوك في النسيج الاقتصادي الوطني، بعدما اتجه معظمها إلى نهج سياسة ربط الحزام والامتناع عن منح مزيد من القروض، خاصة للمقاولات الصغرى والمتوسطة التي تشكل عصب الحياة في الدورة الاقتصادية. تقليص القروض للمقاولات الصغرى والمتوسطة مع اشتداد الأزمة المالية ووصول تداعياتها إلى المغرب، كان المغاربة يعولون على مؤسساتهم البنكية، التي نجت بنفسها من تداعيات الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي، سواء في سنة 2008 أو خلال السنة الماضية، لدعم الاقتصاد الوطني ومد يد العون للمقاولات والأفراد للخروج من ضائقتهم المادية، غير أن الذي وقع هو العكس، فقد كشفت مصادر «المساء» أن معظم البنوك قلصت عدد القروض الممنوحة للمقاولات الصغرى والمتوسطة، في ظل الكساد الذي تعيشه مجموعة من القطاعات الاقتصادية، وكذا ارتفاع نسبة المخاطر نتيجة غياب الرؤية والوضوح لدى الفاعلين الاقتصاديين. وحسب المصادر ذاتها، فإن المشاكل الكبيرة التي واجهتها بعض الشركات ساهمت في رفع مستوى الاحتراز لدى البنوك، مؤكدة أن تعثر هذه الشركات كان القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لعمليات تمويل المقاولات. وبينما رفض شايب عاينو، مدير المجموعة المهنية لبنوك المغرب، التعليق على الموضوع، معتبرا أن بنك المغرب هو الأجدر بالإجابة عن تراجع مستوى القروض الممنوحة من طرف المقاولات للشركات، يرى حماد قسال، الخبير الاقتصادي والرئيس السابق لفدرالية المقاولات الصغرى والمتوسطة، أن الوضع الاقتصادي الحالي أصبح يثير عدة علامات استفهام، مشيرا إلى أن البنوك أغلقت صنبور القروض بالنسبة للمقاولات الصغرى والمتوسطة، التي تعد عصب الاقتصاد الوطني، وهو ما يهدد بشلل في المنظومة الاقتصادية عموما. ويضيف قسال أن الحكومة مطالبة بالتدخل عاجلا لوقف النزيف الذي تعيشه المقاولات المغربية، مشيرا إلى أن البنوك تربح كثيرا وتستفيد من الادخار العمومي، وبالمقابل لا تقدم أي تضحية للاقتصاد الوطني حينما تكون الأزمة. وأوضح الخبير الاقتصادي أن البنوك كانت تطبق معدلات تصل إلى 9 في المائة على المقاولات الصغرى، وهو ما جعلها تحقق أرباحا كبرى، كما أنها استفادت من تخفيض الضريبة على الأرباح، لكنها بالمقابل لا تقدم العون للاقتصاد الوطني في الأزمة التي يعيشها حاليا. ويتوقع قسال أن يؤثر قرار إغلاق صنبور القروض على المقاولات وعلى الاقتصاد عموما، حيث يرى أن من شأن ذلك أن يهوي بمعدل النمو الاقتصادي إلى مستويات ضعيفة جدا.
توجيهات الجواهري حبر على ورق منذ بداية السنة الماضية تمردت معظم البنوك على توصيات السلطة الوصية على القطاع، فقد رفضت الاستجابة لتوجيهات عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، بخصوص خفض معدلات الفائدة من أجل تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، إثر الإعلان عن خفض سعر الفائدة المرجعي شهر مارس من السنة الماضية بربع نقطة من 3.25 في المائة إلى 3 في المائة. وتؤكد المعطيات أن المسؤولين على القطاع البنكي حافظوا طيلة الشهور الماضية على معدلات الفائدة في مستوياتها المرتفعة، سواء بالنسبة للخواص أو المقاولات، مشيرة إلى أن هذه المعدلات تبدأ من عتبة 5.5 في المائة بالنسبة للقروض العقارية و8 في المائة بالنسبة لقروض الاستهلاك، بينما تصل بالنسبة إلى المقاولات إلى حدود 5.9 في المائة لقروض التجهيز و5.2 في المائة لقروض الخزينة. وانتظر زبناء البنوك تخفيض معدلات الفائدة من شهور عديدة، خاصة في ظل تراجع الحركية الاقتصادية، غير أن البنوك رفضت الانخراط في هذا الإجراء على اعتبار ارتفاع نسبة المخاطرة في الظرفية الحالية المطبوعة بزيادة التوترات الاجتماعية وإمكانية زيادة عدد الزبناء المعسرين. وأكد عبد الصمد ديبي، أستاذ الاقتصاد والتدبير بالدار البيضاء، أن البنوك المغربية ترفض فعلا الانخراط في مسلسل تخفيض معدلات الفائدة معتمدة في ذلك على التوافق فيما بينها في إطار المجموعة المهنية لبنوك المغرب، التي تقف حاجزا أمام تطبيق فعال لسياسات بنك المغرب، مضيفا أنها تستفيد، كذلك، من ضعف البورصة، التي يجب أن تكون في الواقع سوقا مالية منافسة، وهو ما يحرم زبناء البنوك من تمويلات بديلة. وأوضح ديبي أن سعر الفائدة في السوق يخضع لعنصرين أساسيين هما سعر الفائدة المرجعي ونسبة المخاطرة، فمن خلال النظرية الاقتصادية المالية، ومن أجل تحريك الدينامية الاقتصادية، يقوم بنك المغرب بخفض سعر الفائدة المرجعي، غير أن البنوك ترى في هذه الحالة وجود بعض المخاطر المحدقة بالاقتصاد، وهو ما يدفعها إلى زيادة نسبة المخاطرة، وبالتالي تبقى معدلات الفائدة في مستوياتها العادية ولا تستفيد من خفض سعر الفائدة المرجعي. معطيات رسمية تؤكد تراجع نسبة المخاطر رغم أن المعطيات الصادرة عن بنك المغرب تتحدث فقط عن المخاطر المرتبطة بقروض الاستهلاك ولا تركز على المخاطر بالنسبة للقروض التي تستفيد منها الشركات، إلا أن تحليلها يمكن إسقاطه على جميع أنواع القروض، فقد كشفت هذه المعطيات أن شركات التمويل المانحة للقروض الاستهلاكية تمكنت من تخفيض كلفة المخاطرة في هذا النوع من القروض إلى حوالي 771 مليون درهم خلال السنة الماضية، بتراجع نسبته 17 في المائة مقارنة مع سنة 2010. ويعزو الخبراء هذا التراجع إلى عاملين أساسيين، أولهما تحسن الوضعية المالية للأسر المغربية، التي أصبحت تملك قدرة أكبر على الالتزام بأداء ديونها. وثانيهما أن تطهير محفظة شركات التمويل بدأ يعطي نتائج ملموسة، وأن القروض لم تعد تمنح دون ضمانات كافية أو بشكل عشوائي. وتثير نسبة المخاطر جدلا كبيرا في أوساط المهنيين، حيث ترى بعض البنوك أن وجود خطر أقل ليس غاية في حد ذاته، بل الأهم هو التحكم في المخاطر عبر العمل مسبقا على فرض أسعار مناسبة له. ومن جانبه، يرى المندوب العام للجمعية المهنية للمؤسسات المالية، مصطفى ملسا، أن المخاطر تظل أمرا واردا بقوة ولا يمكن تفاديه، بالنظر إلى أن هذا القطاع يعد قطاع مخاطر بامتياز، غير أنه أكد أنه من الضروري مواصلة تطوير منتجات خاصة عبر تلبية طلبات جديدة للزبناء مع العمل في آن واحد على توسيع ودمقرطة الحق في الحصول على القروض مع الاقتراب أكثر من الأشخاص غير المستفيدين من هذه الأخيرة، وتحفيزهم بشكل يجعلهم يفتحون حسابات بنكية خاصة بهم. الاحتكار يحرم المغاربة من منافع التحرير تفيد الدراسة، التي أنجزها مكتب الدراسات «مزار» حول تنافسية القطاع البنكي، بأن البنك الشعبي والتجاري وفا بنك يحظيان بنصيب الأسد في النسيج البنكي المغربي في ما يخص حصة السوق وتجميع الودائع. وأوضحت الدراسة، التي قدمها مجلس المنافسة، أن من بين 19 بنكا عاملا بالمغرب، يحتكر البنك الشعبي 25 في المائة من حصة السوق، يليه التجاري وفا بنك ب23 في المائة. وتكشف الدراسة، وجود تمركز متوسط للقطاع، مع عرض متنوع ورسملة مالية ضعيفة. وتشير إلى أنه رغم سياسة الخصخصة وانفتاح رأسمال البنوك العمومية على المستثمرين الخواص، التي تم تسطيرها منذ سنوات عديدة، لا تزال الدولة الفاعل الأول في القطاع البنكي، إذ تتحكم في 7 بنوك، مقابل 8 بنوك ذات رؤوس أموال أجنبية، مؤكدة أن المنافسة داخل القطاع تتم عبر نسبة الفائدة المرتبطة بمستوى السيولة والتعريفات المتجانسة والمتغيرة. وأشارت من جهة أخرى إلى وجود ثلاثة أنواع من الحواجز المفروضة على دخول السوق البنكية، يتمثل أولها في الحواجز التنظيمية، المتعلقة بالحصول على موافقة بنك المغرب، ويتمثل النوع الثاني في الحواجز البنيوية التي تتعلق لاسيما بغياب التساوي بين المنافسين في الحصول على المعلومة واقتصاد الأسعار، ويتمثل النوع الأخير في الحواجز الاستراتيجية المتعلقة بتجميع العروض. وتظهر الدراسة أن القطاع البنكي، الذي ينظمه إطار تشريعي وتنظيمي مفصل تحت وصاية البنك المركزي، يشارك بنسبة 110 في المائة في الناتج الداخلي الخام بحصيلة إجمالية تبلغ ألف مليار درهم. وتوصي الدراسة بتسهيل الحركية البنكية للزبناء، ومواصلة العمل الذي بدأه بنك المغرب حول شفافية ومقارنة التعريفات البنكية والتفكير في نسبة الفائدة القصوى المتفق عليها، معتبرة أن من الضروري جعل أنظمة المحاسبة التحليلية للبنوك أكثر فاعلية وإحداث هيئات مستقلة لتنقيط البنوك.