- هل يمكن اعتبار توزيع 300 أو 400 درهم على كل فقير حلا ناجعا لإشكالية صندوق المقاصة؟ عجيب أن الشريحة المجتمعية التي كانت مسنودة عن أحقية من خدمات صندوق المقاصة ستجد نفسها محرومة منه مقابل منحها 1000 درهم شهريا. إلا أن هذه الشريحة يجب أن يخبرها بنكيران بأن 1000 درهم ليست بمنحة حقيقية، بل مجرد منحة اسمية. ذلك أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة التضخم، إضافة إلى 600 درهم التي ستثقل قفة المستهلك بعد إزاحة صندوق المقاصة، فالقيمة الحقيقية ستتراوح بين 350 و400 درهم شهريا فقط، هذا إذا استقرت أسعار المواد الأساسية التي تدعمها الحكومة على حالها، وهذا أمر جد مستبعد. وفي واقع الأمر فالمستهدف الحقيقي للإنعاش من إسقاط صندوق المقاصة هو ميزانية الدولة وليس هاته الشريحة المجتمعية المستضعفة. فما ستمنحه حكومة بنكيران باليمين ستأخذه بالشمال، مضيفة إليه الضريبة على القيمة المضافة عند الاقتناء. وإذا كان التخفيف من عجز ميزانية الدولة يمكن أن يمر عبر إسقاط صندوق المقاصة، فهذا أمر لن يستساغ من طرف المواطن المغربي، الذي بات على بينة من أن ما يثقل ميزانية الدولة هي نفقات لا علاقة لها بتاتا بدعم المواد الأساسية للمواطن المغربي، بل بات متيقنا أيضا بأن حكومة بنكيران تسير في الاتجاه المعاكس للخطاب أو البرنامج الذي دشنت به ولوجها حقل تدبير الشأن العام. وكل ما أفلحت فيه هو إبقاء الحال على ما هو عليه بالنسبة للطبقة الميسورة من امتيازات وأجور عليا وعلاوات وسكن فاخر وظيفي (وما خفي كان أعظم وأشد وطأة على ميزانية الدولة)، متوجة هذا التوجه ب»عفا الله عما سلف»، وجاعلة من الطبقتين الدنيا والمتوسطة ورشا لتفعيل ما لم تستطع تفعيله تجاه الطبقة الميسورة، جاعلة إياها تتيه في شعارات محاربة الفساد والريع والمساواة والعدالة، بل جعلت هذه الطبقات تغوص في مستنقعات الضفادع وعالم الجن والعفاريت والتماسيح. إنها سذاجة الخطاب السياسي في أبهى حلله. - وإلى متى ستدوم هذه المساعدة المالية في نظرك؟ يطرح هذا التساؤل نفسه لأن هذه المساعدة ستصبح تقليدا ترهن به كل الحكومات المقبلة، فهذه المساعدة ستصبح مكتسبا وإرثا من الصعب الاستغناء عنه. وماذا إن اتسعت رقعة المستضعفين ؟ وماذا إذا توفي المستضعف المستفيد وترك وراءه درية ؟ لن يكون بوسع الحكومة إيقاف المساعدة لليتامى؟ وماذا بعد (…)؟ كالعادة، سيعهد للحكومة المقبلة فيما بعد بالتفكير في كيفية التعامل مع هذه التركة. ألا تعتبر هذه المساعدة نوعا من الريع السياسي أو بداية لحملة انتخابية قبل الأوان؟ كل التفسيرات واردة. عجيب أن تنغمس بعض الحكومات في محاولة إيجاد حلول لإشكاليات متشعبة عوض الانكباب على معالجة إشكاليات أقل تشعبا وحساسية. وقد يكون حل هذه الأخيرة تمهيدا لمعالجة الإشكالية المتشعبة. إن التفكير في إزاحة صندوق المقاصة بغية تقويم ميزانية الدولة هو تفكير مجانب للتدبير العقلاني للموارد المالية للدولة ونفقاتها، خصوصا أن آليات اشتغال الاقتصاد المغربي لم تتمكن بعد من إرساء أسس اقتصاد ليبرالي خاضع في توازناته لآليات السوق، أي العرض والطلب. لا أحد يعارض الإصلاح والتقويم، لكن ليس على حساب الأغلبية المنهكة ولفائدة الأقلية الميسورة بسبب سوء اختيارات تدبير مختلف قطاعات الشأن العام. فإذا كانت إصلاحات الدول المتقدمة تتسم بالشمولية ابتداء من الطبقات الميسورة كي تكون نموذجا في اتجاه تنازلي نحو الطبقات الدنيا لتتحمل ولتستفيد كل الشرائح الاجتماعية دون استثناء من انعكاسات وإيجابيات كل مبادرة إصلاح، فإن الحكومة الحالية نراها تبدأ الإصلاح على حساب الطبقات الدنيا والمتوسطة دون المساس بالطبقات الميسورة التي في واقع الأمر تعتبر امتيازاتها ومكتسباتها أصل ومصدر الاختلالات التي يعرفها الاقتصاد المغربي. وهذا التوجه لا يتناغم ومصطلحي العدالة والتنمية اللذين اتخذهما حزب الأغلبية الذي يترأس الحكومة تسمية له. فمكامن الخلل باتت معروفة لدى الكل والتدابير الملازمة للإصلاح هي كذلك معروفة لدى الكل، ولم يعد هناك أي مجال لاستيعاب المزيد من الخطابات التمويهية ولا لتحمل المزيد من التدابير الترقيعية التي من شأنها المساس سلبا بالمستوى المعيشي المتدهور أصلا للمواطن المغربي. - تعتبر، إذن، أن حل إشكالية صندوق المقاصة ليس بهذه السهولة التي تراها الحكومة الحالية؟ يبدو أن حكومة بنكيران من شدة وطأة الانتقادات الموجهة إليها، ليس فقط بشأن بطء أدائها الحكومي، بل حتى بشأن التوجه الاقتصادي والاجتماعي المتمادية في تبنيه، باتت تزكي صفة العشوائية والارتجالية التي ميزتها منذ توليها تدبير الشأن العام، فالسيد باها في أول خرجة إعلامية له يصرح بأن التخلي عن صندوق المقاصة لن يكلف المواطن المغربي سوى 600 درهم شهريا كزيادة في نفقاته المعيشية المتهالكة أصلا، موازاة، وهذا استهتار بالمستضعف، مع منحه 1000 درهم شهريا. فالحديث القائم والمتناقض بخصوص إسقاط صندوق المقاصة، والذي لا أعتقد أن يكون المجلس الأعلى للمنافسة قد يشاطر الحكومة في هذا التوجه في هذه الظرفية، يطرح عدة ملاحظات وتساؤلات عن 600 درهم و1000 درهم. إذا كان إسقاط صندوق المقاصة، أي توقف الحكومة عن دعم المواد الاستهلاكية الأساسية، هو التوجه الذي ستتخذه حكومة بنكيران سبيلا، فيجب على هذه الحكومة العمل على وجود سوق تسودها المنافسة الحرة عوض الاحتكار السائد وقلة المنتجين، والذي يتناقض شكلا ومضمونا مع أحد أسس الليبرالية الاقتصادية. ففي غياب سوق بمواصفات الليبرالية الاقتصادية الحقيقية والملموسة، لن يوصف إسقاط صندوق المقاصة وما سيعقبه من ارتفاع في المواد الاستهلاكية للمواطن المغربي إلا ك»نقطة الماء التي ستفيض الكأس». - هل تعتبر أن الإصلاح ذو طبيعة سياسية أكثر منه إصلاحا تقنيا-اقتصاديا؟ من سيصدق المواطن المغربي؟ هل باها، وبجواره بوليف، الذي صرح بأن الإلغاء التدريجي للمواد المدعمة سيترجم بزيادة مبلغ 600 درهم شهريا في النفقات الاستهلاكية للمواطن المغربي؟ أم تصريح نزار بركة، وبجواره الأزمي، الذي أكد أن أسعار المواد المدعمة لن تعرف زيادة، أم أوزين الذي حذر من الكف عن دعم المواد الأساسية؟... تصريحات متناقضة ومبهمة لا تطمئن بقدر ما تزكي فرضية كون قطار حكومة بنكيران ربما بدأ يزيغ عن سكته. فهل نحن أمام تصريح حكومي موحد أم أمام تصريحات مختلفة لوزراء ينتمون إلى نفس الحكومة؟ وأيهم الأصح؟ الغريب أن الأحزاب المتبقية والمشكلة للمشهد السياسي وكذا الفعاليات النقابية لم تصدر عنها أي ردة فعل! فمبلغ 1000 درهم التي ابتدعها وزراء العدالة والتنمية لن تكون كافية لضمان ولاية ثانية لكون المواطن المغربي بات يطالب بعدالة في توزيع ثروات بلاده، وهو ليس بطالب لمساعدة ولا بصدقة، بل بحقه في التمتع بما يتمتع به الآخرون. ما الذي يصلح في العدالة التي هي مرآة المساواة إذا لم تتجه نحو إرساء عدالة في العيش الكريم؟ ليس هذا بابتداع، ولكنه بكل بساطة تجسيد لروح الدستور المغربي. لقد صدق من أكد أن مضمون مقتضيات دستور 2011 تعلو بكثير عما اقترحته جل الأحزاب. - هل ترى أن الإحصائيات التي ارتكزت عليها الحكومة مغلوطة؟ على أي أساس علمي وبالخصوص على أي رؤى مستقبلية ارتكز كل من باها وبوليف في تحديدهما لمبلغ 600 درهم كانعكاس إسقاط صندوق المقاصة على القدرة الشرائية للمواطن المغربي؟ وعن أي مواطن مغربي يتحدثان؟ فإن كان ذلك تعميما فهذا لن يكون عادلا لكون بنية المجتمع المغربي غير منسجمة من حيث الدخل، وبالتالي من حيث القدرة الشرائية، ناهيك عن اختلافها بين جهات المغرب. فإذا كانت بنية المجتمع المغربي تغلب عليها شريحة ذوي الدخل الهزيل وغيرالقار وذوي الدخل المحدود والمتوسط فهذه الشرائح هي التي ستكتوي بانعكاسات الزيادات المرتقبة في المواد الأساسية للعيش البسيط، وبالتالي فبنكيران برضاه وبتزكية ما يقترحه وزيره بوليف، يستهدف الشريحة المجتمعية ذات القدرة الشرائية الدنيا والمتوسطة عوض الشريحة المجتمعية الميسورة التي عجزت حكومته على إخضاعها للضريبة على الثروة والضريبة على ذوي الأجور والامتيازات الخيالية. لن يكون من محض الصدفة أن يكون هذا الرقم هو الذي أضيف إلى أجر الموظف ولو بصفة غير مرضية حين كان حزب بنكيران ضمن المعارضة. أما التموقع ضمن فعاليات المشهد السياسي فقد تغير، فمما لا ريب فيه أن حكومة بنكيران ارتأت أن الحجم الإجمالي للزيادة السابقة كان من بين ما أرهق ميزانية الدولة، وبالتالي فأقرب سبيل، من وجهة نظر حكومة بنكيران، هو المواطن المغربي من خلال استرداد هذه الزيادة بطريقة غير مباشرة. ولن يستقر الأمر عند هذا الحد لأن الزيادة ستزيد وطأتها على القدرة الشرائية كلما زادت أثمان المواد الأساسية، التي قررت حكومة سحبها من الدعم الحكومي مع إسقاط صندوق المقاصة. أو لم تتذكر حكومة بنكيران الضجة والمشاورات التي قامت في عهد حكومة جطو عند محاولة زيادة 10 سنتيمات فقط في سعر الخبزة الواحدة؟ والزيادة كذلك في سعر قنينات الغاز؟ - رغم توزيع الدعم المباشر، إذن، على الفقراء فإن القدرة الشرائية ستتدهور؟ في الوقت الذي نجد الدول المتقدمة، وفق النظريات الاقتصادية، تسعى إلى إنعاش الطلب، أي القدرة الشرائية للمواطن، وكذا الطلب العام كمحرك أساسي لإنعاش العرض، وبالتالي تنشيط الاقتصاد الوطني، ذلك أن إنعاش الطلب من خلال إنعاش القدرة الشرائية يعتبر إحدى ضمانات استقطاب وتحفيز ألاستثمارات، نجد أن حكومة بنكيران تسلك اتجاها معاكسا مضادا لتحفيز الطلب، وبالتالي نجدها تتساءل عن ضعف الاستثمارات أو تعليل العجز عن استقطابها بانعكاسات الأزمة العالمية. وفي غياب آليات ضبط أسعار المواد الاستهلاكية تشهد سوق المواد الاستهلاكية حركية استثنائية مشحونة بسؤال واحد: ماذا بعد رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية؟ تجعل من المستهلك (الطلب) عرضة لسلوكيات غير مسبوقة من طرف البائع (العرض) كما لو أن صندوق المقاصة تمت فعلا إزاحته، فسلوكيات العرض والطلب بدأت تسبق إلغاء دعم المواد. فالمستهلك بدأ يقتصد والبائع بدأ يخزن قصد البيع بثمن أكبر. وليس هذا بغريب عن النظرية الاقتصادية التي اهتمت ب les anticipations rationnelles des agents économiques إلا أن هذه النظرية تصطدم بتوجه اقتصادي مبهم وسلبي لا يمكن من جعل سلوكيات الفاعلين الاقتصاديين سلوكيات عقلانية. وهذا مسار قد يخلق متاعب لا يمكن التنبؤ بعواقبها في مجال تدبير الشأن العام. *أستاذ باحث في العلوم الاقتصادية