أجمع المشاركون في الندوة الافتتاحية للمركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية على أن العالم العربي يمر بظروف صعبة تجعل اختيار الدولة المدنية كحل للمعضلة السياسية أهمية بالغة. الندوة التي احتضنها مقر المركز بالرباط السبت الماضي عرفت مشاركة المفكر السوري هاشم صالح، والبروفيسور الكويتي شفيق الغبرا، في حين شارك من المغرب كل من مدير المركز نوح الهرموزي ومنسق دائرته العلمية محمد سبيلا، بالإضافة إلى الباحثين عز الدين العلام وآمحمد مالكي وعبد السلام الطويل. أكد المفكر السوري هاشم صالح في مداخلة بعنوان «ربيع عربي أم خريف أصولي» أن صعود الإسلاميين إلى السلطة شيء طبيعي، ويدعو إلى أن «نتركهم يحكمون لنعرف حدودهم، مساوئهم أو حسناتهم، فكما تم الحكم باسم الاشتراكية وبينت فشلها، فلنترك الإسلاميين يحكمون لتتبين حصيلتهم».واعتبر المحاضر ذاته «أننا لسنا متنورين ولكننا سائرون في طريق الاستنارة»، مضيفا «انطلاقا من هذا المنظور التفاؤلي، فالمستقبل يحمل معه أملا، ويعتبر الحراك العربي فرصة للعمل من أجل تحرير أنفسنا وتطوير مستقبلنا». وفي سياق تعليقه على ما يجري في المنطقة العربية من وصول التيارات الإسلامية للسلطة، قال المفكر السوري إن «التيارات الإسلامية العربية، خاصة في مصر، تراجعت عن اجتهادات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لتبتعد عن التجديد في الدين، ولتتراجع حتى عن الدستور العثماني الذي صدر سنة 1876 وأقر المساواة بين جميع الأفراد، مستطردا أن على جميع الفرقاء تفهُّم اللحظة التاريخية التي أعطت للإسلاميين إمكانية الحكم، وهي لحظة تتسم بتفشي الأمية وبالتعلق بالخطابات الدينية العاطفية». وفي ظل وضع كهذا، يقول المحاضر، بضرورة بلورة تأويل جديد للتراث، تأويل يمكننا من التصالح مع أنفسنا وحاضرنا قصد استشراف مستقبل واعد. من جهة أخرى، تساءل آمحمد المالكي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مراكش، عن طبيعة النقاش الدائر حول الدولة المدنية: هل هو نقاش إيديولوجي مفتعل أم فكري وعلمي يمس العديد من الحقول المعرفية كالقانون والفلسفة؟. وفي هذا الإطار أكد المالكي أن عمر هذا النقاش هو ربع قرن تقريبا، حيث استعمل في مصر إبان الثورة الناصرية في 1952. وأضاف أن «الأدبيات التي ناقشت مصطلح الدولة المدنية ركزت على الصفة التي هي المدنية وتغافلت عن تحليل الموصوف الذي هو الدولة، من خلال تبيان طبيعتها وخصائصها وحدودها». وأكد أستاذ العلوم السياسية أن «الدولة الدينية في جوهرها الثيوقراطي تنفي مبادئ الدولة المدنية». من هنا فالدولة ، في نظره، دولة تحمي جميع أطياف المجتمع بغض النظر عن الدين والعرق مع مساواة في الحقوق الواجبات؛ ومن مبادئ هذه الأخيرة، يقول المحاضر، الثقة في عملية التعاقد، المواطنة، الديمقراطة والتعدد. بالمقابل، لم يتردد المالكي في اقترح مفهوم آخر بدل مفهوم الدولة المدنية، ألا وهو الدولة الوطنية، التي أكد على أنها فشلت وتلبست بلبوس الدين لإخفاء إخفاقها، «ومن هنا ضرورة تقديم المتطلبات الواجب توفرها في الدولة الوطنية لتتم إعادة الاعتبار لها». وهذه المتطلبات لخصها في أربعة: دستور توافقي، فصل السلط، احترام التعددية، ثم أخيرا المواطنة الكاملة. وفي سياق متصل، اعتبر عبد السلام الطويل أن «أجرأة مفهوم الدولة المدنية لن يتم على أكمل وجه إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار وعن وعي تام الجوانب التاريخية والثقافية التي أنتجته، ومن ثم تكون عملية التأويل عملية مرتبطة بالتاريخ والثقافة». ويرى المتحدث «أن المشكل هو مشكل التأويل، وقد حدد أربعة تأويلات كبرى للتراث السياسي الإسلامي، الذي يرتكز عليه تصور مفهوم الدولة المدنية: التأويل الحرفي-السلفي، التأويل التوفيقي، التأويل الخروجي-الجهادي ثم التأويل العرفاني». وأضاف الطويل أن «التصور السلفي يعتبر الدولة المدنية دولة علمانية بمفهومها الشامل، بل حتى من يتفقون مع الدولة المدنية كتعبير يختلفون حولها عندما نحاول تفصيل القول فيها عمليا». ولم يفت المتحدث المناداة بإقرار دولة مدنية قائمة على المواطنة والمساواة، وقائمة كذلك على حرية المعتقد التي تجعل من الدين مجالا للكل. ولم يغب مفهوم الحرية عن الندوة، حيث أكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت أن «الحرية أداة تساعدنا في مساءلة ونقد وتحديد قوة وحدود الدولة. إنها بعبارة أخرى فن اجتياز العقبات وموقف محدد في الزمان والمكان». من جهة أخرى، يبين الأستاذ على أن الحراك الذي شهدته المنطقة العربية ساهم إلى حد كبير ولأول مرة في فتح مجال للتواجه مع الذات ومساءلة أنفسنا ورؤية صورتنا الذاتية، على عكس الانتفاضات الأخرى التي كان العدو ماديا وخارج أنفسنا. ويرفض الباحث السياسي ذاته نظرية المؤامرة لتفسير ما جرى في المنطقة العربية من حراك، بل يعتبر أن الحراك «له جذور اقتصادية، بالأساس البطالة، التهميش، الاستبعاد الاجتماعي، الفقر، لأن الحراك كان حراكا شعبيا جماهيريا أشعل فتيله البوعزيزي في تونس احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية المزرية التي تعيش تحت وطأتها الشعوب العربية. وأشار الغبرا إلى أن الحرية تقتضي «ضرورة الثقة المتبادلة، إلا أن هذه الثقة في نظره لن تعود إلا من خلال الدولة المدنية التي تضمن لمواطنيها حرياتهم في التعبير والخلق والإبداع، لأن الحرية هي بوابة التغيير، والمستقبل مفتوح أمامنا لتحقيق هذا التغيير». من جهة أخرى، صنف المفكر المغربي عز الدين العلام الإسلام إلى أربعة أصناف: «ثمة أربعة أنواع من الإسلام: الإسلام الرسمي، الإسلام اليومي، الإسلام الحزبي ثم الإسلام المرضي». وأضاف صاحب الآداب السلطانية في مداخلة بعنوان «الديني والسياسي في النظام السياسي المغربي» أن سؤال الدين سؤال راهني ولا يمكن القفز عليه دون مقاربته، مبينا في الآن ذاته أن الإسلام ليس واحدا ووحيدا كلما نطقنا كلمة الإسلام. وأضاف العلام أن الدولة الإسلامية «لم يكن لها وجود في التاريخ العربي الإسلامي، لأن الإسلام سابق عن الدولة، ولأننا نجد في التراث الفكري والفقهي الإسلامي مواقف تؤكد على ضرورة فصل الدين عن الدولة؛ ويطرح كمثال الماوردي الذي ميز بين أدب الشريعة وأدب السياسة. سؤال الخصوصية كان حاضرا في مداخلة العلام، إذ «لا أصل لها في التراث العربي الإسلامي، وبين بالأمثلة كيف أن ابن المقفع مثلا أكد على تماثل التجارب التاريخية البشرية، وكيف أن الماوردي أكد على تشابه أحوال الأمم، مما يسمح لنا ببلورة رؤية كونية لما يسمى الخصوصية» يقول المحاضر. ويذكر أن هذه الندوة، التي افتتحها مدير المركز نوح الهرموزي، وسير أشغالها المفكر المغربي محمد سبيلا، تأتي في سياق برنامج علمي من الندوات الفكرية الشهرية واللقاءات العلمية الدورية، أعلن المركز تنظيمها على مدار السنة، بمشاركة مجموعة من الفلاسفة والسوسيولوجيين وعلماء السياسة العرب والأجانب.