ينطلق مشروع عبد السلام ياسين من محاولة تقديم قراءة نقدية للتاريخ الإسلامي تُشكّل أرضية يبني عليها مشروعه النظري، ذلك أن التاريخ في التجربة السياسية للأمة يمثل مسارا متحولا خضع لعدة قراءات من منطلقات متعددة، حسب زاوية النظر التي يتخذها الباحث وكذا حسب النتائج التي يرغب في الوصول إليها. وليس هذا مجرّدَ ترَف فكريّ بل إن التاريخ ظل دائما ساحة معركة فلسفية وسياسية وفكرية لدى جميع الأمم، حددت في العديد من التجارب اتجاهات الحضارات والأنظمة السياسية بسبب عمليات التأويل والتكييف التي تخضع لها الحادثة التاريخية، فالتاريخ كله، كما يقول المؤرخ الإيطالي بنيديتو كروتش، هو بالتعريف «تاريخ معاصر»، وهذا يعني بالنسبة إليه أن قراءة التاريخ -مهْما كان موغلا في القدم- هو جزء من المعارك الفكرية والسياسية في الحاضر. لم يكن مشروع بهذه الأهمية ليغيب عن فكر ياسين، لأنه لا عملية إصلاح خارج قراءة التاريخ وتفسيره، لذا فإن أول خطوة يعلن عنها هي إنجاز قراءة جديدة للتاريخ بما يؤدي إلى عملية فرز بين النص والتجربة، أو بين النموذج والواقع. فهو يدعو إلى التصدي لقراءة التاريخ الإسلامي قراءة نقدية تكشف الأخطاء والتجارب الموروثة بهدف تجاوزها، ويقول بهذا الصدد: «إن الإعراض عن تاريخنا بدعوى التشبث بالنموذج النبويّ قرين في البلادة لاحتضان هذا التاريخ احتضانا صبيانيا يدافع عن الأخطاء الفادحة ويعلم للأجيال ترسيخ الواقع الموروث. نقد تاريخنا بالعقلانية الوضعية من زاوية الإلحاد والعلمانية أو المادية الجدلية أو القومية الاشتراكية نقد موجَّه لتفسير تاريخ المسلمين تفسيرا يُجرّد الإسلام من الوحي والنبوة والإيمان بالله وباليوم الآخر، ليبقى فقط للاشتراكي «ثورة» أبي ذرّ وعدل عمر وللعلماني حضارة بغداد والأندلس المتسامحتان، وللقوميّ عزة العرب ونخوتها، وللجميع حين ينافقون عبقرية محمد، القائد العربي الرائد في إدخال السياسة إلى الميدان العسكريّ، حيث عبأ العرب تعبئة لا مثيل لها في التاريخ» (سنة الله). ويتصدى ياسين للقراءة الانبهارية للتاريخ الإسلامي، ويعتبر أن هذه القراءة المتعاطفة -إن صح التعبير- تشكل عنصرا في استمرار التخلف الحضاري الذي تعيشه الأمة، يقول على سبيل المثال: «أظن أن من أسباب عدم جدوانا أننا لا نتبيّن تاريخنا ولا نقرأه إلا بمنظار الإعجاب، وكأنه شيء تام متكامل يحمل في طياته العناصر السحرية التي خلقت الحضارة البراقة القوية» (الإسلام غدا). ولعل الظرفية التي قيل فيها هذا الكلام، وهي بداية السبعينيات من القرن العشرين، كانت ظرفية تتّسم بالميولات المختلفة في التعامل مع التاريخ الإسلامي، حيث كان هذا التعامل يخضع للمذاهب الإيديولوجية والفكرية السائدة آنذاك، مثل الماركسية والقومية، الأولى لا ترى في التاريخ سوى صراع الطبقات الاجتماعية، بينما تسعى الثانية إلى اختزال التاريخ في البعد القوميّ وتجرّده من المستوى الديني. وقد ظهرت دعوات كثيرة لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، وهو ما تم بالفعل من خلال العديد من الأعمال التي تناولت ذلك التاريخ بالدراسة والتحليل باستعمال المنهجيات المختلفة، حسب الأغراض والدوافع لدى كل جانب. غير أننا نلاحظ أن ياسين لم ينخرط مع الأصوات التي كانت تُمجّد التاريخ الإسلاميّ الموروث، كرد فعل على القراءات الإيديولوجية المومأ إليها أعلاه، فهو يردّ بشكل واضح على بعض هؤلاء الذين كانوا ينتمون إلى صف التيار الإسلامي، قائلا: «ومن رجال الدعوة من يوصي ألا يُمسَّ تاريخ المسلمين بسوء، مخافة أن تفقد الأجيال الطالعة مرتكزا للشعور بالانتماء لجانب عزيز» (الإسلام غدا). وبين المواقف المؤولة للتاريخ والمواقف العاطفية التمجيدية يطرح ياسين مفهوم «التاريخ الحق»، معتبرا أن هذا التاريخ هو الوحيد الكفيل بفتح آفاق الإصلاح، حيث يقول: «إن اتصالنا بتاريخنا الحق هو وحده الكفيل بأنْ يجعل لنا توترا خلاقا متحررا نحو المستقبل». لكنْ ما هو هذا «التاريخ الحق»؟، يجب ياسين: «إن تاريخنا الحق هو تاريخ الدعوة الإسلامية، تاريخ تحكم المسلم في التاريخ واستعلائه على الفتنة وعزته بربه» (الإسلام غدا). نحن، إذن، إزاء ثلاثة مفاهيم رئيسة في فكر الشيخ ياسين، تمّت صياغتها انطلاقا من تصور مُغاير للتاريخ، كمنطلق لبناء المشروع الفكريّ الشامل: الدعوة، الحكم، والفتنة. وهذا يقودنا إلى الخلاصة التالية: وهي أن التاريخ الحق للمسلمين -في سياق الفكر الياسيني- هو تاريخ الدعوة الأولى، قبل أن يحصل الانحراف التاريخيّ، وهو تاريخ تملك الإسلام للسلطة، كما مُورست وفق النموذج النبويّ ونموذج الخلفاء الراشدين من بعده، أما «زمن الفتنة» فهو الفترة التي تفصل بين النقطة التي حصل فيها هذا الانحراف وبين مشروع الخلافة على منهاج النبوة، الذي يجعله ياسين قاعدة مشروعه النظريّ الذي يُبشّر به. ومن المفيد القول إن مفهوم «التاريخ الحق» لدى ياسين يكاد يعني التاريخ الصافي، فهو يتكئ على مقاربة نقدية تروم تصفية تاريخ المسلمين مما علق به من تحولات السلطة المستبدة أو «الملك العاض»، الذي يصبح في إطار الرؤية الياسينية مجرّد هوامش على النص الحقيقي للتاريخ، أو «التاريخ الحق». غير أن الرجوع إلى هذا التاريخ الحق للمسلمين، بعد التمييز بين «اللب والجوهر والقشر والأعراض»، لا بد أن يتم عبر العودة إلى النص الأول للمسلمين، أي القرآن، الذي يوفر لياسين الأداة الضرورية للممارسة النقدية على التاريخ والواقع. ففي كتابه «نظرات في الفقه والتاريخ» صغير الحجم -والذي نعتقد أنه كتاب يؤسس للأطروحة النظرية لياسين في ما يخص موضوعنا- نجده يفرد فصلا تحت عنوان «القرآن حاكم»، يستهله بالقول: «هَمّ مقيمٌ أن يكون أتى على بعض المنتسبين إلى العلم حين من الدهر زعموا فيه أن السلامة في الدين لا سبيل إليها إلا بتوقير القرآن توقير هجران، قالوا، وبئس ما يجري التقليد على الألسنة، القرآن صوابه خطأ وخطأه صواب» (نظرات). إن نقد التجربة التاريخية للأمة الإسلامية في الفكر الياسينيّ مهمة مزدوجة، فهو من جهة عملية تفكيك لهذه التجربة التاريخية، وهو من جهة ثانية عملية تركيب جديدة. تتعلق العملية الأولى بالنظر إلى الماضي، و تتعلق الثانية بالتعامل مع الحاضر في أفق التطلع إلى المستقبل، والعمليتان معا هما ما يمنحاننا الرؤية الكلية في الفكر الياسينيّ، أو ما أطلقنا عليه في بداية هذا البحث تسمية «رؤية العالم». توفر الخطوات السابقة التي تحدثنا عنها -في معرض بسط مفهوم التاريخ ونقد التجربة التاريخية للمسلمين في المنظور الياسيني- المنطلق الأساس الذي يقود إلى عملية التفكيك التي يقوم بها الفكر الياسيني لتاريخ المسلمين. إن النقطة المركزية التي ينطلق منها هذا الفكر لإنجاز مهمة التفكيك هذه هي الحديث النبويّ الشهير في الخطاب الياسيني، الذي يشكل في نفس الوقت أساسَ المشروعية الدينية والسياسية لدى عبد السلام ياسين، والذي رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن حذيفة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت» ( رواه الإمام أحمد 4/273). يعتبر ياسين هذا الحديث النبوي معيارا ينظر من خلاله إلى تاريخ المسلمين وإلى لحظة انفصال السلطان عن القرآن، فهو يحذر من متابعة تفاصيل الأحداث التاريخية المعاصرة التي من شأنها (التفاصيل) أن تعمي الرؤية الواضحة -كأنه يستحضر المقولة الرائجة «الشيطان يكمن في التفاصيل»- ما لم يتمّ استعمال هذا المعيار لتصحيح النظر وضمان عدم الانزلاق، يقول: «إننا إذ ننظر إلى الأحداث المائجة في عصرنا، ونعيش مع الأمة أملها في أن يظهر الله دينه على الدين كله كما وعد ووعده الحق، لن نعدوّ محطات الآمال المجنحة الخائبة، تجنيحها وتحليقها فوق الواقع، تحليقا يعطي النشوة المخدّرة لكنه لا يعطي التبصر، إن لم نتخذ هذا الحديث الجليل وأمثاله دليلا لمعرفة الانحراف التاريخيّ الذي حوّل مجرى حياتنا ففقدنا بالتدريج مقوماتنا» (نظرات). إن توظيف هذا الحديث المعياريّ في الفكر الياسيني في مهمة قراءة تاريخ المسلمين في الماضي يؤدي دورين اثنين: -الأول دور دينيّ: ويتمثل في إقامة «الخلافة الوارثة» في المستقبل (المنهاج النبوي) ذلك أن الحديث عن تحوّل الخلافة إلى ملك عضوض ونقد التجربة التاريخية انطلاقا من هذا المعيار هو ما يبرّر الحديث عن هذه الخلافة الوارثة، التي تتمثل مسؤوليتها في تصحيح وضع تاريخي مقلوب» فلما أصبحت ملكا انقلب الوضع» (سنة الله). -الثاني دور سياسيّ: ويتمثل في نزع المشروعية عن السلطة السياسية في الوقت الحاضر، ذلك أن استمرار النظر إلى التجربة التاريخية كما هي دون نقدها ودون اعتماد المعيار المذكور يقود بالضرورة -في الفكر الياسيني- إلى إسباغ المشروعية على هذه السلطة السياسية: «ما درينا أننا بإعزازنا للملك العاض الماضي نعز الملك الجبري الحاضر» (نظرات). تمثل لحظة انفصال السلطان عن القرآن في الفكر الياسيني لحظة مفصلية في تاريخ المسلمين، منظورا إليها من زاوية المعيار الحديثيّ المشار إليه أعلاه، وتمثل لحظة الانفصال هذه لحظة انفراط الجماعة. إن مفهوم «الجماعة» يشكل واحدا من المفاهيم المركزية الهامة في فكر عبد السلام ياسين، لأنّ أي مشروعية دينية أو سياسية، أو دينية -سياسية بالأصح- ترتبط لديه بهذا المفهوم. ترتكز رؤية ياسين للتاريخ الإسلامي على مبدأ وحدة الجماعة في التجربة الأولى قبل حدوث الانقسام داخلها بسبب الخلاف حول الموقف من السلطة الحاكمة، فقد فجّر ذلك الانقسام حالة من الرفض للخط السياسي الذي تولد عنه، وهي حالة كانت تستقطب غالبية المسلمين، بدليل أن الأئمة الأربعة وقفوا إلى جانب حركات القومة -أو الانتفاضة- التي قام بها بعض آل البيت، لكن هؤلاء الأئمة -ومعهم من سيُسمَّون في ما بعد أهل السنة والجماعة- التزموا بالأحاديث النبوية التي تحُثّ على طاعة الحاكم اتقاء للفتنة، بينما تأوّل الرافضون من آل البيت هذه الأحاديث وخرجوا عن طاعة الحاكم. وبالنسبة إلى ياسين فإن هذا الخلاف حصل داخل الجماعة الواحدة قبل الانقسام السني -الشيعي، ولم يحدث التشدد الشيعيّ لآل البيت إلا في مرحلة لاحقة، سادت فيها لدى أهلَ السنة «تقاليد الرضوخ للحاكم أيا كان منذ الانكسار التاريخيّ»، ولدى آل البيت «تقاليد رفض الرضوخ للحاكم» (نظرات). يُرجع ياسين سبب الانقسام السني الشيعي داخل الجماعة الإسلامية الواحدة منذ ظهور الاستبداد الأمويّ إلى «فساد الحكم»، وليس إلى «أحقية الحكم». في الأدبيات الرائجة لدى الفريقين، سُنّة وشيعة، نقرأ أن سبب هذا الانقسام يرجع إلى الخلاف حول من له الحق في السلطة، وأن آل البيت كانوا مع حق علي فيها، بينما كان أهل السنة والجماعة مع الجانب الأمويّ ممثلا في معاوية.. هذه فكرة نكاد نجدها في جميع الكتابات الكلاسيكية والمعاصرة التي تناولت هذه المرحلة التأسيسية في التجربة التاريخية للإسلام، الشهيرة بصراع البيت الهاشميّ والبيت الأمويّ، وهي فكرة تركز على المستوى العائليّ أو القبَليّ في الصراع. لكن عبد السلام ياسين يتجاوز هذا التفسير القبَلي، لأنه يعتبر أن الخلاف كان حول منهاج وليس حول أشخاص، إذ إنه رغم كونه يُبدي نوعا من التأييد السياسي لقومات آل البيت، فإنه يتجافى عن التأييد الفقهي، رغم أنه يُقرّ بحديث الوصية الشهير الذي رواه مسلم في باب الفضائل عن زيد بن أرقم، رضي الله عنه أنه قال: «قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيّ رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين» (قال العلماء سُميا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما): «أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به». فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: «وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي! أذكركم الله في أهل بيتي»، بل أكثر من ذلك -كما رأينا سابقا- ينظر إلى الأطروحة الشيعية القائلة بقصر الحكم على آل البيت بوصفها نسخة شيعية للملك العاض لدى أهْل السنة والجماعة. التمييز بين السياسي والديني في النظر إلى انقسام الجماعة هو ما يدفع ياسين إلى الإبقاء على الأول وطرح الثاني، يقول: «ليس الشيعة أعداء السنة وما ينبغي أن ينفخ النافخون في النار المُستعِرة ليزيدوها ضراما. إنْ رجعنا، بالطمأنينة الإيمانية، إلى مبعث الخلاف وميلاد الفتنة بقصد العلم المؤسس لعمل يوحّد ولا يفرق، يفتح الجرح ليضع فيه دواء لا لينكيه، فعسى نعلم ونعمل. ولعل في الجواب عن السؤال البسيط: «هل فسد الحكم في عهد مبكر أم لم يفسد؟» بما يرتاح له ضمير المؤمن وعقل الناظر ومنطق المحلل ما هو كفيل بأن يتوجه بنا إلى العلم النافع والعمل البناء» (نظرات). ولذلك نراه يتساءل عن أسباب تراجع التأييد السياسي الذي أبداه المساندون لآل البيت، مما حال دون نجاح القومة الأولى التي نهض بها الحسن بن علي، حيث يطرح السؤال: «لماذا لم يمضِ الذين ساندوا القائمين من آل البيت إلى آخر شوط في العصيان لأمراء السوء، وكأن في مساندتهم تحفظا شل الحركة، وفت في العضد، وأوهن العزائم؟» (نظرات). هذا يعني بالنسبة إلينا اليوم أنّ الخلاف كان حول منهاج الحكم وليس حول الحكم ذاته، والفرق بينهما كبير وواضح، وأن النظرية الشيعية حول الحكم لم تظهر إلا بعد هذه الحادثة التاريخية، بمعنى آخر أوضح أن الخلاف الأول الذي أسس للخلافات التالية حدث في زمن الجماعة الواحدة ولم يكن حول ضرورة تولي شخص من آل البيت للسلطة، بل كان حول ضرورة الالتزام بالمنهاج النبوي، مهْمَا كان الشخص الذي يتولاها، «فمن خرج من أهل السنة والجماعة خرج لتأوله وفهمه من الوصية النبوية ما لم يفهمه غيره. كان الحسين بن علي رضي الله عنهما والقائمون بعده زيد بن علي ومحمد وإدريس وإبراهيم ويحيى وكل القائمين في القرون الفاضلة من أهل البيت من أهل السنة والجماعة، إذ لم يكن التشيع يومئذ تحوّلَ من كونه مشايعة وانتصارا لآل البيت الأطهار ليصبح مذهبا وعقيدة» (نظرات). لا يشكل الانقسام السني الشيعي في الفكر الياسيني سوى الوجه الأول من الورقة، أي انفراط عقد الجماعة، أما الوجه الثاني فيمثله الانقسام بين الفقه والتصوف. إن إشكالية العلاقة بين التصوف والفقه ظلت واحدة من الإشكاليات الكبرى التي شهدها تاريخ الإسلام خلال القرون الماضية، وبسبب الخلافات التي تعمقت على مر العصور قام جدار فاصل بين الاثنين ونوع من الصراع الذي لوّن السلطة بلونه في العديد من المحطات التاريخية، ولم تفلح محاولات المصالحة التي بذلها الكثيرون، خاصة أبو حامد الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين»، والتي رامت تجاوز الآراء السائدة. يقول عبد السلام ياسين، متحدثا عن وحدة «الجماعة» الدينية قبل حدوث الانقسام: «ما زال بين أهل الحديث على مر العصور حوار ووصال منذ العهد الأول مع من تسمّوا الصوفية. وما نقرأ عنه من خصام عنيف عند أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو المحدّث الناطق عن نفسه وعن طائفة من أهل الحديث الحنابلة، ما كان يستهدف الصوفية الصادقين، بل كان موجها لمن اعتبرهم أهل الحديث المتأخرون أدعياءَ منحرفين. في العهود الأولى كان احترام متبادَل وتعاون على البِرّ والتقوى. كان من الصوفية من تخرّجوا في علم الرواية، وكان من المحدثين من تصوفوا على يد مشايخ متصوفين. لم تكن هناك قطيعة ولا سوء ظن. ومن أئمة الحديث أولياء الله إن كان لله ولي، من جلس في مجالس القوم ومن آخى مشايخ القوم، مع التسليم والمصافاة» (الإحسان. ج. 2). أما سبب الانفصال والخصومة بين الفقه والتصوف أو أهل الحديث والصوفية أو الشريعة والحقيقة أو (وحدة الشريعة) فهو يرجع إلى الانكسار التاريخيّ الأكبر، أي انفصال القرآن عن السلطان، يقول ياسين متحدثا عن بداية هذا الانفصال ودور الدولة فيه: «تفرعت فروع العلم النبوي لحاجات مجتمع يترعرع بسرعة وتتشكل معاملاته، وحظيّ علماء الفروع بالمكانة الأولى في الدولة، لأنّ الدولة ما كان يهمّها أمر الدعوة بقدْر ما كانت تحرص على تنظيم الدولة. وخدم العلماء الدولة بعد أن قل أمثال الإمام أحمد، رضي الله عنه، وانعزل العلماء العاملون بإيمانهم الغضّ الطري الذي حافظوا عليه كما كان في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالتربية، وكان لرجال الحديث إسناد متسلسل في رواية الحديث وللصوفية إسناد متسلسل أخذوا عن طريقه تربيتهم» (الإسلام غدا). ويقف ياسين عند هذا الانفصال، معتبرا إياه بداية تدهور المسلمين: «إن تفرع علوم الشريعة وتجردها من الغيب والإيمان سبب أصليّ في تدهور المسلمين» (الإسلام غدا). ملخص الورقة التي ساهم بها الكاتب في المؤتمر الدولي حول فكر عبد السلام ياسين في إسطنبول يومي 1 و2 دجنبر 2012