يقدِّم فيلم «زيرو» لنور الدين الخماري، الذي عُرض أول أمس ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان مراكش السينمائي، كثاني فيلم يمثل المغرب في المهرجان، بعد فيلم نبيل عيوش «يا خيل الله» (يقدِّم) معالجة أخرى لظاهرة تفشي الفساد في أجهزة الأمن، وهو بذلك يُقْدم على خطوة شديدة الجرأة في هذا الباب، لأنه يقترب من موضوع حساس ظل الحديث فيه خطا أحمر. ربما من الناحية الموضوعاتية يبدو فيلم «زيرو»، والذي يحمل من خلال عنوانه معنى سلبيا، فيلما جريئا، لأنه يتجاسر في الوقت الراهن على ظاهرة تمسّ «هيبة الدولة» أو ما يُعتقد أنه كذلك، من خلال طرح فساد بعض العاملين في أجهزة الأمن، تحوّلوا إلى «دولة داخل الدولة»، وكوّنوا كيانات من مافيا منظمة تضمّ في صفوفها رجال مال وأعمال وسياسيين «بايْعينْ الماتشْ» وصحافيين وشبكات دعارة.. ويجري كل ذلك تحت غطاء أمنيّ يوفر الحماية لهؤلاء الخارجين عن القانون ولحراس المعبد، معبد القانون، الذين يقومون بخيانة ما ائتُمنوا عليه. إن هذا الموضوع في حده ذاته يولد الحبكة القصصية التي يريد المخرج وكاتب السيناريو في الآن نفسه، ويجعل المنحى الدراميَّ يصعد وينزل حسب الإيقاع الذي يريده المخرج. من ناحية أخرى، ليس موضع فليم «زيرو» جديدا على السينما، إنه موضع مُستهلَك ومطروق في السينما الأمريكية والسينما العالمية منذ سنوات طويلة، وتكاد تيمة «الشرطيّ الفاسد والشرطي الصالح» تشكل الجو الذي اشتغل عليه كتاب السيناريو والمخرجون منذ أكثر من 30 سنة.. وهذا الموضوع، من ناحية الكتابة السينمائية، هو من أسهل الموضوعات كتابة، لأنّه يوفر للمخرج اختيارات لا محدودة في تأثيث عمله واختيار الفضاء المناسب له. ولعل أنسبَ فضاء للشرطيّ الفاسد أو لعصابة الشرطيين الفاسدين هو فضاء المدينة الكبيرة والأماكن المعتمة التي تعمل خارج المراقبة والسوق السوداء، سواء كانت سوق البشر أو أيَّ سوق أخرى تدرّ عائدات مالية، إضافة إلى الأماكن المخمليّة، التي توفر نشاطات غير مشروعة محمية قانونا، مثل دعارة القاصرات وتجارة المخدرات القوية وغيرها من النشاطات التي تحتاج إلى «حماية قانونية»، غالبا ما تكون الشرطة يدَها الطُّولى.. وهذا ما يحدث تماما على مستوى قصة الفيلم في «زيرو»، فحين لا يستطيع أمين برطال، الشرطيّ المبتدئ، النجاح مهنيّا، بسبب شراسة مرؤوسيه المتورطين في نشاطات مشبوهة، يتجه إلى العمل بدوره، بشكل فرديّ، خارج عصابة الشرطة الفاسدة، لكنه يسقط في «تضارب المصالح»، ما يؤلّب عليه مرؤوسيه. على المستوى العائليّ ف»زيرو»، أو أمين برطال، ليس أحسن حالا، فهناك والده المُقعَد، وهناك أمه الهاربة مع عشيقها، غير أن نقطة التحول ستحدث معه عندما يتلقى شكاية من سيدة تبحث عن ابنتها المختفيّة، وفي أثناء اتخاذه القرار بالبحث عنها سيكتشف في طريقه عالما رهيبا من الاستعباد البشريّ ومن الرقّ الجديد، وفي محاولة لإنقاذ الفتاة القاصر المُستعبَدة سيعمل على إنقاذ نفسه هو من الفساد المستشري في أضلاع المدينة -الغول، مدينة الدارالبيضاء. بطبيعة الحال، لا يحدث التغيير إلا بالمواجهة، والثمن رصاصات من الجانبين وبِركة دم ونهاية محتومة لحلقة بعض رجال الشرطة الفاسدين، في حين يقضي الشرطي الشاب بطعنة غادرة في آخر لقطة من الفيلم من طرف «بوفرطوطّو»، الذي يرمز إلى الشر الذي ما يزال يتجوّل في أنحاء المدينة، وحين يكون «زيرو» مسجّى على بلاط الشارع تصعد كاميرا المخرج إلى الأعلى في لقطة علويّة، ومعها يصعد الجينريك، وكأنّ الخماري يريد أن يقول للمُشاهد إنّ ما قدّمه هو شهادة محايدة ولا «علاقة له بالموضوع»، في «تبرئة ذمّة» متأخرة، لأنّ مَن يشهر خطابا موجَّها ضد الفساد لا يمكن أبدا أن يكون محايدا. في استمزاج سريع لآراء عينة من الجمهور الذي تابع الفيلم، سألت ثلاثُ سيدات أجنبيات عن رأيهن في «زيرو»، أجابت الأولى، بكثيرٍ من الحرارة: «إنه فيلم فيه الكثير من الجرأة على تكسير الطابو الاجتماعي»، وقالت الثانية: «أعتقد أنه ينقل بصدق ما يحدث في المجتمع»، وعبّرت الثالثة عن وجهة نظر أخرى مفادها «نعم، لكنْ على مستوى الحوارات هناك الكثير من الألفاظ النابية.. لم يكن يحتاج إلى ذلك».. تقصد نور الدين الخماري، فهو كاتب السيناريو والمخرج في الآن نفسه. ولو جاز لنا استخلاص العبرة من آراء السيدات الأجنبيات لأمكن القول إن الخماري صنع فيلما جيدا لكنه أفسده بحوارات فارغة تكرر نفس المفردة النابية وتغرف من لغة القاع، وكأنّ كل الأدوات السينمائية التي بين يديه لم تكن لتكفيّه لإيصال رسالته إلى المُشاهد، فكان لا بد من الاستعانة بحامل اللغة، والذي يعرف الأبجديات البسيطة في السينما يدرك أن كتابة حوار لسيناريو فيلم مثل المرور على حد السيف، فإما أن تنجح وإما تحصد الفشل الذريع. علينا أن ننتظر مهنية أكبر من كتاب متمكنين، لإنقاذنا من «التلوّث» اللفظيّ الذي يحاصرنا من الشارع إلى الشاشة.