يبدو أنه في اللحظة التي قرر فيها الرئيس معاوية ولد سيدي احمد الطايع إدخال موريطانيا مرحلة الانفتاح الديمقراطي سنة 1990، كانت الأمور قد تطورت في اتجاه عدم القدرة على احتوائها من قبل السلطة الحاكمة، ففي هذه اللحظة كان التيار السلفي في طريقه إلى دخول مرحلة تحولات فرضتها عوامل دولية وإقليمية، فهذا التيار السلفي، كان يسعى إلى فرض وجوده في بلد كان ينظر إليه باعتباره بلد التصوف بامتياز بما يفيد أنه تيار هامشي، كان محكوما عليه بتقليد تجارب بعض دول الجوار؛ فعلى غرار «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجزائر التي تأسست سنة 1989 والتي كانت عبارة عن شراكة بين تيارين: تيار إسلامي يمثله عباس مدني وتيار سلفي يجسده علي بلحاج، فإن جزءا من التيار السلفي في موريطانيا حاول بشراكة مع التيار الإسلامي سنة 1993 تأسيس حزب الأمة الذي لم يرخص له. لم تكن موريطانيا بمعزل عما كان يجري داخل تيار «الأفغان العرب» الذي تشكل ككيان يضم الجهاديين المنتمين إلى مختلف الدول العربية، بما في ذلك موريطانيا، والذين خاضوا الحرب ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان بين سنتي 1979 و1989. هؤلاء الأفغان العرب وجدوا أنفسهم بعد نهاية الحرب مطاردين من قبل الغرب الذي دعمهم، وفي مقدمته الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومن قبل باكستان التي وفرت لهم المأوى في البداية، ومن قبل أنظمتهم التي أصبحت تتربص بهم بعدما شجعتهم في البداية على الذهاب إلى أفغانستان، ولم يجد هؤلاء «الأفغان العرب» حلولا عديدة أمامهم، ففضل أغلبهم العودة إلى بلدانهم الأصلية ليواصلوا الجهاد ضدها، حيث اعتبروا أنها تعيش في ظل أنظمة طاغوتية؛ وكان تنظيم «الجماعة الإسلامية المسلحة»، المشكل من الأفغان الجزائريين، نموذجا يغري باقي الأفغان العرب، ولم يشذ «الأفغان الموريطانيون» عن هذا السلوك، حيث كان يراودهم أمل في إقامة «دولة القرآن». بعد مرور سنة على انطلاق أعمال العنف في الجزائر، بدأت السلطات الموريطانية تدرك أن مركز الثقل انتقل من تيار الإسلام السياسي إلى تيار الأفغان العرب وما يحمله من إيديولوجيا جهادية تدعو إلى العنف لمواجهة الأنظمة الطاغوتية، فعلى سبيل المثال لم تكن ردود فعل الإسلاميين في غالبها معارضة لنظام معاوية ولد سيدي احمد الطايع، حيث عندما لم يسمح لهم بالعمل السياسي بشكل قانوني داخل حزب «الجبهة الإسلامية» أو كذلك من خلال «حزب الأمة» تقبلوا الأمر الواقع، حيث التحق جزء أول منهم بالحزب الحاكم وفضل الجزء الثاني الابتعاد عن العمل السياسي واكتفى بالوعظ والإرشاد، وكانت أقلية منهم هي التي أعلنت التحاقها بالمعارضة. تغير الوضع في موريطانيا سنة 1993، فالنظام الحاكم لم يعد يجد نفسه أمام تيار إسلامي «مدجن» ومحكوم بنزعة براغماتية واضحة، بل وجد نفسه أمام تيار «عقائدي» لا يقبل بأنصاف الحلول، وهذا ما دفع الرئيس معاوية ولد الطايع في شهر شتنبر 1993 إلى إعلان أن موريطانيا ليست في حاجة إلى أيٍّ كان ليعلمها الإسلام في رد واضح على هذا التيار الذي كان يضفي على النظام طابعا «طاغوتيا» وينزع عنه صبغة الإسلام، وانتقل الرئيس من التلميح إلى التصريح عندما حذر الشعب من الأفغان العرب الذين اعتبرهم متطرفين أو بالفعل تأكدت مخاوف النظام الحاكم، حيث بدأت موريطانيا تشهد أحداث عنف محكومة بدوافع دينية ابتداء من سنة 1994. إن كل الجهود التي بذلها ولد الطايع من أجل «تأميم الدين» وجعله مجالا محتفظا به للدولة لم تسفر عن نتيجة جراء السياسة الدينية المنتهجة والتي يمكن اختزالها في ثلاثة أسس: يرتبط الأساس الأول بالارتكاز على منطق «عسكرتاري» في تدبير السياسة الدينية، حيث كان يعتمد على «الاستئصال»، خاصة عندما انخرطت موريطانيا في الحرب على الإرهاب بعد اعتداءات 11 شتنبر 2001. هذا «المنطق العسكرتاري» هو الذي يفسر التهديدات التي لوح بها وزير الثقافة والتوجيه الإسلامي سنة 2003 عندما أدرك أن الدولة فقدت سيطرتها على الفضاء الديني وسيطرتها على أئمة المساجد والخطباء بأنه سيحول المساجد «إلى مخابز». ولعل هذا المنطق العسكرتاري في تدبير السياسة الدينية هو الذي كان وراء القيام بعمليتين انقلابيتين فاشلتين من قبل خلايا عسكرية مرتبطة بالحركة الإسلامية سنتي 2003 و2004. ويتعلق الأساس الثاني بعدم التمييز بين التيار الإسلامي والتيار السلفي، فقد ظل الرئيس معاوية ولد سيدي احمد الطايع متشبثا بموقفه القاضي بعدم الترخيص للإسلاميين بتأسيس حزب سياسي دون أن يستفيد من التجربتين الجزائرية والمغربية؛ ففي الجزائر وفي اللحظة التي قررت فيها السلطة الحاكمة مواجهة التيار السلفي الراديكالي المتمثل في «الجماعة الإسلامية المسلحة» ومواجهة التيار الإسلامي الذي كانت تعبر عنه «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» وذراعها العسكري «الجيش الإسلامي للإنقاذ»، فإنها لم تقتصر على «الخيار الأمني» فقط، بل اعتمدت خيارا سياسيا بإدماج ممثلي التيار الإسلامي «المعتدل»، حيث سمحت لهم بتأسيس أحزاب سياسية شريطة عدم استخدام أية تسمية يستفاد منها احتكارهم للإسلام. وفي هذا السياق، منح حزب «حركة المجتمع الإسلامي» بقيادة محفوظ النحناح الترخيص القانوني بعد تغيير اسم الحزب ليصبح «حركة مجتمع السلم»، كما منح حزب النهضة نفس الوضعية بقيادة عبد الله جاب الله، وفي المغرب، وبعدما رفضت السلطات لبعض الوقت الترخيص بتأسيس حزب سياسي متكون من الإسلاميين المعتدلين، وهو «حزب التجديد الوطني» سنة 1992، وكانت قياداته هي نفس قيادات «حركة الإصلاح والتجديد»، فقد تفاعلت مع محيطها لتطرح صيغة قبل بها هؤلاء الإسلاميون متمثلة في العمل من داخل حزب سياسي قائم. وهكذا التحق هؤلاء الإسلاميون «المعتدلون» بحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية الذي أصبح يعرف في ما بعد بحزب العدالة والتنمية. لم يستفد معاوية ولد سيدي احمد الطايع حتى من النموذج التونسي، فزين العابدين بن علي وإن كان قد كرس الخيار الاستئصالي في مواجهة التيار الإسلامي، ممثلا في حزب حركة النهضة بقيادة راشد الغنوشي، فقد استعان بخدمات التيار السلفي التقليدي ليستحصل بعضا من المشروعية الدينية في مواجهة خصومه الإسلاميين. يكمن الأساس الثالث في تشجيع «فقه التبرير»، فرغبة معاوية ولد سيدي احمد الطايع في تأميم الدين كان يفيد ضرورة قيام بعض رجال الدين، خاصة العلماء، بتبرير القرارات التي تتخذها السلطة الحاكمة انطلاقا من معايير دينية ومن أجل هذا الغرض، عمل الرئيس معاوية على تعيين الكثير من العلماء كوزراء في حكوماته المتعاقبة، وأصبحت وظيفة هؤلاء العلماء/الوزراء هي مباركة قرارات الرئيس وتزكية خياراته، مما جعل هؤلاء العلماء الوزراء يفقدون هوياتهم، فلم يعودوا، في نظر الرأي العام، رجال دين ولا رجال سياسة. وقد عبر هذا الفقه التبريري عن نفسه في العديد من اللحظات، منها ترويجه لمقولة «الصبر على الجور يكفر عن السيئات»، وبلغ أوجه عندما حاول أحد العلماء وهو «حمدن ولد التاه» إضفاء الشرعية على تطبيع موريطانيا مع إسرائيل بالقول إنه يفضل المبيت في تل أبيب عوض المبيت في بيكن باعتبار أن تل أبيب هي عاصمة اليهود، وهم من أهل الكتاب يجوز المبيت عندهم وأكل طعامهم، في حين لا يجوز ذلك في بيكن لأن شعب الصين من الوثنيين. كان هناك عاملان ساهما في الاحتقان الديني في موريطانيا خلال هذه المرحلة: العامل الأول ذو صلة بطبيعة السياسة الدينية المعتمدة من خلال أسسها الثلاثة المتجسدة في هيمنة المنطق «العسكرتاري» في تدبير الشأن الديني وعدم القدرة على اللعب على تناقضات القوى الدينية والفشل في إضفاء المصداقية على «الفقه التبريري»؛ والعامل الثاني ذو ارتباط بالقرار الذي اتخذه الرئيس معاوية ولد سيدي احمد الطايع تحت ضغط الأمريكيين سنة 1999 بالاعتراف بإسرائيل وتبادل التمثيل الدبلوماسي، وهو القرار الذي عمق الفجوة بينه وبين القوى الدينية، سواء تعلق الأمر بالتيار السلفي أو بالتيار الإسلامي. لقد منح قرار التطبيع مع إسرائيل نفسا جديدا للقوى الدينية لتأكيد حضورها في الشارع وتعزيز شرعيتها في مواجهة الشرعية المتآكلة لنظام ولد الطايع الذي سيطاح به في شهر غشت 2005.