جاء الخطاب الملكي ليوم الجمعة 12 أكتوبر 2012 المفتتح لأشغال الدورة الخريفية من السنة التشريعية التاسعة خطابا مركزا وغنيا بالدلالات، حيث يمكن اعتباره من بين الخطابات (Discours)، بالمعنى التداولي، التي تغري روّاد تحليل الخطاب باستثارة مدارك التفكيك لإبراز مقاصده والتي يمكن حصرها في رسالة استراتيجية ومجالات محفزة ومعايير للقياس. رسالة الخطاب إن ملفوظ الخطاب الملكي، بنصه ونبرته وسياقه المستمد بين مرحلة منتهية في الزمن كانت تشكل ممارسات خاطئة ومرحلة قادمة تمثل فرصة سانحة لقطع الممارسات المهددة، يعبر عن دعوة ملكية صريحة إلى استغلال النجاح قصد صناعة المستقبل ومن أجل خلق التغيير في الوعي والسلوك والعلاقات والممارسات وتفعيل أداء المؤسسة التشريعية. فبعد أن انتهت مرحلة ترسيخ بناءات النظام في مسار الإصلاح السياسي الطويل، انطلاقا من النجاح الكبير الذي رافق تعديل الدستور وما جاء به من مكتسبات جديدة، ومرورا بالانتخابات البرلمانية وتنصيب الحكومة الحالية وبفتح ركن إصلاح القضاء والدعوة إلي الإصلاح الإداري، جاءت، الآن، مرحلة تلبيس البناءات من خلال التنزيل السليم والفاعل للقوانين التنظيمية. ولعل مضمر الخطاب يشير إلى حسن التعامل مع هذه المرحلة باعتبارها هي بيت القصيد من كل البناءات المرجعية والمؤسسية السابقة والتي تعبر عن مصلحة المغاربة؛ فالدستور والمؤسسات لم تكن في يوم ما غاية في ذاتها، وإنما وجد ذلك كله من أجل صياغة القواعد وبلورة القوانين التي تحكم حياة المغاربة وتنظم تطلعاتهم إلى التقدم والديمقراطية. ولأجل ذلك، وجب عدم هدر هذه اللحظة وتحويلها إلى فرصة كخطة تاريخية للتجديد والتغيير، إذ من غير المقبول تضييع الوقت في حساسيات مواقع عدائية ومتشاحنة تكون على حساب إنتاج نصوص تشريعية متميزة. المجالات المحفزة انطلاقا من أفق استغلال النجاح، أحال الخطاب الملكي على بعض المجالات التي تشكل قوة المؤسسة التشريعية باعتبارها تمثل بيئة الأسرة البرلمانية وصورة لنوع الأداء الفاعل المنتظر منهم أفرادا ومؤسسات: - مجال الوعي بالمؤسسة: وقف الخطاب الملكي، أولا، عند ما أصبح للبرلمان من أهمية انطلاقا من الدستور الجديد، حيث أشار إلى «التحول» و«التقدم الديمقراطي» و«دفعة جديدة لمسلسل التحديث»؛ فالمقصود بذلك هو تملك البرلمانيين لإدراك ووعي جديدين وهادفين بالقيمة الجديدة للمؤسسة التشريعية؛ - مجال أسس المؤسسة: إن الوعي المتجدد بأهمية المؤسسة التشريعية يستلزم استحداث قواعد عمل وأخلاقيات داخلية متينة تحول دون الممارسات السلبية وتؤسس لأخرى بديلة، إذ تلزم صياغة ميثاق أخلاقي يجسد المواطنة والشفافية والنزاهة ويضمن حق المعارضة في الاضطلاع الأمثل بمهامها التمثيلية؛ - مجال السلوك: وفي الأفق البديل ذاته، شدد الخطاب الملكي، من خلال الميثاق الأخلاقي، على تركيز البرلمانيين على الفرص وضرورة هجر المشكلات، وذلك لأن اللحظة والانتظارات تقتضي التغيير في الوعي واستلهام ضوابط الأداء الفعال من حيث «التعبئة» و«نكران الذات» و«القطيعة مع الممارسات السابقة» (الغياب، الصراع، العداء، ضياع الوقت في التفاهات، نشدان المصالح الشخصية، إهمال المصالح الحقيقية للمواطنين، تحريف رسالة البرلمان) والعمل، عكس ذلك، على إعطاء المثال لمدرسة النخبة؛ - مجال العلاقات: وفي البعد ذاته، أشار الخطاب الملكي إلى نبذ الهيمنة والتنافر والحسابات الضيقة بين مكونات المؤسسة التشريعية، سواء في الأغلبية أو المعارضة، وإلى استحضار الأدوار الدستورية المنوطة بكل طرف، وذلك لأن الدستور الجديد قد أعاد صياغة أدوار جميع المكونات ورسم مساحات جديدة تجعل مسافات الفعل والفعالية مفتوحة وموزعة بنفس الخطوط والأهمية تقريبا بين الأغلبية والمعارضة، سواء في التشريع أو الرقابة؛ - مجال الحوافز: إن الخطاب الملكي لم يهمل أهمية الإشارة إلى ضرورة توفر البرلمان والبرلمانيين على كل الوسائل التي تخول لهم القيام بأدوارهم الوطنية وبمهامهم الخارجية في أحسن الظروف. وبطبيعة الحال، فقائد التغيير في فلسفة علم الإدارة لا يمكن أن يتغاضى عن ضرورة توفير وسائل العمل المحسنة للأداء والكفاءة، وهو ما يشكل مساندة ملكية قوية للبرلمان. إن هاته المجالات الخمسة، إن كانت تعبر عن مدى الاهتمام الملكي بالمنظومة البرلمانية، فمن شأنها، إذا ما تملكنا عناصر التغيير الجديدة فيها، أن تشكل كفاية تشريعية واضحة وتؤسس لجاذبية برلمانية منتجة، بيد أن الحديث عن الوسائل هو تعبير عن المساندة الملكية لدعم المؤسسة البرلمانية. معايير القياس لم يقف الخطاب الملكي عند حدود تعيين نوع وحجم المسؤولية الملقاة على ممثلي الأمة من خلال تأسيس الوعي بالنظرة المستقبلية الصحيحة بأهمية اللحظة التشريعية، ولكنه عمل، كذلك، على أن يكون البرلمانيون حريصين على ترجمة القيم الجديدة إلى حقيقة، ذلك أن الخطاب الملكي نظم، في نسق دقيق، بين العوامل الأساسية للثقافة البرلمانية الجديدة المكثفة في المجالات السابقة وبين معايير الأداء الفعال والمعبّر عنها في الرؤية الاستراتيجية المستقبلية: - معيار الإنتاجية: ويكمن في الدعوة الصريحة إلى تدشين منعطف تاريخي جديد ل«ولاية تشريعية مبدعة» من خلال التخلي عن عقلية الماضي لصالح التجديد والإبداع والمستقبل. ولعل هذا التوجيه يؤشر على ضرورة رفع سقف الأهداف وتحسين مضامين المقتضيات وتدقيق الفحوى ليكون منتجا للمعنى الذي هو تحقيق المصلحة العامة وتلبية الحاجيات في الحقوق والمعاملات وتأمين العدالة باعتبارها إشباعات لا تكون لها حدود إلا عبر الإبداع وليس من خلال الأساليب الهدامة؛ - معيار الإنجاز: لما كان الإبداع يشكل غاية العمليات والمؤسسات الإنتاجية عموديا، فإن الإنجاز يمثل الإيقاع الدينامي المطرد أفقيا للوصول إلى الإبداع. إن إشارة الخطاب الملكي إلى فعالية الأداء تعني، في ما تعنيه، الدعوة إلى القطع مع بطء الأداء، من جهة، وإلى وضع سقف متميز للأداء المطلوب، حيث لا مجال للأداءات المنخفضة أو العادية أو المتراجعة، من جهة أخرى. ولعل هذا الرفع من سقف الأداء المطلوب هو الذي يبرز المساندة الملكية للمؤسسة البرلمانية التي أشرنا إليها في مجال الحوافز؛ - معيار خاصية التركيز: إن القوانين التنظيمية التي ينتظر من البرلمان تفريغها عن الدستور الجديد كثيرة ومتنوعة؛ وهي تقتضي مجهودا تشريعيا كبيرا أو طويلا لا يمكن حصره في دورة تشريعية واحدة أو في سنة أو سنتين، علما بأن هناك قوانين مؤسِّسة وأخرى حساسة وتقتضي خبرات ونقاشات ورؤى هادفة. ومن أجل ذلك، ودرءا لكل تهافت يخل بالتصرف الفعال، كان الخطاب الملكي واضحا في إعمال خاصية التركيز واختيار الأولويات للدورة التشريعية الحالية، والمتمثلة في إعطاء الأولوية للتنظيم الترابي لما له من أهمية قصوى، سواء باعتبار أهمية استكمال انتخاب الغرفة الثانية أو للبعد السياسي للقضية الوطنية أو لحاجة التنمية الاقتصادية، من جهة، وفي إصلاح القضاء وتركيز استقلاليته، بالإضافة إلى الشروع في إخراج القوانين المرتبطة بهياكل الحكامة، في درجة ثانية؛ - معيار الحدود والقيود: إن الخطاب الملكي كان واضحا في تعيين مصادر وأصول التشريع، ذلك أن الخطاب نص على احترام حرفية ومنطوق الدستور واستلهام توصيات اللجن المعنية. إن عملية استنباط الأحكام وإخراج القوانين ليست عملية شكلية أو تقنية محضة أو فنية خالصة يمكن لأي عقل أو فقيه مشرع أن يقوم بها ببراءة وسمو وتجرد.. إنها عملية ذهنية لا تنحصر في حدود الفهم أو الشرح التلقائي، وإنما تؤطر بأبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية معقدة ومركبة لأنها تحاور قواعد مجملة وألفاظ وتعابير تخرُج عند تنزيل القوانين من إطارها اللغوي والدلالي إلى إطار التداول الذي هو إطار تأويلي بامتياز. ولعل التأويل هو شرك تضارب المصالح وتداخل المواقع وتشابك الأهداف، ولهذا قيّد الخطاب الملكي اجتهادات تنزيل القوانين بضرورة احترام حرفية ومنطوق الدستور درءا للزيغ ولكل إفراط أو تفريط؛ - معيار ضوابط الأداء: لم تفُت الخطابَ الملكي الإشارةُ إلى المكانة الدستورية لكل غرفة من غرفتي البرلمان؛ غير أنه أكد على فضيلة التعاون بينهما واحترام الخصوصيات، ذلك أن الأداء التشريعي المثمر والمتميز للغرفتين معا، في ظل الأسئلة الموجهة إلى الغرفة الثانية وفي ظل اختلاف وزن مكوناتها عن الغرفة الأولى، يستوجب العمل في تفاعل تشريعي مبدع يتفوق فيه التعاون والإبداع على التعارض والعرقلة لربح تحديات الوقت وضمانا للفاعلية المنشودة. إن عناصر الخطاب الملكي، سواء كنص أو كسياق متعدد الأبعاد والأطراف والهواجس، شكلت العمود الفقري لرؤية استراتيجية منتجة تتخذ من الدستور الحالي مرجعا للتقدير والقرار ومن مقتضياته آفاقا للحلم والتغيير؛ غير أن سقف المقام يتطلب ربط القول بالفعل وتحويل كوابس السياسة المغربية إلى أحلام مواطنة. ادريس قصوري