يتصرف بعض المسؤولين الأتراك، ومن بينهم السيد أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية، وكأنهم مستشرقون أجانب يعتمدون على مصادر ثانوية في تقييمهم للأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة ما يجري في سورية حاليا من حرب أهلية طائفية مسلحة طاحنة. السيد داوود أوغلو فاجأنا يوم الأحد بتصريحات قال فيها إن السيد فاروق الشرع إنسان متعقل وصاحب ضمير ويصلح أن يكون بديلا للرئيس السوري بشار الأسد، من أجل إيقاف الحرب في سورية. يبدو واضحا، ومن خلال هذا التصريح، أن معرفة السيد أوغلو بالشرع محدودة، والشيء نفسه عن عقلية الرئيس الأسد، وطريقة إدارته للأزمة، والمجموعة المحيطة به، فحتى يتولى السيد الشرع هذه المهمة يجب أن تتوفر ثلاثة شروط مهمة: - الأول: أن يوافق السيد الشرع بعد حصوله على ضمانات داخلية وخارجية قوية بأن يكون رجل المرحلة الانتقالية، وهذه الموافقة لم تصدر، ولا نعتقد أنها يمكن أن تصدر؛ - الثاني: أن يقبل الرئيس بشار الأسد أن يتنحى ويترك الحكم، ولا يوجد أي مؤشر على ذلك. وما نعرفه، ومن خلال تصريحات المسؤولين السوريين مثل السيد وليد المعلم وزير الخارجية، أنه لن يكون هناك أي حوار إلا بعد تطهير سورية من «الجماعات الإرهابية»، وسحق المؤامرة الخارجية التي تستهدفها؛ - الثالث: أن تظهر بوادر حسم في جبهات القتال لصالح أحد الطرفين المتقاتلين، أي الجيش النظامي ومن يتحالف معه من ميليشيات، والجيش الحر ومن ينضوي تحت مظلته من كتائب إسلامية متشددة. وحتى كتابة هذه السطور ما زالت المعارك مستمرة في حلب وأدلب بشراسة دون تحقيق تقدم حقيقي ملموس لصالح هذا الطرف أو ذاك. أنا أعرف السيد الشرع شخصيا، حيث التقيت به عدة مرات داخل سورية وخارجها، كما أعرف ابنه مضر الشرع وأسرته، وهو يعمل طيارا في الخطوط الجوية القطرية منذ سنوات، وهي وظيفة استحقها عن كفاءة ومقدرة، وبعد أن ضاقت في وجهه سبل العيش في سورية، ورفض والده أن يستخدم نفوذه ويتوسط له للعمل في الخطوط الجوية السورية. الرجل عروبي حتى النخاع، ويكره الاستعمار الغربي بكل صوره، والأمريكي على رأسه، مثلما كان يتخذ مواقف حادة من محور دول الاعتدال العربي التي كانت تمثل رأس حربة لهذا الاستعمار في المنطقة، وهو غير مرحب به في معظم هذه الدول، والمملكة العربية السعودية خاصة، بسبب هذه المواقف، وها هي الأيام تثبت مدى صحة وجهة نظره بالنظر إلى دعم هذه الدول للمعارضة السورية المسلحة. استغربت كثيرا الأنباء التي ترددت حول رغبته بالانشقاق أسوة بآخرين، لأني أعرف مسبقا، وأرجو ألا أكون مخطئا، أن الرجل ليس على ارتباط بأي قوى خارجية، عربية أو أجنبية، تسهل له عملية الانشقاق هذه، مثلما حدث مع العميد مناف طلاس أو غيره، ويفضل أن يظل في دارته المتواضعة في أحد أحياء دمشق طيلة حياته على أن يغادرها مقابل إغراءات مالية أو سلطوية، وما أكثرها لمن يريد أن ينشق هذه الأيام. قد يختلف السيد الشرع مع بعض ممارسات النظام، وسياساته الأمنية القمعية على وجه الخصوص، ومن غير المستبعد أن يكون قد استاء أو غضب كثيرا مما حدث لأبناء عشيرته في درعا من إذلال لوجهائها وأطفالها على يد محافظ جاهل مغرور دموي، مثل معظم رجالات المؤسسة الأمنية للنظام، لكن الرجل لم يكن مناطقيا، وكيف يكون ذلك وهو الذي يؤمن بالوحدة العربية إيمانا راسخا ولم يتزحزح إيمانه مليمترا واحدا. يخطئ السيد داوود أوغلو إذا كان يعتقد أن الأزمة في سورية يمكن أن تحلّ بإيجاد بديل سني لرأس النظام الذي يراه علويا طائفيا، فالمحاصصة الطائفية التي طبقها الجنرال بريمر في العراق بمساعدة السيد الأخضر الاإبراهيمي، مندوب الأممالمتحدة في حينها، بعد سقوط بغداد، هي التي أدت إلى تمزيق هذا البلد وطمس هويته الوطنية الجامعة وسقوطه في مستنقع الحكم الطائفي. المشكلة في سورية تتلخص في غياب الحريات والقمع وإذلال المواطن السوري وسحق كرامته وآدميته من قبل الأجهزة الأمنية، وتغوّل الفساد، وانعدام الديمقراطية والقضاء والتعددية السياسية. الحلول الأمنية التي طبقها النظام على مدى العشرين شهرا الماضية فشلت في سحق المعارضة، ولجوء الأخيرة إلى السلاح، بعد فشل كل محاولات استجداء التدخل الخارجي، فشل أيضا في إسقاط النظام أو حماية الشعب من بطشه، بدليل تضاعف إعداد القتلى يوميا، ونزوح حوالي خمسة ملايين سوري داخل البلاد وخارجها. المعارضة السورية أو بالأحرى جزء من الشعب السوري الثائر ضد النظام، تعرّض لأكبر خدعة في تاريخ المنطقة عندما اعتمد على الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها العرب، وصدّق أقوالهما حول التزامهما بإطاحة النظام السوري، فلا النظام سقط، ولا هو شعر بالأمان، بل تحوّل إلى شعب لاجئ مهجّر ينظر بحزن وأسى إلى بلده المدمر، ويحتاج إلى أكثر من مائة مليار دولار لإعادة بنائه، ناهيك عن الدمار النفسي والبشري، وسقوط عشرات الآلاف من الشهداء، واستنزاف جيشه وتقويض دولته ومؤسساتها. ندرك جيدا أن كلامنا هذا لن يعجب الكثيرين الذين يعيشون في أماكن آمنة مريحة، أو أولئك تجار الحروب، أو بعض القوى الإقليمية التي تقاتل حتى آخر مجاهد سوري لأسباب طائفية أو لأهداف إقليمية نعرفها ويعرفونها جيدا، ولكننا سنقول كلمتنا هذه من منطلق الحرص على سورية وشعبها الطيب، صاحب التاريخ العريق في التضحيات. مرة أخرى نحذر من أن سورية تتفكك جغرافيا، مثلما تتفكك ديمغرافيا وطائفيا، وهذا هو الأخطر في رأينا، وتركيا بدأت تدير الظهر للشعب السوري الذي راهن بعضه عليها، وأمريكا بدأت تعيد النظر في مواقفها خوفا من الجماعات الإسلامية المتشددة، حسب ما يقوله خبراؤها ومسؤولوها، وتصدر أوامرها لبعض عرب الخليج بوقف إرسال الأسلحة إلى المقاتلين في حلب ودير الزور وأدلب وريف دمشق. المطلوب تيار سوري ثالث يخاطب الشعب بالحقائق، وبشجاعة، ويعمل على وضع حد لشلال الدم بعيدا عن المزايدات واتهامات التخوين، والاعتماد على الخارج الذي خذل السوريين لأنه لم يكن أبدا يريد مصلحتهم، وإنما تدمير بلدهم.