لم تطفئ حكومة بنكيران شمعتها الأولى بعد، لذلك يبدو من المجحف إصدار حكم قاطع على تجربة «العدالة والتنمية» في تدبير الشأن العام قبل منتصف الولاية على الأقل، لكن كما يقول المغاربة «الفضيلة باينة من العصر»، والشهور التي انصرمت إلى حد الآن كافية لكي نكوّن فكرة واضحة عن الطريقة التي يسيّر بها بنكيران ورفاقه شؤون البلاد؛ ولا أخفيكم أنني كلما تأملت هذه الطريقة، أتذكر شخصا قال لصديقه إنه يملك موهبة فريدة تجعل باستطاعته التبول على الناس دون أن يتبللوا، وحين لم يصدقه تحداه أن يجرب فيه كي يرى «المعجزة» بأم عينيه، وما هي إلا هنيهات حتى كان الصديق المسكين مبللا عن الآخر، وقبل أن يستنكر ويجادل ويحتج صاح فيه «البوّال» متأسفا: «غير سمح ليا... شي مرات ما كتصدقش!»... لحسن الحظ أنها مجرد نكتة والضحك أبلغ طريقة لإيصال الرسائل، وكل ما نتمناه من بنكيران -الذي يحب النكات والقفشات- هو أن يلتقط «الميساج» ويفهم أن المغاربة الذين صوتوا في انتخابات نونبر إنما وضعوا ثقتهم في حزب «العدالة والتنمية» كي يخرج البلاد من عنق الزجاجة لا كي يخرج لهم «الأشباح» و«العفاريت» من «المصباح»، لم نكن محتاجين إلى تظاهرات جرارة في الشارع وإلى دستور جديد وانتخابات مبكرة كي يأتي في النهاية رئيس وزراء يحدثنا عن اكتشاف «التماسيح» وبقية الزواحف والديناصورات في هرم الدولة، كأنه يزف إلينا أنه اخترع «المصباح»، مصباح أديسون طبعا أما «مصباح» الحزب فلا أحد ينازع في براءة اختراعه. يخطئ بنكيران ورفاقه إذا كانوا يعتقدون أن المغاربة مستعدون لتفهم تعثرهم في تسيير الشأن العام بمجرد أن يشرحوا الأسباب التي أدت إلى ذلك، وإذا استمروا على نهجهم لن يصنعوا أكثر من إعادة تجربة عبد الرحمان اليوسفي بطريقة غارقة في «الهواية»، أليست «التماسيح» و«الأشباح» في النهاية سوى صيغة «شعبوية» ل»جيوب مقاومة التغيير» التي ظل يرددها اليوسفي ووزراؤه أيام حكومة «التناوب التوافقي»؟ وبخلاف بنكيران، اليوسفي لم يكن ثرثارا لأن خبرته السياسية علمته أن «الهضرة ما تشري خضرة»، وأن الأقوال أحيانا تضعف الأعمال. الناس وضعوا ثقتهم في بنكيران كي يحارب الفساد ويقضي على الريع ويعيد العدالة إلى المحاكم، لا لكي يحدثهم عن صعوبة المهمة، لأن ذلك تحصيل حاصل، والجميع يعرف أن «العصيدة سخونة» لكنه يعرف أيضا أن من يصر على وضع يديه في «الكاميلة» مطالب بتحمل مسؤولية تبريدها. منذ وصولهم إلى الحكومة، لم يتوقف وزراء «العدالة والتنمية» عن تهديدنا بالاستقالة حتى صارت الحكاية أقرب إلى المزحة، علما بأن الأسباب التي تستدعي إعادة الحقيبة إلى أصحابها ليست ما ينقص، من مسلسل الخلفي مع دفتر التحملات إلى فيلم الرميد مع بنسودة ومزوار مرورا بحادث طنجة الذي رأينا فيه «قايد كيجري على رئيس حكومة» في سابقة لم تحدث حتى أيام المرحوم إدريس البصري. لكن المغاربة لم ينتخبوا «العدالة والتنمية» كي يثبتوا لهم أن «لا شيء تغير في هذه البلاد»، كما «بشرنا» نجيب بوليف في طنجة، ردا على منع مصالح وزارة الداخلية لمهرجان شبيبة الحزب. العبارة مقبولة من فم أي شخص آخر، لكنها حين تصدر على لسان وزير فإنها لا تزيد المشهد إلا سوريالية، وتفقد الحكومة مصداقيتها. هناك قاعدة سياسية معروفة لخصها ذات يوم وزير الداخلية الفرنسي السابق جان بيار شوفينمان بهذه العبارة: «الوزير إما أن يستقيل أو يغلق فمه»... ولعل أفضل شيء يمكن أن يفعله وزراء الحكومة هو أن يقللوا من الكلام، ماداموا لا يستطيعون فعل شيء آخر.