تدفع الأحداث التي يعرفها العالم العربي على خلفية خروج فيلم مسيء إلى الرسول الكريم وتوالي المقالات الاستفزازية إلى طرح السؤال التالي: لماذا يعجز المسلمون، إلى حدود الساعة، عن التحكم في صناعة تاريخهم؟ ولماذا يقتصرون على تبني مواقف دفاعية؟ تعيدنا ردود الفعل غير المتوقعة التي رصدناها في الأيام الأخيرة إلى التذكير بأطروحة، طالما وصفناها ب«المبتذلة»، ومفادها في جملة واحدة: ردود الفعل العربية ناجمة عن تحركات للتحكم في المنطقة تحت مراقبة الغرب. بتعبير آخر، ليس المسلمون سوى أناس بسطاء في تفكيرهم تكفي «دغدغة» مشاعرهم ليهبوا للقيام بردود أفعال أشبه ب«الفرجوية»، وهذا ينطبق على مقال «شارلي إيبدو». لا يتعلق الأمر بخلق الفرجة فقط، بل إن هذه الأحداث أفضل تسويق للجريدة (ترتفع مبيعاتها)، إذ يتم توظيف حرية التعبير، التي تعتبر حقا أساسيا، للتلاعب بمبادئ الآخرين وإشعال نار الكراهية. الواضح أن ثمة نوايا شريرة تروم بعث الخلافات وإدامة العداء بين عالمين اثنين: الغرب والعالم الإسلامي. باختصار، تهدف هذه الاستفزازات إلى التحكم في علاقات الغرب والعالم الإسلامي وجعل أوضاعها تنضبط لتركيبة كيبلينغ: «الشرق يبقى شرقا، الغرب يظل غربا، ولن يأتي، مطلقا، يوم يتفاهم فيه هذان العالمان». وقد استشهد الشيخ الشهير بهذه المقولة، في خطبته ليوم الجمعة 29 أكتوبر 2010، التي تحدث فيها عن علاقات الغرب والإسلام. من المؤكد أن العالمين لن يتفاهما أبدا طالما يُسمح للاستفزازيين والأشرار بالتلاعب بالقيم المقدسة من قبل الآخرين، ويستمرون في اعتبار «الآخر جحيما»، على حد قول الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر. تثوي وراء هذه اللعبة الدنيئة إرادة حقيقية لإيقاف تطلعات الشعوب المستهدفة بهذه الاستفزازات وحصر سلوكاتها في ردود أفعال دفاعية تترجم على أرض الواقع على شكل رفض جذري لكل شيء يكون مصدره الآخر. إنه الفخ الكبير الذي يجمع المتطرفين الظلاميين بأشباه أنصار الحرية في خندق واحد. لا تدخر كلتا الفئتين جهدا لإبقاء معظم سكان الدول الإسلامية حبيسة عهود الظلام عبر إيهام المسلمين بأن الحرية والحداثة انسلاخٌ وتنكرٌ للمبادئ والقيم التي تشكل أسس ثقافتهم وحضارتهم.. أوضاع تفرز رفضا جذريا للغرب وقيمه الكونية مع صعود أكثر العناصر رجعية إلى سدة الحكم. واضح أن هؤلاء الاستفزازيين يحبكون مؤامرة، إذ تسعى هذه الاستفزازات إلى صرف العالم العربي عن القضايا الأكثر أهمية والحيلولة دون خروجه من عهود الظلام، في وقت بدأت تشرق فيه شمس الحرية والديمقراطية بفضل الربيع العربي. وعى الإسلاميون المتنورون، أنفسهم، بهذه الحقيقة، ولذلك لم يترددوا في التحذير من الطابع المأساوي لردود الأفعال المسجلة في بلدانهم نتيجة للاستفزازات الأخيرة، على غرار التونسي راشد الغنوشي الذي أدان رد فعل السلفيين والمتطرفين الذين يقودون ردود الأفعال المضادة للاستفزازات الخارجية. ولنكون واضحين، يلزمنا التذكير مجددا بأن المجتمعات الإسلامية لا تملك وسيلة أكثر فعالية، للوقوف في وجه أولئك الاستفزازيين وإجبارهم على التزام الاحترام تجاه مبادئ وقيم الآخر، سوى إقرار الحرية وتبني الديمقراطية. وتعد تركيا وماليزيا نموذجان يلزم الاقتداء بهما في هذا الإطار.. إنهما دولتان استطاعتا أن تفرضا نفسيها بفضل ما تعرفانه من دينامية اقتصادية وتطوير للتربية وحماية للحريات وازدهار وتماسك اجتماعي؛ أما باقي الدول الإسلامية فتظل، للأسف الشديد، رهينة ما عبر عنه برنار لويس ب«الإسلام في أزمة»، أزمة تتجلى علاماتها الأساسية في «ضعف الإنتاجية والانفجار الديمغرافي ووضعية قابلة للانفجار بسبب تزايد نسب الشباب العاطلين غير المكونين والساخطين على الأوضاع». الواضح أن الاستفزازيين يراهنون على سلب العالم العربي المكتسبات التي راكمها بفضل الربيع العربي واستنزاف جهوده في معارك تافهة، إذ تتآكل الآمال التي عقدت على ثورة «الياسمين»، شرارة الربيع العربي، تاركة المجال لاندلاع معاركة من الدرجة الثانية ترجح كفة العناصر الرجعية والماضوية في السيطرة على الساحة السياسية داخل العالم العربي. ويجب الإقرار كذلك بأن الضعف الذي أبانت عنه القوى السياسية الحداثية والعناصر الواعية والمتنورة في المجتمعات العربية والإسلامية يمنح التيارات المتطرفة حرية فرض تصوراتها ونشر رؤاها حول العالم. بتعبير آخر، توجد معظم المجتمعات العربية الإسلامية في الوقت الراهن في مفترق طرق.. إنها تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى نخب جديدة قادرة على اقتراح بدائل جديدة والتفكير «في سبل جديدة لإقرار مصالحة بين متطلبات العصر الراهن والقيم التي تدافع عنها»، على حد قول طارق رمضان. المؤكد أن الطريق إلى بلوغ هذا الهدف لا تزال طويلة ولا تخلو من أشواك وعراقيل.