بعد العروض التي قدمناها في مسرح محمد الخامس وآسفي، أصبحتُ مُخرجا «محترفا» أدير فرقة مسرحية، ومثل كل المخرجين المغاربة صرت مكروها لدى الكثيرين. لا بد من الاعتراف بأن تلك النرجسية الغريبة التي تتحكم عادة في سلوكات المخرجين فعلت فعلتها، ونبتت لي ريشات طاووس، كأنك لا يمكن أن تدخل المهنة إذا لم تتسلح بكميات محترمة من الادعاء والغرور، وعلامة ما تميزك عن الآخرين: شعر طويل، لحية مشعثة، قبعة غريبة، سيكار غليظ، ضحكة شاذة،... أنا اخترت التميز عن طريق مشدات سروال سماوية اللون (بروتال)، بدل الحزام العادي، رغم انقراض هذه الموضة من زمان بعيد، وأضفت إلى مشدات السروال لحية صغيرة أسفل الذقن ولو فتشت على «اسم فني» جدير بي حينها لما وجدت أفضل من «جمال بوكادومة»، كما كان يناديني بعض الأصدقاء ساخرين. المشكلة أن هذا «اللوك» لم يكن منسجما مع قبعة أخرى كنت أصر على وضعها في نفس الوقت: قبعة «الصحافي» و«المناضل». كنا في تلك المرحلة الساذجة من العمر، حيث يقف الإنسان في مفترق الطرق، وبدل أن يختار واحدا يسير فيه، يريد أن يمشي في جميع الاتجاهات دفعة واحدة: مخرج في النهار، صحافي في الظهيرة، وسياسي في الليل. كان عبد الرحمان اليوسفي قد توافق مع الحسن الثاني على المشاركة في السلطة لإنقاذ البلاد من «السكتة القلبية»، كما تقول الأسطورة المؤسسة ل«التناوب»، وكنا شبابا حانقين على المرحلة، تحلقنا حول محمد الساسي، الكاتب العام للشبيبة الاتحادية حينها، في مغامرة فريدة اسمها «النشرة». أسبوعية شاملة ناطقة باسم شبيبة «الاتحاد الاشتراكي»، سرعان ما تخصصت في إطلاق أولى الصواريخ على السفينة التي يقودها عبد الرحمان اليوسفي. كل أسبوع كنا نرمي كومة أحجار على رؤوس وزراء «الاتحاد الاشتراكي»، في إطار التصدع الذي انتهى بتشتيت حزب «القوات الشعبية»، بعد صراع طويل بين جناحه الشبيبي والنقابي وجناح المشاركة في الحكومة. أحسسنا بخيانة ونحن نرى عبد الرحمان اليوسفي، «الانقلابي» العنيد، يحقق هدفه أخيرا... لكنه عوض أن يقلب نظام الحسن الثاني قلب حزب «القوات الشعبية» رأسا على عقب. في اجتماعات التحرير، كان الشعور بالمرارة واضحا على محيا محمد الساسي، خصوصا أنه ظل يلمع أسطورة من كنا نسميه ب«المجاهد الأكبر» على سبيل «قليان السم» لخصومه في الحزب، إلى درجة أن الساسي وصفه في إحدى الافتتاحيات ب«رمز الطهارة السياسية»، نكاية باليازغي ومعسكره. مشكلة الساسي، الذي يبقى من أنبل رجال السياسة في المغرب، أنه قرأ أرسطو أكثر من ماكيافيل، لذلك يبدو مقتنعا بأن «السياسة سعي إلى إحلال الخير في المجتمع» بدل أن يرى فيها «فن الوصول إلى السلطة إذا كنت خارجها، والبقاء فيها إذا كنت في القيادة»... كان المرحوم إدريس البصري مازال وزيرا للداخلية، وحدث أن عمم فاكسا على مصالحه، يمنع الترخيص لإقامة أي نشاط في القاعات العمومية، ولا أعرف من أخبرني بأن الفنان محمود ميكري أيضا تلقى فاكسا من محمد الأشعري يمنعه من إقامة مهرجان «ربيع الأوداية»، الذي تعود على تنظيمه في فضاءات الوزارة. كانت الفرصة أجمل من أن تضيع. ذهبت رأسا إلى بيت ميكري في الأوداية ووجدته حزينا وغاضبا. قال لي: «لقد خربوا هذه البلاد، وأعطوها لليسار كي تموت بين يديه»، وأضاف: «إيلا كان هو الأشعري أنا راه ميكري»... بعد أن استمعت إلى روايته، اتصلت بأحمد لمسيح، الذي كان مستشارا في ديوان الأشعري، لأعرف وجهة نظر الوزارة، لكنه أخبرني بأنه يفضل عدم الكلام في الموضوع. قلت له: كما تحب... وخرج عدد «النشرة» يحمل عنوانا عريضا: «بعد فاكس البصري الأشعري أيضا يصدر فاكسه/ منع مهرجان «ربيع الأوداية»/ «النشرة» تروي تفاصيل اغتيال الربيع»... وانتقام الأشعري لم يتأخر.