عام 1998، كنت أنهي سنتي الأخيرة في «المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي» حين بدأ الأشعري سنته الأولى في وزارة الثقافة، بعد أن تسلل بضربة حظ إلى حكومة «التناوب» التي شكلها عبد الرحمان اليوسفي في ظروف سياسية عصيبة. بمجرد ما جلس على الكرسي، أوقف توظيف خريجي «المعهد» في أسلاك الوزارة، واعدا إياهم بفرص شغل في «مشاريع حرة» بالتزامن مع إنشاء ما سمي ب«صندوق الدعم المسرحي»، زاعما أن الأولوية ستكون فيه للخريجين... بضع سنوات بعد ذلك، وجد هؤلاء أنفسهم يتنافسون مع من هب ودب على «الدعم» ولا يحصلون إلا على الفتات، واكتشفوا أن الأشعري إنما كان يريد الانتقام منهم لأسباب غامضة؛ وقد نجح، فعلا، في تشريد العشرات وحوّلهم إلى مداومين بين مقاهي «المثلث الأحمر» و«هالينكا» و«الساتيامار»، بلا وظيفة ولا دعم ولا مستقبل، يفتشون عن دور في مسرحية أو فيلم كي يرقعوا أيامهم المثقوبة... إلى أن أنقذهم «الربيع العربي» وأعادتهم تظاهرات العشرين من فبراير إلى أسلاك الوزارة بعد أن خرط الشيب رؤوس الكثيرين. وقتها كنت من المحظوظين، لأنني أسست فرقة مسرحية وقدمت ملفا لأول لجنة «دعم مسرحي» وحصلت على 70 ألف درهم لتمويل المشروع. هكذا لبست قبعة المخرج وذهبت لأتدرب في «دار ماراسا» (التي كانت مقرا ل«الاتحاد العام للشغالين» أعطاني مفاتيحها الأستاذ عبد الجبار السحيمي، رحمه الله) مع فريق من الممثلين، من بينهم فاطمة الركراكي ومحمد ابن بار وبشرى إيجورك وعبد الصمد مفتاح الخير وشوقي العوفير... بعد أسابيع من التداريب، قدمنا العرض في مسرح «محمد الخامس» وصفق الجمهور وكتبت الجرائد وأصبحت مخرجا مسرحيا، أدخل إلى «المثلث الأحمر» ويوقفني الممثلون بحثا عن أدوار... وسرعان ما وصلتنا دعوة للمشاركة في مهرجان بآسفي من تنظيم بلدية «الزاوية». اتفقنا هاتفيا على المقابل الذي سنتقاضاه نظير العرض: 15 ألف درهم. وأرسلوا إلينا سيارة لنقل الممثلين وشاحنة لحمل الديكور. تكدسنا في ال«رونو طرافيك» مثل فرقة «ريكبي» وذهبنا لغزو آسفي. عندما وصلنا إلى الفندق، وجدنا كل الغرف مشغولة. اعتذر مرافقنا وقال إنهم سيحلون المشكل «حالا»، كما يدعي المنظمون في جميع أنحاء العالم. في انتظار ذلك، جلسنا نشرب قهوة على التيراس. فجأة، لمحت إدريس الخوري ناشرا رجليه على إحدى الطاولات. ذهبت لأسلم عليه. وجدته مستاء يشتم ويتوعد أصحاب المهرجان: دعوه لتوقيع كتاب عنوانه «مدينة التراب» وتخلفت السيارة التي ستنقله من الرباط واستقل «الكار»، أما نسخ الكتاب التي وعدوه أن يتكفلوا بها فلم تصل بعد... نظرت إلى الغبار الذي يملأ الطرقات وكدت أقول لبّا ادريس إنه لا يحتاج إلى أي نسخة من الكتاب لأنه أصلا في «مدينة التراب»، لكنني خشيت أن يرميني بأحد الكراسي لأنه كان في أقصى درجات الغيظ... ونحن في المقهى، كان الناس يتوقفون ليسلّموا علينا ويأخذوا صورا مع الحاجة فاطمة الركراكي. عندما يكون معك شخص معروف، تستطيع حل كثير من المشاكل. صاحب الفندق الذي أغلق في وجهنا الغرف، عاد يجر جثته الضخمة، ومن رقبته الغليظة تتدلى سلسلة ذهبية، واقترح على الحاجة بصوت خفيض أن يوفر لها غرفة، لكنها رفضت ضاحكة: «لا آسيدي مايمكنش نبقى معكم ونخلي وليداتي!»، رد الثور محرجا: «سنحاول أن نوفر غرفا للأولاد أيضا»... كنا أولادا مشاغبين، نعتقد أننا الأذكى في العالم رغم أننا كنا سذّجا في النهاية، لأن رئيس المجلس البلدي ل«الزاوية» استطاع أن يضحك علينا ويسرقنا كأي لص محترف. كان من حزب «الاستقلال» ب«فيستة كرعية» و«كرافاط» وردية، علامة على انتمائه السياسي، على الأرجح. بعدما قدمنا العرض، ركّب ابتسامة صفراء ودعاني إلى قهوة على انفراد. بدأ يحدثني عن طموحاتهم الثقافية في «الزاوية» وعن المشاكل المادية للجماعة، قبل أن يدخل رأسا في الموضوع ويخبرني بأنه لن يعطينا إلا 10 آلاف درهم بدل 15 ألف التي اتفقنا عليها... فكرت في أن أشتمه وأنعته باللص وأبصق في وجهه وأنصرف، لكنني عدلت عن الفكرة. قلت أستلم المبلغ وأفضحه فيما بعد. أخذت المليون وها أنا أفضحه في الجرائد... بعد أكثر من عشر سنوات!