من المؤكد جدا أن الرهان اليوم هو التغيير، فكرا ومنهجا وسياسة وعملا واستراتيجية؛ فالتحدي الحقيقي ما زال أمامنا بمستوياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتوجهات الثقيلة التي يفرضها المحيط العالمي وآثار تقلبات المناخ على البيئة والطاقة والماء والفلاحة، العنصر الأساسي في الاقتصاد المغربي. لذلك دعونا نبدأ بقول الحقيقة، فمن لا يملك قوة قول الحقيقة لن يصحح أخطاءه الماضية، ولن يستفيد من حاضره، ولا يمكن أن تكون له رؤية واضحة لمستقبله؛ فمن منا اليوم ينكر أو يتجاهل ما يعانيه المجتمع -أقول المجتمع في عموميته- من أزمة مرة معقدة عميقة وشاملة. بعبارة أخرى أوضح وأدق، إن أزمة القيم والأداء والفعالية التي يعرفها المغرب من أهم أسبابها عدم الثقة في المؤسسات الحالية المبنية على عدم الشفافية والمحاسبة والرقابة والمسؤولية والرؤية الصحيحة ويغيب عن تسيير وتدبير معظمها أشخاص مناسبون في أمكنة مناسبة، أنظروا إلى الرياضة مثلا، فينبغي أن تقوم ساعتها الآن. إن هذا الوضع الذي تدهورت فيه منظومة القيم، سواء منها الدينية أو المدنية، يجعلنا في أمس الحاجة إلى مقاربة صحيحة وشاملة لمعالجة الإرث الثقيل للمنظومة الداخلية لكل مؤسسة وآثارها السلبية وتداعيات الأزمة الدولية الشاملة التي تعيشها بعض الدول الأوربية وستشهدها دول أخرى في المستقبل تجمعنا بها مصالح وعلاقات واتفاقيات، للأسف ارتبطنا بها ولم يكتمل بعد نضجها السياسي وقدرتنا الاقتصادية ومداركنا وآفاقنا المعرفية والعلمية، علما بأنه توجد لدينا مؤسسات فيها أفراد وعائلات انفردت بالسلطة وراكمت الثروة واستفادت من الامتيازات وأعطت نفسها الاعتبار دون غيرها ولا زالت تتحرك في حدود هذا المدار بدون اكتراث لما يقع حولنا، إقليميا ووطنيا ودوليا. هذا الوضع البئيس يجعلنا في حاجة إلى المزيد من القوة، هذه المرة ليس على مستوى القول وإنما على مستويات أخرى حضارية للتخلص من براثن الجهل والأمية والتخلف والاستغلال والخروج من مستنقع الفساد الذي استشرى وتغلغل في حياتنا الاقتصادية والعلاج من الأمراض النفسية والذهنية وضمان الأمن والاستقرار الحقيقيين على المستوى السياسي والاجتماعي والغذائي، وبالأخص في الوقت الراهن. وبما أنني لست رجل سياسة ولم أهتم طيلة حياتي بالحكومة ولا بالمعارضة، فإنني كرجل قانون أستطيع القول بأن السياسة الصحيحة هي التي تعمل اليوم بمنطق الشراكة والمشاركة الحقيقية الموسعة والمكثفة والمبنية على أسس علمية وكفاءة مهنية وفعالية وتضمن الاستمرارية، لهذا أقول من هذا المنطلق إنه لم يعد مقبولا بتاتا من أي رئيس حكومة التنصل من هذا الخيار أو المبدأ والطرح الصريح والموضوعي لقضايا المواطنين والسعي بجدية إلى إيجاد حلول لمشاكلهم والاستجابة لمتطلباتهم وانشغالاتهم والحد من شراسة الانتهازيين وإقرار مبدأ عدم الإفلات من العقاب وإيجاد صيغة لاسترجاع الأموال المهربة، وتظل إمكانية طرح السندات السيادية كنوع من أنواع الخوصصة واردة في حل هذا المشكل، أو ترتيب المسؤولية القانونية عن كل مخالف بمقتضى القضاء المقارن وعملا بالحديث الشريف: «إنما أهلك الذين من قبلكم، أَنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإِذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وَأيْمُ الله لو أن فاطمةَ بنت محمد سرقت لقطعت يدها»؛ كما لا يمكن عدم قبول قدرة الحكومة على تخليق الحياة العامة وبداية تكريس الحكامة الجيدة وإعداد قوانين وتنظيمات استعجاليه لا يمكن تجاوزها تعطي لاقتصادنا الضعيف القوة وتفتح البنية السياسية المغلقة في وجه الشباب المثقف والمتمرس وتساهم في الاستغلال الأنجع لمواردنا الطبيعية والبشرية لرفع مستوى الإنتاج؛ فالعالم اليوم يعاني شتى أنواع الصعوبات وأقصاها، مما قد يعيقنا عن تحقيق مبادئنا ومصالحنا. إن العفاريت والتماسيح والساحرات والديناصورات التي تحدث عنها رئيس الحكومة الحالية موجودة في هذه الأرض وفي باقي بقاع العالم وبنسب متفاوتة، ولكن هناك وصفة للتخفيف من خطورتها إلى حين تقويمها وتطويعها تدريجيا، وهي تحصين جميع المغاربة بالإيمان والعلم والعمل المكثف لأنه لا يمكن تحقيق هذه المبادئ والمصالح وسائر الأهداف النبيلة والسامية في عالم الخوصصة وتحديات العولمة إلا بتضافر الجهود وتماسك الحركات الاجتماعية والوطنية التي ليست إلا قوى للتنمية وتبني الأفكار والمواقف والتصورات والاستراتيجيات الصحيحة في اندماج وانسجام تام وبفعالية في الميدان، تتماسك فيها كل مكونات المجتمع المغربي، برعاية ملكية ومبادرة شريفة للملك باعتباره راعي الدولة وحامي الدستور والفاعل الرئيس في المشهد السياسي والاقتصادي والديني... ورئيس مجلس الوزراء. إن بناء النظام الديمقراطي الحقيقي الفعلي بالمفهوم الشامل هو العلاج الوحيد للفساد الذي يمزق الحياة الاقتصادية والتسلط والاستبداد الفكري والسياسي، وإن العدل هو أساس الملك. وفي هذا الباب، دعوني أكون صريحا لأقول إن الهندسة التي خرج بها الفاعلون السياسيون إلى الوجود في إطار تنزيل الدستور لم تكن سليمة إلى حد الآن ولن تساعد أبدا على العمل أكثر والتقدم عمليا من أجل إنجاح الانتقال الديمقراطي وإغناء الحياة السياسية وتحريك العجلة الاقتصادية المتوقفة؛ كما أن حصيلة الحكومات السابقة والحالية لم تكن في المستوى المطلوب، إذ لم تفلح في إرساء ثقافة التدبير المعقلن الذي ينقل البلاد والعباد تدريجيا من مرحلة التخلف والتبعية إلى مرحلة الاستقلال والارتقاء الحقيقي بكل تجلياته ومعانيه ومفاهيمه وأبجدياته. فمِن نِعم الله على هذه الأرض أن المغاربة والمغربيات متفقون جميعا ودستوريا على أن الإسلام والملكية من الثوابت، وقد ازداد هذا على مر الزمن رسوخا في أذهانهم وقلوبهم، وعبر بعضهم عن إصلاحات وطالبوا بالمزيد من التنازلات وبتغيير على مستوى السلطة، وأنا أضيف أن المجتمع مطالب كذلك بتغيير جذري. وأؤكد هنا أن الملكية هي مكمن قوة المغرب أخذا بعين الاعتبار النتائج التي وصلت إليها أنظمة عربية أسقطها الفساد ولم تجعل للغتها وثقافتها الدينية اعتبارا، وللتعايش سبيلا، وللمشاركة مع الفاعلين في كل الميادين إطارا موضوعيا، ولم تحافظ على السلم الاجتماعي بتوزيع السلطة والثروة على أساس العدل والمساواة، وهندسة المؤسسات في اتجاه المصلحة العمومية؛ كما أنها لم توفر بنية نظيفة للتنافس السياسي والتمثيل الديمقراطي السليم، ولم تعتمد على الكفاءة المهنية والنزاهة كأساس للتعيين في المناصب العليا للجهاز الإداري للدولة، ولم تحط بنفسها هيئات استشارية وأدمغة ذات حنكة وخبرة عالية لتدبير الاختيارات والإملاءات الخارجية السلبية والضارة على كافة المستويات في الاتجاه الذي يخدم مصالح ومبادئ أمتها ووطنها؛ كما أنها لم تخصص للبحث العلمي ميزانية ملائمة ولم توفر ضمانات للولوج الميسر إلى العلاج الجيد والناجع للفقراء والمعوزين والمحتاجين، ولم تدخل مادة الوقاية من الجريمة في مناهجها التعليمية والتكوينية. فلنعتبر، إذن، ولنكف عن الكلام الكبير الخالي من القيمة وعن التطبيع مع اللامعقول والفساد والتهريب وتسويق الوهم، ولنتجه صوب الميدان لاكتساب قوة القول والفعل بإعداد القواعد والاتفاق على منظومة من القيم كي تحكمنا، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، والتفكير مليا في منهجية نتجاوز بها حالات الاضطراب النفسي والسلوكي والقلق الملازمين لنا منذ اصطدامنا بالحداثة والشروع في إنجاز الإصلاحات الضرورية التي تعزز الأسس المتينة لاقتصادنا وتضمن لنا كرامتنا وسيادتنا والخروج من الأزمة بأخف الأضرار؛ ولنجعل من الجهوية الموسعة أفقا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وترسيخ القيم الديمقراطية المحلية وفرصة سانحة لبلورة المؤسسات القوية بسيادة القانون والشرعية والبوابة الرئيسية للإصلاحات المستقبلية في كل الميادين مع تأهيل العنصر البشري، وخاصة إصلاح نظام اللاتمركز الذي يتعين إعطاؤه انطلاقة قوية وفق توجه جديد يراعي في مقام أول طابع المواكبة التنموية والاقتصادية والسياسية. وهذا تنزيل يطرح على أرض الواقع تحديات كبيرة في مقدمتها مسألة نوعية النخب السياسية القادرة على تدبير هذا المشروع الضخم بكل المقاييس والذي يتعين أن يخدم الوحدة الوطنية ونماء كل جهة واحترام طقوسها وعاداتها وخصوصيتها، مع ضرورة إحداث مركز حضاري ومجلس اقتصادي لكل جهة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولا بد من الإشارة هنا إلى بعض الملاحظات: بخصوص المؤسسة الإعلامية، إذا لم نسع بخطى حثيثة إلى استقلالها وتحررها وحيادها وتكريس التعددية التي تنعش الديمقراطية وتحسن المنافسة، وإذا لم نطبق مبدأ العدالة، خاصة في قنوات قطبها العمومي في اتجاه تحقيق المصلحة العمومية ومواكبة هذه الإصلاحات بجدية، فإننا سنسقط في فخ الجبابرة، فقد أضحت مبادئهم مكشوفة وغير مرغوب فيها وطنيا ودوليا. لذلك أؤكد هنا على الشجاعة الفكرية والأخلاقية والصلابة السياسية والثقافية للحكومة الحالية؛ فإذا لم توفق الأخيرة في هذا الميدان فإنها ستضيع فرصة لا مثيل لها، ذلك أن زمن الخوف والردة قد انتهى والسياسة الدبلوماسية الفلكلورية لم يعد مرحبا بها في بلادنا، كما أن الآهات والتشكي في الحياة السياسية والحزبية عمل منبوذ.