كان الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي قد أشار إلى أن النظام السياسي المغربي يشكو من وجود نوع من الازدواجية بين «سلطة الدولة» و«سلطة الحكومة». هذه الازدواجية تمثل طبعا اختلالا بيِّنا يُبعد نظامنا عن جادة التوافق مع قواعد الحكم الديمقراطي. ونَبَّه ذ.اليوسفي أيضا إلى ثقل الأعراف والتقاليد التي تكبح التطور الديمقراطي. وهذا الثقل يُنتج، في نهاية المطاف، نوعا ثانيا من الازدواجية، وثيق الصلة بالنوع الأول. يتعلق الأمر هنا بوجود ما يشبه «الدستور العرفي»، إلى جانب دستور رسمي أُعلن عن مصادقة الشعب عليه ونُشر في الجريدة الرسمية. يُقصد بالدستور العرفي مجموعة من القواعد غير المكتوبة التي جرى بها العمل والتقاليد المرعية والضوابط التقليدية التي تحكم العلاقات بين المؤسسات ومختلف الفرقاء، والتي انتهت أغلب النخب إلى قبولها واستساغتها واعتبارها ضرورية وملزمة وجزءا لا يتجزأ من منظومة التزامات هذه النخب حيال الملكية المغربية. جوهر الدستور العرفي يُقَدَّمُ كتعبير عن خصوصية النسق السياسي المغربي؛ وتتكلف ترسانة كاملة من المؤسسات والأفراد، الذين يؤدون أدوارهم بإتقان كبير، بالسهر على ضمان الانضباط لذلك الدستور وتذكير الناس بمقتضياته وبضرورة الخضوع له، وتلقين الوافدين الجدد على دار المخزن دروسا في كيفية السير على هديه واتباع منهجه وتحمل أعبائه والرضى بقدره. الدستور العرفي وُجد قبل وجود الدستور الرسمي المكتوب، ومهمته هي الحفاظ على الاستمرارية، ولهذا فأحكامه موضوعة لكي تخلد وتتأبد، والمفروض ألا تتغير تلك الأحكام بمجرد تغير أحكام الدستور الرسمي، لأن الدستور العرفي يمثل حقيقة أكبر وأسمى. وهناك دعوة دائمة لجميع أطراف العملية السياسية في بلادنا لكي تتقبل كلها، وبدون استثناء، مبدأ العمل بالدستور العرفي واعتباره المرجع الأساسي حتى وإن تعارضت بعض بنوده مع أحكام الدستور الرسمي المكتوب. يجب أن يفهم الجميع أن مصدر القرار الأساسي في الدولة يبقى واحدا، وأننا نعيش في ظل نظام سياسي يخيم عليه جو عائلي، وينعم فيه الأبناء بالعناية والحدب والرعاية ويجدون دائما من يفكر في مصالحهم ويسهر على تأمينها بلا كلل أو ملل. وهكذا، مثلا، نصت الدساتير المغربية على أن تعيين الوزراء يتم باقتراح من الوزير الأول (رئيس الحكومة اليوم)، ولكن العادة جرت على صدور اقتراح العديد من الأسماء من القصر نفسه، ومن بينها أسماء من يُلَقَّبُونَ بوزراء السيادة. والسلط الممنوحة للوزير الأول أو لأي وزير آخر، حسب الدستور، تتوقف ممارستها عمليا على صدور إشارة إيجابية بذلك أو على انتظار المدة المحددة لورود إشارة سلبية تقضي بعدم ممارستها، أو بعد التأكد من عدم وجود رغبة من القصر في ممارسة تلك السلط مباشرة (تفقد منكوبي زلزال). والنقط البرنامجية الواردة في الخطب الملكية يجب أن تحظى بالأولوية في التطبيق ولو في مواجهة بنود البرنامج الحكومي، وكل ما يرد بهذه الخطب يجب أن يُعتبر بمثابة قانون تقريبا حتى قبل أن يُصب في قالب قانوني. واليوم، نحس كما لو أن هناك رغبة ما في استمرار الازدواجية المشار إليها، وفي اعتماد الدستور الرسمي قولا والدستور العرفي عملا، واعتبار أن المستجدات التي جاء بها دستور 2011 ليست واجبة التطبيق بمجرد إعلان المصادقة الشعبية عليه، بل يتعين، بالنسبة إلى كل مستجد، انتظار إشارة ما، أو حدث ما، أو زمن ما، قبل إدخاله حيز التنفيذ، أو على الأقل تأويل تلك المستجدات وتحديد مناطها ورسم نطاقها وفهم معناها في ضوء معايير وضوابط فلسفة الدستور العرفي ! ليس ذ.بنكيران وحده من ينخرط في هذه اللعبة التي هي أشبه بتعليق دستور 2011، واعتباره دستورا تاكتيكيا، وُجد ليؤدي وظيفة ظرفية، وبزوال أسباب النزول تزول الحاجة إليه. إن زحف الدستور العرفي على «قلاع» دستور 2011 يَتَبَدَّى على أكثر من صعيد.. فالإبقاء على عدد من وزراء السيادة في التركيبة الحكومية الحالية فيه مسٌّ بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الوارد لأول مرة في الدستور، ما دام وزير السيادة غير معني بحكم صناديق الاقتراع ويمكن أن يتولى المسؤولية الوزارية مجددا حتى ولو كان الناخبون قد أسقطوا الحكومة التي سبق له الوجود ضمن تشكيلتها. وتعيين السفراء ال29 كان يمكن أن يتأجل بعض الوقت لتقوية موقع رئيس الحكومة الذي كان قد وقع تعيينه. وتعيين عدد ضخم من المستشارين الملكيين، ومن بينهم شخصيات حكومية سابقة أو شخصيات ليست لها علاقة ودية بالحزب الذي يتولى رئاسة الحكومة الجديدة لأول مرة، قد يظهر كما لو أنه سعي نحو تعزيز موقع القصر في مرحلة قضى فيها الدستور الجديد -رغم نقائصه الجوهرية- بتعزيز موقع الحكومة. أما بخصوص ما يُشاع من أن المستشارين يباشرون عقد اتصالات مع الوزراء، بدون المرور عبر رئيس الحكومة، فإنه قد يُخلِّفُ انطباعا بوجود رئاستين للحكومة أو بوجود حكومة ظل موازية توجه عمل وزراء الحكومة الرسمية. والخطاب الملكي لعيد العرش قدم الخطوط العريضة لما يمكن اعتباره برنامج الدولة شبه القار، وأكد في هذا الصدد على استمرارية تمتد من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، وانطلق من التعامل مع البرنامج باعتباره شأنا ملكيا بامتياز، وأورد الإشارة إلى الحكومة في سياق وضعها كمتلقية للتوجيهات الملكية. كما أن خطاب عيد العرش «صَحَّحَ» مقولة رسمية رائجة، مفادها أن عاهل المغرب، من خلال الدستور الجديد، استجاب لطلب عبّر عنه جيل الشباب في زمن الربيع الديمقراطي، فخطاب العرش لا يضع ميلاد الدستور كثمرة لهذا الربيع، بل كإفراز طبيعي لاستمرارية مسلسل إصلاحي دُشِّنَ قبل أكثر من عقد من الزمن. وبالتالي، فالمقصود بالتأويل الديمقراطي للدستور يجب أن يتحدد في ضوء هذه الاستمرارية، وليس في ضوء التفاعل مع معطيات الربيع الديمقراطي. وقد باشر الملك عقد اجتماع تدبيري مع مسؤولين أمنيين ووزراء لحل مشكل عبور الجالية المغربية، وأقدم على عدة توقيفات لموظفين عموميين، وهي تدابير كان يُفهم أن الدستور الجديد أوكل أمر النهوض بها إلى الحكومة، وحصر صلاحيات الملك في ما تَمَّ التنصيص عليه صراحة في الدستور. فهل تمثل هذه المبادرات إحياء للعرف المُخَوِّلِ للملك سلطة تقديرية عامة تتعدى التنصيص الصريح وتمنحه حق التدخل المباشر متى لاحظ أن عمل أي قطاع من القطاعات الحكومية يتسم بالبطء أو بالإهمال أو يفتقد الخبرة الضرورية أو التجرد المطلوب أو تترتب عنه مشاكل..؟ والدرس الحسني الذي ألقاه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أكد، بشكل لافت، على محورية دور إمارة المؤمنين، موجها بذلك ربما رسالة إلى الذين يعتبرون أن الدستور الحالي يعني الحد من السلطات المترتبة عن ذلك الدور. كما نَبَّهَ درس الوزير إلى أننا نعيش في نظام سياسي عصري، لكن نظامنا الديني الروحي المتكامل هو أشمل منه، واعتبر حفل الولاء تجديدا سنويا للبيعة التي هي بمثابة عقد سياسي بين الملك والمغاربة. العقد الوحيد الذي ينظم العلاقات السياسية في دولة حديثة هو الدستور. فإذا كانت البيعة أعلى مقاما من الدستور، فمعناه أننا لا نتوفر على دستور؛ إذ لا يكون هناك دستور إلا إذا تمتع بالسمو (Règle de la Suprématie de la Constitution). وإذا كانت البيعة أدنى من الدستور، فيجب أن ينص عليها باعتبارها مجرد فرع منضبط للأصل، وجزءا ضروريا للكل، وأن يُصَوَّتَ على هذا الجزء ضمن التصويت على الكل. فكيف نستطيع أن نثبت ضرورتها؟ خطاب الدرس الحسني يعيدنا تقريبا إلى نقطة الصفر، ويواصل لعبة التداخل والخلط بين المشروعيات الذي يُفترض أنه كان السبب في الانتقال من مضمون الفصل 19 القديم إلى مضمون الفصلين 41 و42 القائم على التمييز بين وضع الملك كأمير للمؤمنين ووضعه كرئيس للدولة، والقاضي بعدم إمكان أمير المؤمنين ممارسة صلاحيات سياسية -كالتشريع مثلا- غير واردة صراحة في الدستور. هل نحن أمام محاولة لإعادة إفسال الفصل 19 القديم ضمنيا في جسم الدستور الجديد، والتذكير بأن هذا الأخير لا يسمح لنا بطي صفحة الدستور العرفي. والملاحظ أن جزءا من المعارضة الحداثية اعتبر أن تدخل الملك لتدبير ملفات تخص الحكومة بمثابة سد للنقص الحاصل في أداء الحكومة، مما قد يفضي إلى إرساء العرف القائم على أن وجود أي نوع من هذا النقص يسمح بأي نوع من التدخل.. أما رئيس حكومتنا، فتصرف، مثلا إزاء عملية تعيين العمال الجدد، بمنطق أقرب إلى الاستمرارية وليس بمنطق الشراكة المفروض أن الدستور الجديد أَخْضَعَ له تلك العملية. كما أن تأخير مسلسل القوانين التنظيمية قد يبدو كما لو أن الهدف منه هو إبعاد ظروف إعدادها عن الجو الذي خيم على إعداد الدستور الجديد، وبالتالي ضمان انزياحها عن بعض الالتزامات الواردة به. وقول ذ.بنكيران إنه «مجرد رئيس حكومة» وإن «المسؤولية الأولى هي مسؤولية الملك» و«نحن هنا لمساعدة الملك كلٌّ من موقعه»، معناه أن وظيفة الموقع الحكومي اليوم، رغم الدستور الجديد، تظل منحصرة في المساعدة. قد يكون بنكيران أحس بأن الارتقاء برئيس الحكومة من نظام المساعدة إلى نظام الشراكة، باسم دستور 2011، محاط بالكثير من التعقيدات والمشاكل الآن، لهذا تحولت القناعة البنكيرانية نحو اعتبار اختيار «التطبيع مع الملكية» أهمّ في الوقت الحالي من اختيار «الشراكة مع الملكية». وجاء الاعتذار إلى الملك وإلى المستشارين ليعيد صياغة الطموح السياسي لتجربة بنكيران في اتجاه التحجيم، وكصك التزام ضمني بالمساعدة في تطبيق البرنامج الملكي والامتثال للدستور العرفي. نحن هنا، نحاول فقط أن نتتبع خيط اتجاه الأحداث، كما يبدو حتى الآن، ولا نعتبر أن من حقنا إصدار أحكام قطعية ونهائية..