هل يمكن أن تبقى سياسيا مثقفا ومستقلا بعد الخروج من جبة المخزن؟ يبدو أن هذا ما أراد حسن أوريد، الناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي، القيام به عبر تصريحاته الأخيرة في إحدى الندوات والتي انتقد فيها حزب الأصالة والمعاصرة وآليات اشتغال المخزن الجديد. يبدو أن الرجل أراد التخلص من قيود السلطة ليتصرف مثل مثقف، وحدها الحقيقة لها معنى بالنسبة إليه. تنم هذه الجرأة عن إحساس حاد بالمسؤولية. مداخلة أوريد جديرة بالثناء والإعجاب، بالنسبة إلى كل عاشقي الحرية والمسؤولية.. إنها تقطع مع خطاب سياسي قائم على التذلل والخضوع. ومن النادر في المغرب، اليوم، رؤية مثقفين يجرؤون على قول الأشياء كما هي. صحيح أن الرجل خاطر كثيرا حين أظهر تنكرا لجزء من المجموعة التي ينتمي إليها. وبما أنه عارف بممارسات وثقافة المخزن، فإنه كان يفترض أن يكون الرد قاسيا، لأن ثمة شيئا واحدا مؤكدا، وهو أن: «الانتماء إلى البلاط امتياز، ولكنه ليس ضوءا أخضر لقول كل ما يفكَّر فيه في الواقع»؛ ذلك أن حرية التفكير والحركة مفهوم غريب عن هذا العالم، وهو ما ازداد تأكدا ورسوخا بعد الغضب الذي أثارته تصريحات أوريد.. تحرك الجميع مروجين فكرة واحدة وهي أن الرجل لم يكن يجدر به أن يفعل ما فعله، ولم يكن ليسمح لنفسه بقول الحقيقة. صحيح أنها مخاطرة تقود صاحبها إلى الجحيم، غير أن كل ما قاله معروف لدى الجميع في المغرب، ولم يضف إليه شيئا عدا كونه شاهدا من الداخل. ولذلك كان صعبا، بل مستحيلا تكذيب كل ما قاله. بتعبير آخر، لم يكتف أوريد في تصريحاته بتعرية النظام القائم، بل وجه أيضا دعوة إلى جميع المثقفين الشرفاء إلى الخروج من دائرة الظل التي يلزمونها حاليا. وبصرف النظر عن هذه الواقعة، فإنه يجب الوعي تمام الوعي بعدم إمكانية إحقاق تقدم في بناء المغرب الحديث إذا لم يملك المثقفون الجرأة على تحدي الحكام ورفض امتيازات الأمير. من جعل من الغرب قويا ومهيمنا؟ الأكيد أنهم ليسوا ملوكه، الذين ظل همهم الوحيد الحفاظ على الوضع القائم، بل ما أبدعه وبلوره مفكروه ومثقفوه: لوك وهوبز ومونتيسكيو وفولتير وجون جاك روسو.. المهمشون داخل المجتمعات، الذين رفضوا تقبل ما آلت إليه أوضاع بلادهم في تلك الفترة، وبادروا إلى وضع تصور لعالم جديد، وصف وقتها بالمثالي، لكنه بات اليوم واقعا يوصف بالعالم المتحضر. بتعبير آخر، فضح الاستغلال وتجاوزات الأنظمة مع اقتراح البدائل هو الطريقة الوحيدة نحو التقدم. فقد وصل الغرب إلى هذا المستوى بفضل مفكرين ومثقفين من العيار الثقيل، أمثال غاليلي ولوثر وفيكتور هوغو وإميل زولا، الذين قالوا «لا» لما كان سائدا وهللوا ب»نعم» للمستقبل. وما أحوجنا، اليوم، في المغرب إلى أمثال هؤلاء الرجال. مجتمعنا، للأسف، يعج بالخنوعين واللاهثين وراء الفتات؛ بيد أن تاريخنا لا يعدم مثقفين نزهاء وشجعان. لنتذكر ما قام به اليوسي في عهد مولاي إسماعيل، وكسوس وتشبثه بقيمه ومبادئه في عهد السلطان نفسه، ولا ننسى أيضا الكتاني ومعارضته لمولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ، وهو ما كلفه حياته، ولنتذكر أيضا مواقف مولاي العربي العلوي، دون نسيان آل سرحان، وكل الذين لم يضعفوا أمام المال ولم يهنوا أمام السلطة. إجمالا، لقد أقدم أوريد على تخطي عتبة تعتبر بمثابة خط أحمر؛ وإن هذا لشرف له. غير أنه يتوجب عليه أن يحافظ على انسجام منهجه، لأن التراجع تحت طائلة التهديد يعني القضاء على ما في هذه المبادرة المشرفة من فوائد؛ ذلك أن الخطوة التي قام بها أوريد، في وقت يعتزل فيه السواد الأعظم من المثقفين السياسة أو يضعون فيه أنفسهم في خدمة السلطة، تعتبر بمثابة دعوة صريحة للمثقفين الباقين في الظل إلى المشاركة. وإنها دعوة تستحق الاهتمام وجديرة بالاستجابة لها دونما تأخير. لا ننسى أن الشعوب تدين لمفكريها ومثقفيها بالكثير في تحررها. لا نترك المجال لأشباه المثقفين الذين لا يقومون بشيء عدا ملء الفراغ الحاصل. المجد كل المجد للجنرال الكبير دوغول الذي كان يجمع وزراءه بين الحين والآخر، ويطرح عليهم السؤال التالي: «قولوا لي ما الذي لا يسير كما يجب، فالجميع يعرف ما يسير على أكمل وجه». وعلى هذا الأساس، يمكن للأمير والمثقف أن يقطعا مشوارا طويلا سوية إذا تقبل الأول استقلالية وحرية الثاني. ألم يقل فولتير: «نحن أنداد للحكام، ولا ندين بشيء للأمير عدا الحقيقة». ينبغي عدم ترك تصريحات أوريد تمر وكأنها حدث عابر. يجب أن تدرج ضمن الدينامية الفكرية والثقافية والسياسية التي تعم المغرب حاليا. ستكون مؤسفة، بل مدمرة، مقابلةُ هذا الحدث بالعدوانية والرفض، إذ يمكن لهذا الرجل، الذي خبر السلطة وأركانها ودواليبها ويعرف كيفية اشتغالها وعملها، ادعاء المعرفة بنقط ضعفها وانجرافاتها. ولذلك، يجب الاهتمام بهذه الإشراقة دون أن نجعل من أوريد بطلا ولا ضحية، فالأهم فهم معناها لكونها صادرة عن رجل ينتمي إلى المجموعة التي تقرر في مصير البلاد. ختاما، يمكن لتصريحات أوريد، إذا فهمت بشكل جيد، أن تفسح المجال لنقاش بناء ومثمر، لأنها تعيد الأمور إلى نصابها: لا يمكن بناء مغرب للجميع، عصري وشفاف، دون وضع حد للتقليدانية والممارسات التي عفا عليها الزمن، وما يسود المشهد من غموض وضبابية. وهذا هو المعنى الشامل للربيع العربي وحركة 20 فبراير. وعلى الماسكين بزمام السلطة أن يجيبوا بوضوح عن هذه الإشكالية. أما المجتمع فقد تلقى الرسالة واستوعبها ويحتفظ بحق الرد، طالما أنه بادر إلى التحرك منذ مدة وسيستمر في الحراك.. حركة 20 فبراير لا تعدو أن تكون بداية. ويمكن للذين يعتقدون أن القوس قد قفل أن يستفيقوا من أحلامهم ويقطعوا مع الأوهام؛ ففي جميع الأحوال، ثمة أسباب تبعث على القلق على مستقبل هذا البلد حين نعاين الرجال الموجودين في القيادة.