يوسف الحلوي لا يكاد يعترف أحد اليوم بدور المغرب في النهضة الأوروبية، فالحضارة المغربية التي أهملت في مهدها كان لها أعظم الأثر في كل أقطار المعمور، من يقر اليوم بفضل ابن رشد في تفسير مبادئ المنطق ومن يعترف بأثر جهوده التي انطلقت من مراكش في نهضة أوروبا؟ من يذكر دور ابن البناء وابن هيدور وابن الياسمين في تطوير علوم الحساب في الشرق كما الغرب؟ ومن ينسب للمغاربة أنهم كانوا سباقي ن إلى القول بأن شكل الأرض «إهليليجي « لا منبسط كما كانت تعتقد أوروبا ؟ ومن ينسب لهم الفضل في اكتشاف الجاذبية قبل نيوتن وأنهم سادة علم الاجتماع وأئمته ؟ لا يتسع المجال هنا لذكر فضل المغاربة في تقدم العلوم وازدهارها ولكنها توطئة لا غنى عنها قبل الحديث عن الشريف الإدريسي، فهو واحد من أولئك العباقرة المظلومين، فهو الشمس المنيرة في جو العلوم لولا أن مطلعه كان من المغرب، فلم يوف حقه ولم يعرف فضله، العالم الذي سبق جاليليو الشهير في القول بأن الأرض بيضاوية الشكل وأنها منقسمة بواسطة خط الاستواء إلى قسم شمالي وقسم جنوبي، يقول «روم لاندو» في كتابه «آثار المغرب في الحضارة»: «إن المسلمين قدموا الكثير من الفتوحات في العلوم ومع ذلك فإن معظم الأمريكيين والأوروبيين لم يعودوا يتذكرون أي مستودع أخذ منه العالم المسيحي الأدوات التي لا يسع الحضارة الغربية أن تصل إلى مستواها إلا بها». وكذلك لا يذكر الإدريسي اليوم، فقد طواه النسيان فيمن طوى من علماء هذا القطر، وإن أنصفه بعض المستشرقين فلا تخلو كتاباتهم عنه من تحامل، حتى إن بعضهم نسب مؤلف «نزهة المشتاق» للحاكم روجر وهو باكورة جهود الإدريسي التي امتدت على مدار خمس عشرة سنة بتمامها وكمالها . ولد الإدريسي بسبتة عام 493ه وبها طلب العلم صغيرا ويافعا واسمه الكامل محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس، تلقب بالشريف لاتصال نسبه بالصحابي علي بن أبي طالب وأطلقوا عليه الإدريسي نسبة إلى جده إدريس الأكبر، وهناك من سماه بالصقلي لطول مكوثه بصقلية، يقول عبد الله كنون: «يرتقي في طرفه الأعلى إلى إدريس بن عبد الله مؤسس الدولة الإدريسية بالمغرب، وفي طرفه الأدنى إلى علي بن حمود منشئ الدولة الحمودية «فهو على ذلك سليل الخلائف ولعل هذا ما أتاح له أن يبدأ رحلاته في سن مبكرة، فقد كان موسرا لا يشتكي فاقة، ومن عجب أن يهمل جمهور المؤرخين ذكره على عظم ما قدم من جهود في خدمة العلم والمعرفة، وإن كان للمتقدمين منهم عذرهم بسبب صعوبة الاتصال في تلك العهود وبسبب انقطاع الإدريسي فترة غير هينة عن معاصريه بعد التحاقه بروجر فلا عذر للمتأخرين، بيد أن الذين تحاموا التنويه بجهود الإدريسي من بين هؤلاء قد تكون لهم أسباب أخرى من ضمنها نقمته على المشارقة بعد عودته من المشرق، وقد ساح الإدريسي في الأرض متنقلا من بلاد إلى أخرى فانتقل إلى قرطبة ولبث بها زمنا لينهل من علومها يقول ابن تاويت: «و لا شك أن كانت رحلته إلى الأندلس في طلب المزيد من العلم ويظهر أنه أقام زمنا طويلا بقرطبة لأنه احتفل بوصفها أكثر من احتفاله بغيرها احتفالا خاصا في كتابه الجغرافي». ورحل إلى إنجلترا وفرنسا وآسيا الصغرى، فكان ذلك باعثا على اتساع مداركه ومدعاة للإطلاع على عادات أمم كثيرة وطرق عيش أقوام آخرين، يقول الإدريسي متحدثا عن كثرة أسفاره : ليت شعري أين قبري ضاع في الغربة عمري لم أدع للعين ما تشتاق في بر وبحر وفي موضع آخر : دعني أجل ما بدت لي سفينة أو مطية لا بد يقطع سيري أمنية أو منية وقد حطت به عصا الترحال في المشرق، ويبدو أنه كان يرجو أن يلقى من التكريم هناك ما يليق بمثله، فآلمه أن يهمله إخوانه المشارقة وألا يحتفوا بعلمه، ولم يكن هذا حاله لوحده فقصة الشاعر الغزال قبله خير شاهد على إعراض المشارقة عن كل ما يأتي من بلاد المغرب، وليس هذا الحكم على إطلاقه ولكن القاعدة لا تبنى على استثناء، عاد الإدريسي من المشرق ولم يجد فيه ما كان يؤمله ومما قاله بعد أوبته : إن عيبا على المشارق أن أرجع عنها إلى ذيول المغارب وعجيب يضيع فيها غريب بعدما جاء فكره بالغرائب لم يشفع للإدريسي أن جاء فكره بالغرائب فاختار صقلية موطنا على مضض ولعلها المقصودة هنا ب«ذيول المغارب» ألقت رحلة الإدريسي بظلالها على نفسيته فوجد شيئا في نفسه على العرب، ولا يبعد أن تكون تلك الرحلة المشؤومة سببا في نيله منهم في كثير من الأحايين وفي نيلهم منه قديما وحديثا . يقول في وصف طرابلس: «إلا أن العرب أضرت بها وبما حولها من ذلك، وأجلت أهلها وأخلت بواديها وغيرت أحوالها وأبادت أشجارها وغورت مياهها». ويقول في وصف قلعة حماد: «وإلى ها هنا تصل غارات العرب وضررها وهذه الأرض كلها تجولها العرب وتضر بأهلها.. وجميع هذه الحصون أهلها مع العرب في مهادنة وربما أضر بعضهم ببعض غير أن أيدي الأجناد فيها مقبوضة وأيدي العرب مطلقة الإضرار» إن تحامله على العرب هنا واضح بكل تأكيد وإن كان هو نفسه عربيا معروف النسب . ولعل هذا كان سببا رئيسا في نقد المشارقة لجهوده وتحاملهم عليه، يقول محمد عبد الغني حسن في كتابه عن الشريف : «وما لقي الشريف الإدريسي نقدا أشد ولا تقديرا أبخس من شخص شرقي مسلم مثلما لقي من الأمير يوسف كمال الذي كان له بعض المعاناة في الخرائط والمصورات العربية... فقد نفى نفيا باتا وجود أي تأثير مزعوم لنص البكري ولخارطات الشريف الإدريسي على أوروبا في العصر الوسيط، بل ذهب في النفي خطوات أبعد من هذا فاعتبر أي زعم من هذا القبيل ضربا من الهذيان العلمي». ويقول ابن الأكفاني صاحب «إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد» «وكتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، فيه مخالفة لقسمة الأقاليم فإن مؤلفه، وإن كان عارفا بالمسالك والممالك لجوبه الآفاق فإنه عري من علم هيئة الأفلاك». برع الشريف الإدريسي في الطب والرياضيات وعلوم النباتات والشعر وانتهى إليه علم الجغرافيا فعد مقررا لأصوله وبلغ فيه شأنا لم يبلغه أحد من سابقيه. أما شعره فيقول عنه النقادة الصفدي: «شعر جيد» وناهيك بالصفدي في التمييز بين حسن الشعر وسقيمه، وأما نثره فمنسوب إلى الطبقة العليا، ومن نثره قوله في مقدمة نزهة المشتاق: «الحمد لله ذي العظمة والسلطان والطول والامتنان والفضل والإنعام، والآلاء الجسام، الذي قدر فحكم ورأف فأنعم وقضى فأبرم». وله باع في التأليف، إذ خلف «الجامع لصفات أشتات النبات» وله كتاب في الأدوية المفردة، كما ألف كتاب «روض الأنس ونزهة النفس» لغاليوم حاكم صقلية، وأما أعظم مؤلفاته على الإطلاق فهو كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» ويطلق عليه أيضا «الكتاب الروجاري» قضى في تأليفه خمسة عشر عاما، وكان تأليفه بطلب من ملك صقلية «روجر الثاني»، ولا بأس أن نسلط قليلا من الضوء على علاقة روجر هذا بالإدريسي، إذ إن روجر قد هيأ من أسباب البحث العلمي والدعم المادي والمعرفي للإدريسي ما لم يتهيأ له في سائر الأمصار التي أمها، كان روجر الثاني محبا للعلم مكرما للعلماء، وحين قدم عليه الإدريسي رغبه في الالتحاق ببلاطه وكان مما قال له : «أنت من بيت الخلافة ومتى كنت بين المسلمين عمل ملوكهم على قتلك». وأنزله منزلة كريمة يقول الصفدي: «ورتب له كفاية لا تكون إلا للملوك وكان يجيء عنده راكبا بغلة، فإذا صار عنده تنحى له عن مجلسه فيأبى فيجلسان معا». ويصف الإدريسي روجار بأنه خير من ملك الروم بسطا وقبضا وصرف الأمور على إرادته إبراما ونقضا ودان في ملته بدين العدل، واشتمل عليهم بكنف التطول والفضل. بعد تغلب النورمانديين على المسلمين في صقلية لم يكن حظ هؤلاء كحظ إخوانهم من محاكم التفتيش بإسبانيا فظلوا على دينهم، حتى إن النورمانديين منعوهم من تغيير دينهم، وأخذوا من عاداتهم وتقاليدهم الشيء الكثير، فتجد روجر يلبس زي المسلمين ويحرص على أن يكون بلاطه مشابها لبلاطات سائر حكام المسلمين، أتقن اللغة العربية قراءة وكتابة، وسك نقودا كتبت عليها عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» يقول المؤرخ «كروثر بوردون «وإذا رأى عبقرية العرب العظيمة أبى أن يقتل روح هذه العظمة فمنح المسلمين الحرية التامة في ممارسة شعائر دينهم». ثم إن روجر أحب أن يخلد اسمه في التاريخ جريا على عادة ملوك المسلمين فوجد ضالته في الإدريسي، ومن ثم انطلق مشروعهما المشترك، وأما الإدريسي فقد نبذه إخوانه في المشرق ولم يكن المغرب بالنسبة إليه مكانا مناسبا للعطاء العلمي، إذ عرفت تلك الفترة اضطرابات كثيرة أودت بخيرة نوابغ المغرب، حيث قتل عياض والشاعر ابن عطية وأخوه الكاتب البليغ أبو عقيل وغيرهم فآثر الابتعاد عن وطنه ولم يجد أفضل من عرض روجر. وضع روجر تحت إشراف الإدريسي زمرة من الرسامين والأعوان فبعثهم في الأقطار لجمع المعلومات، وفي ذلك يقول الشريف: «أحب أن يعرف كيفيات بلاده حقيقة وأن يقتلها يقينا وخبرة، مع معرفة غيرها من البلاد والأقطار في الأقاليم السبعة فطلب ما في الكتب المؤلفة في هذا الفن من علم ذلك كله، مثل كتاب العجائب للمسعودي وكتاب أبي القاسم عبد الله ابن خرداذبه وكتاب أبي نصر سعيد الجيهاني... وكتاب بطليموس الأقلودي وكتاب أريسوس الأنطاكي .. فلم يجد فيها مشروحا مستوعبا مفصلا بل وجده مغفلا»، كل كتب الأولين لم تشبع نهمة روجر، فأخذ الإدريسي يدون إفادات مبعوثيه ويقارن بينها ولا يثبت منها إلا ما كان متفقا عليه وجمع في كتابه فضلا عن وصف تضاريس تلك البلدان وأنهارها، أنواع مزروعاتها وغلاتها، وأجناس بنائها والتجارات التي تجلب إليها.. مع ذكر أحوال أهلها وهيئاتهم وخلقهم ومذاهبهم وزينتهم. وكان أن أمر الملك لما اكتملت المعطيات حول الأقاليم المعروفة في ذلك الزمن أن تفرغ له دائرة من الفضة الخالصة زنة 400 رطل وأن تنقش فيها صور الأقاليم السبعة ببلادها وأقطارها. قسم الإدريسي كل إقليم إلى عشرة أقسام متساوية من جهة الغرب إلى جهة الشرق ثم جعل لكل قسم من الأقسام السبعة خريطة خاصة به ورسم خط الاستواء ووضع خطوط العرض، وأشار إلى أن خط الاستواء يقسم الأرض إلى قسمين شمالي وجنوبي، ثم لما فرغ من كرته العجيبة التي ضاعت للأسف في بعض الثورات التي عرفتها جزيرة صقلية تفرغ كلية لكتاب النزهة . فأزرى كتابه بكتابات سابقيه، وضمنه خرائط شبيهة بالخرائط الحالية وأبان عن علو كعبه في التصوير ورسم الخرائط، يقول ريسلر: «ومصورات الإدريسي التي تعترف بكروية الأرض كانت تتويجا لعلم المصورات الجغرافية في العصر الوسيط بوفرتها وصحتها واتساعها». ويقول جوتيه : « إنه لم يكن لأوروبا مصور جغرافي للعالم إلا ما رسمه الإدريسي وهو خلاصة علوم العرب في هذا الفن ولم يقع الإدريسي في الأغلاط التي وقع فيها بطليموس». ولا عجب أن يكون «النزهة» أعظم مصنفات العصور الوسطى في الجغرافيا، وأن يكون دليلا لمعرفة أجزاء من المعمورة على حد تعبير البارون دي سلان قرونا عديدة بعد وفاة الإدريسي وأن تستفيد منه النهضة الأوروبية أيما استفادة، إن النزهة يقدم معطيات أفاد منها كولومب نفسه في رحلته نحو بحر الظلمات وقد ترجمت إلى اللاتينية والإسبانية والألمانية والروسية والفرنسية لاحقا. وذكر فيها الإدريسي رحلة مجموعة من عرب لشبونة نحو بحر الظلمات وهم من سماهم بالمغررين، لكن رحلة المغررين وإن لم تعد بشيء يذكر فقد لفتت انتباه العالم إلى تلك الأرض المجهولة خلف ذلك البحر، ولم يكن حظ المغررين من رحلتهم العظيمة تلك أفضل من حظ عباس بن فرناس الذي وهب حياته في سبيل تحقيق أمل البشرية في الطيران فنسب الفضل للأخوين رايت وأسدل ستار الإهمال على عباس . كان لكتاب «النزهة» أثر الحجر في البركة الراكدة، إذ خلخل المعتقد السائد بانبساط الأرض وأسس لعلوم جغرافية لم تكن معهودة في عصره كالجغرافية البشرية والجغرافية التجارية، وحسب الإدريسي أن يقدم للبشرية كتابا ككتاب النزهة فلو حاكمناه إلى المستوى الذي بلغته الجغرافية في عصره لأحنينا رؤوسنا إجلالا وإكبارا لقدره ومن الجور أن ننتقد «النزهة» على ضوء ما وصلت إليه العلوم بعد وفاته بقرون فليس ذلك من الإنصاف في شيء. بعد وفاة روجر لبث الإدريسي إلى جوار ابنه غاليوم ردحا من الزمن ألف فيه «روض الأنس ونزهة النفس» بيد أن الحنين شده إلى موطنه فيمم شطر سبتة بعيد وفاة صاحبه بقليل، وبسبتة أسلم الروح لباريها عام 560ه وكما غيبه الثرى ميتا وغيبته الغربة حيا، غيب التاريخ ذكره وأهمل المؤرخون سيرته فلم يصلنا عن حياته غير النزر اليسير، مما دون معظمه المستشرقون، لكن يكفيه فخرا أنه مقرر أصول الجغرافية على الحقيقة وأنه وهب حياته لخدمة العلم فتلك بطاقة هويته وذاك جواز عبوره إلى ضفة العظماء.