مسلحات بمكانسهن، يجبن شوارع أصيلة ودروبها ليزدنها رونقا وجمالا، كاسرات احتكار الرجال للمهنة، بل إنهن، في أصيلة تحديدا، أكثر عددا من الرجال، لتصير «عاملات النظافة» في هذه المدينة الساحلية الصغيرة إحدى خصوصيتها. غير أن عاملات النظافة في هذه المدينة لا يتمتعن جميعُهنّ بالامتياز ذاته الذي تتمتع به الشقيقتان أمينة وفاطمة، هاتان السيدتان اللتان أضحيتا بمثابة «عميدتين» لباقي المنظفات وحتى المنظفين، واللتان حصلتا على وظيفة ثابتة نتيجة تفانيهما في العمل. منظفتا أصيلة لن يغفل زائر أصيلة عن الشقيقتين اللتين تصرّان على العمل في مجموعة واحدة، وإلى جانب الوزرة الزرقاء السماوية الخاصة بعمال النظافة، تميزان نفسيهما باعتمار «الشاشية الجبلية»، التي تقيهما حرَّ صيف أصيلة، وفي أجواء يقل فيها الكلام ويكثر فيها الصبر والتفاني، تشرعان في كنس وتنظيف أكثر أماكن المدينة جلبا للزائرين، الذين لا يستطيعون منعَ أنفسهم من إبداء الإعجاب بالسيدتين ومجاملتهما بكلام منمق يمزج بين الإعجاب والأسى على الظروف التي اضطرتهما إلى السعي وراء هذه «الوظيفة». تصر أمينة، الشقيقة الكبرى، على الرد بابتسامة شكر وعبارات تواضع على كل من يبدي إعجابه بعملها، ولعل هذا الإعجاب كان ليزيد لو علم الناس أن هذه السيدة تعيل ابنها منذ سنوات بفضل هذه الوظيفة بعد وفاة والده، فهاته الأرملة، التي يقارب عمرها الستين، مضطرة إلى حمل مكنستها والقيام بحملات النظافة لأربع ساعات صبحا وأربع أخرى مساء. وغير بعيدٍ عنها، تنهمك شقيقتها الصغرى، فاطمة، في كنس ساحة عبد الله كنون، حيث يوجد برج «القمرة» التاريخي، وخلفها لا تخفى علامات الدهشة على أولئك الأجانب المتكئين على كراسي المقهى المجاورة وهم يحتسون كؤوس الشاي ويمعنون النظر في «سيدة التنظيف الأولى في أصيلة»، ثم ليطلقوا تعليقات إعجاب ب«نجمتَي» المكان، وكأنهم يتابعون شريطا وثائقيا ممتعا. لا تتوانى فاطمة، التي غزت التجاعيد وجهها لتجعلها تبدو أكبر من شقيقتها الكبرى، عن اقتطاع ثوان من وقتها لترد التحية على المارة بأحسنَ منها، ثم تعود إلى عملها المرهق بتفانٍ واضح.. وبإتقان سيدة البيت، تصر على تنظيف كل زاوية وأي مكان، حتى ولو كان خرما صغيرا هنا أو هناك.. لكنها عندما تقترب من الباعة المتجولين أو من مرتادي المقهى، تبدي حذرا من أن تزعجهم بكنسها، فهي تريد أن تنال رضى الجميع، كما تقول. من يصدق أن هذه السيدة، التي تقول إنها في الأربعين من العمر، حاصلة على شهادة الباكالوريا في نسختها القديمة، لكنّ ظروف الحياة الصعبة لا تترك للمرء مجالا للاختيار، حسب فحوى كلامها، «لكنْ، الحمد لله، نحن أحسنُ حالا من كثيرين»، تردد فاطمة. مهنة الصابرات أضحى سكان أصيلة معتادين على مَشاهد عاملات النظافة، اللواتي صرن يُقْدمن، شيئا فشيئا، على كسر الحاجز الذكوري على «وظيفة» لطالما وُصِفت بأنها «عمل الأشقياء»، وهذه الجرأة كما تشير الشقيقتان، ليست رغبة في كسر «طابو» أو اختراق مجال رجالي، لكنها نتيجة صراع مرير مع قسوة ظروف الحياة في مدينة تندر فيها فرص الشغل بالنسبة إلى النساء، بقدْر ما تندر الأزبال بين دروبها. لكن تطبيع السكان مع عاملات النظافة لم يكن بالأمر السهل، وهذا ما تقرّ به الشققتان المنظفتان، إذ تقول فاطمة إن البعض كانوا، في البداية، يتعمدون مضايقتهن بكلام جارح، أو ينظرون إليهن نظرات قاسية، تمزج بين الريبة والاتهام والاحتقار، لترد عليها أمينة: «إن الظروف التي دفعتها إلى امتهان هذا العمل هي ما يجبرنا على التحمل.. لقد صرنا، نحن عاملات النظافة، خبيرات في معرفة طبائع الناس، فهناك من يتعاطفون معنا، وهناك من ينتظرون منا أصغر هفوة ليسمعونا كلاما جارحا.. إنها مهنة الصبر.. تحتاج الكثير جدا من الصبر، ونحن لا نملك إلا هذا الصبر»، تقول أمينة. على وقع الأمل أخيرا، تحقّقَ حلم أمينة البسيط وتم ترسيمها، رفقة شقيقتها، في وظيفتها، وهو الأمر الذي سعت إليه الشقيقتان لسنوات. وعلى هذا الأمر تعلق أمينة: «السي بنعيسى، شاف الخدمة دْيالْنا وعْجْباتو بْزّاف وْوصَّى الناس دْيال البلدية يْخْدّمونا طول العام».. فسابقا كان عمل أمينة وفاطمة موسميا، تتشاركانه مع عشرات النساء وبعض الرجال». أما السعادة الكبرى فتُبديها أمينة بخصوص رفع راتبها إلى 1700 درهم: «كنا سابقا نتقاضى 30 درهما في اليوم، مقابل 8 ساعات من العمل، لكن مْلّي جَاتْ الحُكومة الجّديدة زَادونا، وتقاطعها شقيقتها فاطمة معلقة: «ولكنْ، راه مازال ما شفنا والو، الناس ديال الإنعاش الوطني خصهوم التّرسيم، ويْخدمو بوراقهوم».. فأمينة وفاطمة تحملان همَّ العشرات من العاملين والعاملات في إطار نظام «الإنعاش الوطني»، الذي يحذوهم أمل أن يتحول عملهم من عمل موسمي إلى عمل قارّ، فالنظام المُعتمَد حاليا لا يتيح لأغلب العاملين البقاء في وظيفتهم لأكثر من شهر واحد، يكون عليهم بعدَه إخلاء المكان لشخص آخر وانتظار مرور شهر، على الأقل، قبل العودة إلى وظيفتهم. وإلى أن يتحقق هذا الطموح، تفخر الشقيقتان بإنجازاتهما في مجال عملهما المضني، وتفتخران بأن رئيس المجلس البلدي لأصيلة، شخصيا، قد أعجب بجهودهما ومنحهما جائزة على ذلك، وتبديان إصرارا على الظفر بمكافأة تخصصها البلدية لعمال وعاملات النظافة عقب انتهاء موسم أصيلة الثقافي.. عمل للمسنين لعل من أبرز الملاحظات التي لا يغفلها زائر مدينة أصيلة أن أغلب العاملين والعاملات في إطار وظائف الإنعاش الوطني يتجاوزون عقدهم الخامس.. هؤلاء لم يجدوا بدّاً من أن يقبلوا، وهم في سن توصف بأنها «أرذل العمر»، أن يعملوا كمنظفين أو بستانيين، وهي وظائف يرفض الشباب أن يقبلوا بها، حتى لو كان «خنجر» البطالة «مغروسا» في ظهورهم. غير أن أمينة، المنظفة الستينية، لا ترى الأمر من هذه الزاوية مطلقا، فبالنسبة إليها مجرد حصولها على عمل في مدينة أصيلة أمر يدعوها إلى الفرح، وهي المُطلَّقة التي لا تملك مصدرا آخر للدخل، أما الحديث عن قدراتها الصحية وعملها المضني تحت لهيب الشمس وزخات المطر فلا تملك له الأرملة، التي لا تفارق الابتسامة وجهها، سوى وصفة سحرية تمزج بين الصبر والتعود والأمل، قائلة إن أغلب الذين يشتغلون في وظائف الإنعاش الوطني أجبرتهم الظروف على ذلك، قبل أن تسترجع هذه السيدة، التي حفرت السنين أخاديد الشقاء على وجهها، حكم الأجداد، فتردد: «العمل الحلال ليس عيبا، وظروف الحياة لا ترحم أحدا، ونحن ملزمون بالصبر للتغلب على هذه الظروف».