عمر كوش يثير الجدال حول علاقة الدين بالديمقراطية العديد من التساؤلات والإشكاليات، خصوصاً في هذه المرحلة، التي تشهد تحولات وتغيرات عاصفة في البلدان العربية، أفضت إلى بروز قوى وأحزاب سياسية إسلامية في كل من تونس ومصر والمغرب وليبيا، ووصولها إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع. ويمتد الجدل ليطال العلاقة بين المجال الديني والمجال السياسي في عصرنا الراهن، حيث تشكل الديمقراطية استحقاقاً مباشراً وكبيراً في البلدان العربية، يقتضي إعادة تعريف دور الدين ووظيفته الاجتماعية والثقافية والسياسية، والاستناد إلى مقتضيات عملية التطور التاريخي لمكونات المنظومة العقائدية، التي تمسّ جملة من المفاهيم الأساسية، المتعلقة بالعلاقة مع الآخر والتعددية والتسامح والحريات وسواها. ولا شك في أن الانتقال نحو النظام الديمقراطي يستلزم عملية إعادة إنتاج للمفاهيم الدينية وفق أقلمات جديدة، خصوصاً أننا نشهد تحولاً كبيراً في العلاقات ما بين الديني والسياسي على المستوى العالمي، الأمر الذي يتطلب تحليلاً واسعاً للعلاقة ما بين الشأنين، استناداً إلى تاريخ الأفكار أو تاريخ الأديان، وربطهما بتاريخ الممارسات والسلوكيات الاجتماعية، وبالصراع بين مبادرات السلطات السياسية ومبادرات السلطات الدينية، وما عرفه المجالان الديني والسياسي من ترابط، كانت فيه القوى والموازين متقلبة في عهود عديدة غابرة. حدث الانفصال السياسي عن الإطار الديني في الغرب منذ عصر النهضة، وذلك بالاستناد إلى ظهور مدى دنيوي سمح باستقلال المجال السياسي، ونهض على أساس التمييز بين عالم الدنيا وعالم الآخرة خارج نطاق الدين، حسبما يرى مارسيل غوشيه. وعليه، فإن الإطار السياسي في الغرب تركز خارج حدود الإطار الديني عندما اضطر رجال الكنيسة إلى إعادة النظر بمواقعهم بالنسبة إلى اللعبة السياسية. وانتهى الأمر إلى نهوض الكنيسة تدريجاً بدور وظيفي، ونشوء بنية تراتبية في المجتمع الكنسي، يقودها ويحكمها أباطرة ومطارنة، وذلك قبل أن تتشكل الدول الأوروبية الحديثة، التي أخذت بالتوجه الدنيوي والعلماني، ثم تكوّن من الحداثة المجال الخاص لكل من البناء السياسي والبناء الديني، وبشكل فرض استقلالية كل منهما عن الآخر، وانقسمت السلطة إلى سلطة دنيوية وروحية. غير أن فصل الكنيسة عن الدولة، أو فصل الدين عن السياسة، قدم دافعاً لتعظيم السياسة، فيما أججت المواجهة مع فريق الانصياع إلى المقدس معركة الحرية، وأدّت إلى فهم مُتسام للنظام الذي يمكن البشر أنفسهم من وضع قوانينهم الخاصة بهم. إن هذا التغير في السيادة الذي تمتد جذوره إلى الماضي السحيق، هو الذي كوّن - بلا شك - الأصالة الأساسية لبلد مثل فرنسا على المدى البعيد، لأن هذا التغير هو الذي جعل منه المختبر الأساسي للابتكار الديمقراطي. وعليه، يُرجع غوشيه ظهورَ العلمنة في فرنسا إلى زمن بعيد جداً، معتبراً أنه لا يمكن فهم مسيرتها ورهاناتها وأشكالها فهماً واقعياً إلا عندما نعيد إليها عمقها التاريخي، حيث ارتبط تاريخ العلمنة ارتباطاً حميماً بتاريخ الدولة، بوصفها أحد المحركين الرئيسيين لمسار الخروج من الدين. مع أن مسألة الخروج من الدين لا تعني التخلي عن المعتقد الديني، وإنما الخروج من عالم يكون فيه الدين ذاته منظماً بنيوياً، يوجه الشكل السياسي للمجتمعات، ويعين البنية الاقتصادية للرباط الاجتماعي. وقد ثبت أنه لا يمكن تحييد الدين عن السياسة بقرار فوقي، مثلما حاول بعض الحكام العرب الديكتاتوريين فعله، لأن الأمر مرتبط بوعي الناس وبالتاريخ. وما يدفع مسألة العلمنة في البلدان العربية والإسلامية إلى مركز الصدارة، هو الصدام بين الإضعاف المتواصل للعامل الديني وبين موجة اجتماعية – تاريخية ذات توجه معاكس، تتمثل في الفوران الأصولي والسياسي الذي يجري في البلدان الإسلامية منذ الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم. مع أن العودة إلى العامل الديني تشبه أي شيء آخر غير العودة إلى الدين، كونها تنتج عن تكثيف الإيمان بالظروف المعاصرة للحياة الاجتماعية والفردية. ويفسر محمد أركون نقص العلمنة في المجتمعات الإسلامية بجملة من الأسباب المنسية والمهملة، ويسوق أسباباً اقتصادية واجتماعية، مثل غياب انتشار القوى المنتجة، حيث يعتبر أن الغرب كان قد طور نوعاً من أنواع العلمنة وشكلاً من أشكال العلمانية، بفضل حدوث تقدم مستمر وانتشار ثابت للقوى المنتجة ولقوى العمل والثروات المادية، منذ القرن السادس عشر حتى عصرنا الحالي، ومثل هذه الأمور لم تتبلور حتى اليوم. وهي ظاهرة محتملة ومرتبطة بالحيثيات التاريخية الخاصة، وليست ظاهرة ملازمة للدين أو لتعاليم الإسلام، وبالتالي، فإن إحدى المآسي الكبرى التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، تتمثل في الخلط بين الحقيقة الاجتماعية وبين الحقيقة الخاصة بالرسالة الدينية. وعليه، يبدو أن التحدي الهام، المطروح أمام الفكر والممارسة الإسلاميين، يكمن في خوض المعركة تجاه الذات أولاً وأساساً، من خلال الكف عن معاكسة اتجاه التاريخ، وتبنّي روح التغير الديمقراطي والانفتاح على عالم اليوم، والتكيف مع المستجدات المتسارعة، بعيداً من فكرة الصراع التدميري بين الأفكار التي تروق للكثيرين ممن يريدون صرف الانتباه عن الاتجاه الفعلي لحركة الواقع ومعطياته؛ بحيث إن كل خطوة تفاعلية مع الحياة، كما مع الآخرين، من شأنها تجاوز خطوتين من الجهل بكل منهما. وتتعدد وجهات النظر حول العلاقة ما بين الديني والسياسي في بلداننا العربية، فهناك من يقول بالتفريق بين عالم الدين وعالم السياسة، ويطالب بعدم تدخل الدين في السياسة وفي الشأن العام. وعلى التضاد معهم، هناك من يجمع بينهما، ويصل الدين بالسياسة. وقد أخد معظم الحكام في البلدان العربية والإسلامية بمقولة دخول الدين في السياسة، وجعلوا الدين تابعاً لسياساتهم التسلطية. بالمقابل، هناك من يعتبر الإسلام ديناً ودولة، فيما يأخذ طه عبد الرحمن مكاناً وسطاً، لا يفصل بين الدين والسياسة، فصل الدعوى العلمانية، لكنه في الوقت نفسه، لا يصل بينهما، إنما يقول بالوحدة الأصلية بينهما. وخلافاً للرأي القائل إن الإسلام دين ودولة في آن معاً، يعتبر سامي زبيدة أن الشريعة في بداية انطلاقتها، لم تكن صنيع مشرّعي الدولة والحكام، وإنما نتاج أفراد أتقياء مستقلين، غالبيتهم من التجار والحرفيين، الذين التمسوا العيش وفقاً لأحكام الله، بعيداً عن الحكام وبطانتهم الآثمة والفاسدة. وتظهر المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في وجوه متعددة، فعامة الناس الذي يدخلون ضمن تيار الإسلام الاجتماعي، يلتمسون من أحكام الشريعة عدالةً تقيهم من الأنظمة المستبدة والفاسدة، ومناصرو ومحازبو حركات الإسلام السياسي يتطلعون إلى إقامة سلطتهم من خلال فرض الشريعة، ورجال الدين، خاصة المحافظين، يبتغون المزايا البطريركية من أحكامها، فيما يعتبرها القوميون معلماً للأصالة والهوية. وهي في واقع الأمر، مشروع أيديولوجي له تجليات شديدة التغيُّر. وتحذر أصوات كثيرة، في أيامنا هذه، من استبدال استبداد العسكر وديكتاتورياتهم باستبداد إسلامي وديكتاتورية أصولية، حيث تتردد هذه التحذيرات، ووجدت مؤخراً صداها في روسيا، مستندة في ذلك إلى التحولات التي أفضت إليها الثورات العربية. وتجد هذه الأصوات حجتها في ماضي حركات الإسلام السياسي، وما عرف عنها من عدم احترامها وإقرارها للديموقراطية، ومواقفها من حقوق الأقليّات الدينية والطائفية وحقوق المرأة، لكنها تخلط ما بين الماضي في ظل الديكتاتورية وبين حاضر الثورات العربية، إلى جانب خلطها بين خصوصيات وظروف كل بلد من بلدان الثورات العربية وسواها، نظراً لتعميمها الشديد الذي يساوي بين إخوان مصر وإخوان سوريا وحركة النهضة التونسية وسواها من حركات الإسلام السياسي، بالرغم من أن واقع الحال يكشف اختلافات عديدة بينهم. وفي حالتي تونس ومصر، احترمت حركة النهضة صندوق الانتخاب، وأقامت تحالفات مع قوى علمانية، حيث ساهمت في إيصال المنصف المرزوقي العلماني إلى الرئاسة المؤقتة لتونس. أما في سوريا، فقد أصدر قادة الإخوان المسلمين مؤخراً وثيقة وعهداً وميثاقاً وطنياً، أكدوا فيها على تطلعهم إلى دولة مدنية تعددية، والتزامهم بإشادة دولة مواطنة يتساوى فيها الجميع بالحقوق والأهلية، وبما يضمن حق أي مواطن، بالوصول إلى رئاسة الجمهورية. وهو أمر يعطي الكثير عن مدى اقتراب هذه الجماعة من أي حزب ليبرالي، وامتلاك قياداتها أفقاً ديمقراطياً، مدنياً ومتسامحاً.