يعرف الشِّعر تَوَسُّعاً في عدد الذين يكتبونه. الدّواوينُ الصًّادرةُ، في الآونة الأخيرة، ضمنها أسماء لشُبّان ينشرون أوَّل أعمالهم.. أتاحتْ لي قراءتي لها أن أقترب من الفهم الذي يصدر عنه هؤلاء، ليس للشعر فقط، بل وللكتابة إجمالاً: -الاكتفاء باللغة، باعتبارها هي ما يُتيح للشعر أن ينبثق، في ما يمكن أن تُحَقّقه المفردات من علائق بينها، يكون التنافُر أو التّبْعِيد هو لُحْمتُها والأساس في بنائها. لم يعد هذا من خصوصيات الشِّعر وحده، فالرواية اليوم والقصة والمسرح وحتى بعض الكتابات الفلسفية أو الفكرية، نأتْ بنفسها عن اللغة العلمية الصِّرْفة، وأصبحت كتابةَ تبْعِيدٍ، تحتفي بمجازات اللغة وباختراقاتها التعبيرية. -السرد كخيار أسلوبي في صياغة الجُمَل والتراكيب، وهو ما أصبح من المشتركات التي تضاعِف الالتباس بين الشِّعر وغيره من الكتابات التي يَصْعُب تجنيسُها أو وضعُها في سياق جنس أو نوع كتابيّ دون آخر. -خيار «النثر»، أو ما يُسَمَّى في العُرف العام، «قصيدة النثر»، إلى درجة أنَّ هذا الخيار أصبح هو دَالّ الكتابة «الشعرية» الراهنة. حين نعود إلى ما سَمَّاه أدونيس، في مختاراته النثرية الأخيرة، «ديوان النثر العربي»، تلتبس علينا الأمور أكثر وتصير معادلة لغة النثر ولغة الشِّعر، في سياقاتها النوعية أو معياريتها بالأحرى، وفي خياراتها الجمالية، في حاجة إلى المراجعة. ما يجعل من النظر في المفاهيم هو أحد ضرورات المراجعة النقدية، وهي المراجعة التي ينبغي في ضوئها إعادة قراءة الشِّعر العربي الراهن، و ما قد نقترحُه من تسمياتٍ جديدة ومغايرة. -التداعي اللغوي أو الصياغة التعبيرية، في الصورة والجملة، هي نفسُها، مع بعض التعديلات أو المراوغات الطفيفة أو قلب التسميات أو الدَّوالّ. وهذه من السّمات التي لا تخُصُّ هؤلاء الشبان القادمين إلى الكتابة، بل إنها من السمات التي توجد عند كثيرين ممن يكتبون اليوم بدعوى أنهم شعراء تَمَلّكُوا زمام الشِّعر وأصبحوا مؤهلين ليس لكتابة الشعر وفق تصوّرٍ ما، بل وللحُكْم على الشِّعر وللنظر فيه. وأود، هنا، أن أعود إلى مسألة الكتابة بالتبعية، وهي تلك الكتابة التي تبقى أسيرةَ مفاهيم وتصوُّرات لا تخرج عن سياق العناصر التي أشرتُ إليها، وهي من الثوابت التي أصبحت تُعطّل الشِّعر وتحصُره في «قصيدةٍ» من نوع جديد أو نوع من «عمود الشِّعر»، الذي لا تحتاج معه العين إلى كثرة تأمُّل.. فهي، بالنظر المجرَّد، تستطيع أن تُدْرِك َ «التّمَحُّل» الموجود فيها. ليس الشِّعر، اليوم، ما نكتبه بالعادة أو بالتبعية، الشِّعر هو ما نذهب إليه بمعرفةٍ شعرية، تُعيد تنسيب الأشياء وتعيد تسميتها، كما أن هذه المعرفة تتأسَّسُ على خوض مُعترك الشعريات القديمة وشعريات «النصوص الأولى»، التي كانت أول مواجهة للإنسان مع اللغة ومع مجازاتها، وهي كتابات كلما اقتربنا منها، وجدنا أنفسَنا أمام سؤال الشعرية الراهنة، التي تكتفي بالتبعيد وبالسرد وبالنثرية، وهي كلها من مميزات هذه النصوص الأولى أو البَدْئِيّة. هل نحن، بهذا المعنى، مجدِّدُون أم إننا لم نخرج بعدُ من تبعية نصوصٍ ما تزال تستعيدُ نفسها في سلوكنا الاستعاديّ؟ مجرد سؤال كغيره من الأسئلة التي أطرحُها عادةً، دون انتظار جواب.