ماذا تفعل لو تعاملت مع شخص فوجدته كاذبا، كلما وعد لا ينفذ وعده وكلما قال شيئا تبين أن الحقيقة عكس ما يقوله.. النتيجة الطبيعية أن تفقد الثقة تماما في هذا الشخص الكاذب؛ ولكن إذا كان هذا الكاذب يرتدي الجلباب الأبيض ويطلق لحيته وعلامة الصلاة ظاهرة على جبينه ويقدم نفسه على أنه داعية إسلامي يسعى إلى إقامة شرع الله.. عندئذ سيتعقد الأمر. المفترض في هذه الحالة أن تكون جريمة المتحدث باسم الدين مضاعفة.. مرة لأنه كذب ومرة لأنه أعطى نموذجا سيئا للمسلم. على أن ما يحدث في مصر عكس ذلك، فالمتحدثون باسم الإسلام مهما كذبوا وخانوا العهود ومهما تورطوا في فضائح سيجدون دائما أناسا يدافعون عنهم ويلتمسون لهم الأعذار. هؤلاء المدافعون ليسوا أغبياء ولا حمقى، إنما هم يعتبرون المتحدثين باسم الإسلام جزءا من الإسلام، وبالتالي فإن الحديث عن أخطائهم أو أكاذيبهم يعتبر هجوما على الإسلام لا يسمحون به أبدا.. الإخوان المسلمون خالفوا كل العهود.. تعهدوا بأن ينافسوا على ربع مقاعد مجلس الشعب ثم نافسوا على المقاعد جميعا؛ وأثناء الانتخابات ارتكبوا كل أنواع المخالفات الانتخابية، بدءا من شراء الأصوات إلى تشويه المنافسين لهم بالشائعات المغرضة والطعن على دينهم؛ وقد تعهدوا بأنهم سيكتبون الدستور بمشاركة كل القوى السياسية الأخرى ثم نقضوا عهدهم واستأثروا وحدهم بلجنة كتابة الدستور؛ وقد تعهدوا مرارا وتكرارا بأنهم لن يتقدموا بمرشح رئاسي، وكالعادة نقضوا عهدهم وتقدموا بمرشحهم خيرت الشاطر.. كثيرون من مشايخ السلفية، في فيديوهات مسجلة بالصوت والصورة، وقفوا ضد الثورة ودعوا المتظاهرين إلى العودة إلى منازلهم وحرَّموا الخروج على حسني مبارك، ومنهم من حرَّم الديمقراطية والانتخابات وتداول السلطة.. لكنهم انقلبوا جميعا بعد نجاح الثورة وغيروا آراءهم وأنشؤوا أحزابا وخاضوا الانتخابات.. هذا الانقلاب في الموقف بغير دليل شرعي مقنع يدل على أنهم كذبوا في أحد الموقفين، إما أنهم كذبوا عندما حرموا الديمقراطية وإما أنهم كذبوا عندما أباحوها من أجل الوصول إلى السلطة.. هذه الأخطاء الأخلاقية لو فعلتها أي جماعة سياسية أخرى لسقطت في نظر الناس إلى الأبد، على أن مسلمين كثيرين يعتبرون الإخوان والسلفيين يمثلون الدين، وبالتالي يجدون صعوبة في إدانتهم مهما ارتكبوا من أخطاء ومهما تورطوا في فضائح.. هذا التقديس الزائف للأفراد ليس من الإسلام في شيء بل هو في الواقع عكس ما يأمرنا به الإسلام الذي يؤكد أن كل إنسان مهما علا قدره يجب أن يحاسب على أخطائه.. لقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب (رضى الله عنهما) من كبار الصحابة ومن أقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تولى كلاهما منصب الخلافة، فكان الناس ينتقدونهما بشدة على الملأ، فيتقبل عمر وأبوبكر نقد الناس لهما بصدر رحب ويسعيان جاهدين إلى الدفاع عن قراراتهما ويسارعان إلى الاعتذار إذا ارتكبا أي خطأ.. لعل الفرق بين الثقافة التي تسمح بنقد خليفة رسول الله وتلك التي تحرم الخروج على الحاكم وتمنح القدسية للمشايخ وتحصنهم ضد النقد.. هو ذاته الفرق بين عصور النهضة وعصور الانحطاط في التاريخ الإسلامي. الفرق بين الفهم الصحيح للدين والفهم الخاطئ الذي يتمثل الدين في أشخاص فيكاد يعصمهم من الخطأ ويقدسهم. إن استغلال مشاعر البسطاء الدينية كان دائما سلاحا في يد الاستبداد، ففي عام 1882 عندما حشد أحمد عرابي الجيش المصري ليدافع عن مصر ضد الغزو البريطاني، أوعز الإنجليز إلى السلطان العثماني -باعتباره خليفة المسلمين- فأصدر فتوى دينية أكد فيها أن «عرابي» خارج عن تعاليم الإسلام؛ وللأسف أثرت هذه الفتوى في عامة المصريين وكانت من أسباب هزيمة الثورة العرابية.. وفي عام 1798 جاءت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت لاحتلال مصر.. كان «بونابرت» ملحدا، لكنه أراد أن يستغل مشاعر المصريين الدينية فأشاع أنه أسلم وارتدى الملابس الشرقية وكان يؤم المسجد يوم الجمعة، وقد ألقى فور وصوله إلى القاهرة بيانا عجيبا إلى المصريين بدأه بالبسملة والحوقلة ثم قال: «أيها المشايخ والأئمة قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم نزلوا في روما الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان يحث النصارى على محاربة المسلمين».. هكذا تم استغلال مشاعر البسطاء الدينية مرة بعد أخرى عبر تاريخنا لصالح السلطة المستبدة الظالمة.. إن الفهم الصحيح للدين لا يمنح قداسة لأشخاص مهما كانت مكانتهم ويرسى القيم الإنسانية العظيمة: الحرية والعدل والمساواة.. إن التاريخ يعلمنا أنه عندما يتم تقديس رجال الدين ورفعهم فوق مستوى البشر يتحول الدين فورا من طاقة إنسانية إيجابية تدفع المجتمعات إلى الحرية والتقدم إلى أداة رجعية تؤدي إلى استبداد السلطة باسم الدين. لعل ذلك ما انتبه إليه عمر سليمان، نائب المخلوع مبارك، عندما وضع خطته لإجهاض الثورة المصرية التي نفذها بعد ذلك المجلس العسكري بحذافيرها.. فقد تحالف عمر سليمان مبكرا مع الإخوان المسلمين لثقته في أنهم يستطيعون دائما استغلال مشاعر الناس الدينية وحشدهم لتحقيق أي هدف سياسي يروق لهم. في يوم 4 فبراير عام 2011، قبل تنحي مبارك، عقد عمر سليمان اجتماعا مع الإخوان المسلمين خرج بعده الدكتور الكتاتني (رئيس مجلس الشعب الآن) ليؤكد في التلفزيون أن كلام عمر سليمان موضوعي، وأن هناك مخططا لإحراق البلد يجب على الإخوان معاونة نائب مبارك في التصدي له، وأكد «الكتاتني» أنه اتفق مع نائب المخلوع على إلغاء الطوارئ والتشاور مع المتظاهرين لإخلاء الميدان وإجراء التعديلات الدستورية وانتخابات النقابات.. أي أن الإخوان لما اطمأنوا إلى تحقيق مصالحهم أيدوا عمر سليمان وتجاهلوا مطلب الثورة في دستور جديد وأبدوا استعدادهم لإقناع المتظاهرين بالانصراف من الميادين. الإخوان المسلمون من البداية وضعوا مصالحهم السياسية قبل أهداف الثورة. مرة أخرى، لو فعل ذلك أي سياسي مصري لتحول في نظر المصريين إلى خائن للثورة، لكن الإخوان وجدوا من يدافع عن صفقتهم لأنهم في نظر الكثيرين يمثلون الإسلام، فلا يجوز انتقادهم.. تنفيذا للصفقة عمل الإخوان والسلفيون لحساب المجلس العسكري وأقنعوا الناس بأن الموافقة على التعديلات الدستورية واجب شرعي على كل مسلم، وأكدوا أن رفض التعديلات الدستورية ليس سوى مؤامرة ضد الإسلام يقودها الأقباط وكارهو الدين من العلمانيين والشيوعيين.. هكذا تحول الاستفتاء إلى معركة دينية بين المؤمنين والكفار، وضاعت على مصر فرصة تاريخية لكتابة دستور جديد كان كفيلا بإقامة الدولة الديمقراطية على أسس صحيحة، لكن المجلس العسكري رفض الدستور الجديد لأنه كان سيؤدي إلى إسقاط نظام مبارك الذي استمات المجلس العسكري في الدفاع عنه.. لقد صار الإخوان والسلفيون بعد الثورة للأسف بمثابة الجناح السياسي للعسكر.. لقد وافق مصريون كثيرون على التعديلات الدستورية دون أن يعرفوا معناها بدليل أن المادة 28 التي تحصن قرارات اللجنة المشرفة على الانتخابات ضد الطعن، والتي ستستعمل حتما في تزوير الانتخابات الرئاسية، تلك المادة المشينة يعترض عليها الآن مصريون كثيرون بغير أن ينتبهوا إلى أنها كانت ضمن التعديلات الدستورية التي وافقوا عليها في الاستفتاء وهم يعتقدون أنهم يحمون الإسلام، كما أكد لهم المشايخ.. أذكر أنني ذهبت يوم الاستفتاء للإدلاء بصوتي، ولما كان الطابور طويلا فقد دخلت في حوار مع الرجل الواقف أمامي الذي سألني: - هل ستوافق على التعديلات؟! - سأرفضها لأننا يجب أن نكتب دستورا جديدا بعد الثورة. - أنا سوف أوافق على التعديلات. - لماذا؟ - لأن الشيخ محمد حسان دعانا جميعا إلى التصويت ب«نعم» على التعديلات. انزعجت وقلت له: - اسمح لي.. يجب أن تكوّن رأيك بنفسك. ابتسم الرجل وقال: - الشيخ حسان يفهم أحسن مني مائة مرة.. من أكون أنا حتى أخالف رأي الشيخ حسان؟! لا شك أن هناك آلاف المصريين يتصرفون بهذه الطريقة، فهم يلغون عقولهم تماما (على عكس ما يدعو إليه الإسلام) ويسلمون أنفسهم تماما إلى ما يقوله شيخهم المفضل، وهم يتعصبون لشيخهم تعصبا شديدا فيرفضون آراء كبار العلماء مثل الإمام محمد عبده والإمام الغزالي إذا خالفت آراء شيخهم، بل إنهم يهاجمون بشراسة كل من ينتقد شيخهم. جرب يا عزيزي القارئ أن تدخل على الأنترنيت وتوجه نقدا إلى آراء أحد مشايخ السلفية أو الإخوان، عندئذ سوف يعاجلك أتباع الشيخ بسيل من البذاءات والشتائم المقذعة. هؤلاء الشتامون مسلمون مخلصون وقد يكونون أشخاصا مهذبين في حياتهم اليومية، لكنهم ببساطة يعتبرونك عدوا للدين لأنك تجاسرت على انتقاد شيخهم الذي يمثل -في نظرهم- الدين، وبالتالي فهم يشتمونك دفاعا عن الدين.. الشيخ المحلاوي في الإسكندرية يؤكد دائما أثناء خطبة الجمعة أن الليبراليين واليساريين جميعا أعداء الدين، وعندما اعترض أحد المصلين على هذا الكلام طرده الشيخ من المسجد (الذي هو بيت الله) ثم أعلن الشيخ المحلاوي رأيه بوضوح: «من يكرهني إنما يكره الإسلام الذي أريد تطبيقه». هذا الفهم الخاطئ للدين الذي يؤدي إلى تقديس المشايخ كان العامل الحاسم في الصفقة بين الإخوان والعسكر.. وسواء كان الأمر يتعلق بتعديلات دستورية أو بمرشح رئاسي أو بأي شيء آخر، فإن الإخوان والسلفيين سيحيلون الموضوع فورا على تصويت ديني.. سيكون هناك رأى المشايخ الذى هو بالضرورة رأى الإسلام ورأى من يختلفون معهم، وهؤلاء جميعا أعداء الدين. هكذا يتحول النقاش السياسي إلى صراع ديني تحت قصف مُركّز من الأكاذيب والمغالطات فيضمن المجلس العسكري النتائج التي يريدها دون اللجوء إلى تزوير الصناديق كما كان يفعل مبارك.. على أن أحدا لا يستطيع أن يخدع الناس جميعا إلى الأبد.. إن تحالف المجلس العسكري مع الإخوان والسلفيين، الذين تخلوا بموجبه عن أهداف الثورة مقابل وصولهم إلى السلطة، يبدو الآن أوضح وأقبح من أي وقت مضى. لقد بدأ المصريون يدركون أن الإخوان والسلفيين لا يمثلون الإسلام وإنما يمثلون أنفسهم. إن الإسلام يدعونا إلى معرفة الرجال بالحق وليس الحق بالرجال.. إن الثورة المصرية بعد أن خانها من خان وتآمر عليها من تآمر، تعثرت وتعطلت، صحيح لكنها مازالت قوية وحية.. الثورة مستمرة وستنتصر بإذن الله لتقود مصر إلى المستقبل الذي تستحقه. الديمقراطية هي الحل.