يستخدم الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي أعمال القتل التي نفذها محمد مراح، من أصل جزائري، وأدت إلى سقوط سبعة قتلى، من بينهم أربعة يهود، لشن حملة شرسة ضد بعض أوساط الجالية الإسلامية في فرنسا، لكسب أصوات اليمين الفرنسي المتطرف وتحسين حظوظه في انتخابات الرئاسة الفرنسية في مواجهة خصمه اليساري فرانسوا هولاند. ساركوزي يتذرع بمحاربة الإسلام المتطرف من أجل كسب اليمين المتطرف، والتغطية على فشل أجهزة استخباراته في اعتقال محمد مراح، وهو الذي كان تحت مراقبتها ويملك سجلا حافلا من المخالفات القانونية، وزار باكستانوأفغانستان أكثر من مرة. لا نجادل في حق فرنسا في تأمين حياة مواطنيها وحفظ أرواحهم، ومحاربة التطرف، ولكن ما نجادل فيه هو التطرف الأعمى في محاربة التطرف الأعمى، والمقصود هنا التطرف الإسلامي وليس التطرف اليميني العنصري الفرنسي، الذي يزداد قوة وشراسة ويهدد أمن واستقرار أكثر من أربعة ملايين مسلم، معظمهم من أصول مغاربية. فمنع ساركوزي لأربعة علماء أفاضل من دخول فرنسا، جميعهم من المعتدلين الذين يعارضون فكر «القاعدة» التي تعتبر قمة التطرف في نظر الغربيين عموما، هو نوع من «المكارثية» الجديدة، وإغلاق الأبواب تماما في وجه الإسلام المعتدل، بل تحويل المعتدلين إلى متطرفين. أن يشبه الرئيس الفرنسي الهجوم على مدرسة يهودية في تولوز بأحداث الحادي عشر من شتنبر هو قمة التضليل والتزوير، والأكثر من ذلك التحريض ضد المسلمين من أجل ابتزاز المزيد من الأصوات تعيده إلى السلطة لفترة رئاسية ثانية. علماء من أمثال الشيخ يوسف القرضاوي وعكرمة صبري، مفتي فلسطين وشيخ المسجد الأقصى، وعايض القرني، الداعية الوسطي، لا يمكن أن يوضعوا في قوائم المتطرفين السوداء، وأن يمنعوا من دخول فرنسا والمشاركة في مؤتمر للإسلام المعتدل فيها، ينظمه اتحاد المنظمات الفرنسية الذي وصف دائما باعتداله وحث الجالية الإسلامية على احترام القوانين والاندماج في مجتمعهم الفرنسي. الدكتور القرضاوي كان الأقرب في مواقفه السياسية إلى ساركوزي من الكثير من الزعماء العرب المعتدلين، عندما أيّد تدخل حلف الناتو عسكريا في ليبيا، وأصدر فتوى تحل دم معمر القذافي، وسحب الشرعية من الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه، وها هو يكافأ من ساكن قصر الإليزيه الفرنسي بمنعه من السفر. الرئيس الفرنسي لم يمنع القرضاوي من السفر لأسباب فرنسية، وإنما رضوخا لمواقف وتعليمات اللوبي اليهودي الفرنسي المؤيد لإسرائيل، تماما مثلما فعل نظيره توني بلير في بريطانيا، والأمريكي باراك أوباما. فمشكلة الدكتور القرضاوي، في نظر هؤلاء جميعا، أنه أيد المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي الفلسطيني ووقف بشراسة ضد الهجوم الدموي الإسرائيلي ضد قطاع غزة. من يمنع العلماء المسلمين أو يسمح لهم بالدخول هذه الأيام ليست المعايير الأوربية او الأمريكية، بل المعايير الإسرائيلية، فإسرائيل هي التي تحدد للغرب من هو العدو ومن هو الصديق، ومن هو المعتدل ومن هو المتطرف، مثلما تحدد له جميع أهداف حروبه القادمة، وأين يتدخل عسكريا لتغيير الأنظمة أو أين يتراجع. السيدة كاثرين أشتون، وزيرة خارجية الاتحاد الأوربي، ارتكبت الخطيئة الكبرى عندما ذكرت وبطريقة عابرة أطفال قطاع غزة في غمرة حديثها المتعاطف مع أطفال المدرسة اليهودية القتلى في تولوز جنوبي فرنسا، وتعرضت لحملة شرسة من جميع المسؤولين بل وعابري الطريق في إسرائيل، ابتداء من بنيامين نتنياهو وانتهاء بزعيم أصغر كنيس أو منظمة يهودية في أوربا، وطولبت بالاعتذار بطريقة مهينة. أن تذبح الطائرات الإسرائيلية أربعمائة طفل من قطاع غزة، وأن تذبح الطائرات الأمريكية والفرنسية بدون طيار أكثر من ألفي طفل وامرأة في منطقة القبائل في باكستان، وأن يقدم مجند أمريكي على ارتكاب مجزرة في أفغانستان يقتل خلالها تسعة أطفال بدم بارد، ثم يجمع جثامينهم الطاهرة ويشعل فيها النار، فهذا أمر لا يستحق الاستنكار والاعتذار، بل لا يستحق الحد الأدنى من التعاطف. الرئيس ساركوزي بمثل هذا العمل لا يحارب التطرف، وإنما يؤدي إلى اتساع دائرته، ويسهل مهامه بتجنيد العشرات، ربما المئات من أمثال محمد مراح في صفوف الجماعات المتشددة كتنظيم «القاعدة»، تماما مثلما أدى تدخله في ليبيا ومن قبلها العراق وأفغانستان، إلى تحويلها إلى دولة فاشلة توفر البيئة الملائمة للتطرف وجماعاته. قد يكسب الرئيس ساركوزي الانتخابات الرئاسية المقبلة ويتفوق على خصمه الاشتراكي، ولكنه سيعرض أمن واستقرار فرنسا لخطر مضاعف عدة مرات. ويكفي أن نعيد التذكير بأن الجماعة التي أعلنت مسؤوليتها عن عملية هجوم محمد مراح هي جماعة طارق بن زياد، إحدى أبرز المنظمات التابعة لتنظيم «القاعدة» في منطقة الساحل الإفريقي. ما ينساه الرئيس ساركوزي في غمرة استغلاله لهجوم إرهابي على مدرسة يهودية لابتزاز الناخبين، واللعب على وتر العنصرية البغيض لديهم، والعداء للمسلمين خاصة، أن هناك أكثر من أربعة آلاف كيلومتر من الحدود المفتوحة على الشاطئ الآخر الجنوبي للبحر المتوسط، من بينها 1800 كيلومتر لدولة لا تستطيع السيطرة على حدودها اسمها ليبيا، وتوجد فيها مئات بل آلاف الأطنان من الأسلحة من مختلف الأوزان والأحجام. فرنسا عاشت لأكثر من عشرين عاما من الأمن والاستقرار، لم تتعرض فيها لعملية إرهابية واحدة من قبل تنظيم «القاعدة» أو غيره، لأن من حكمها طوال هذه السنوات رؤساء يتمتعون بالحكمة والعقل، ويبتعدون عن القرارات والسياسات الاستفزازية العنصرية، ومن المؤسف بل والمؤلم أن ساركوزي ليس من خانة هؤلاء ومواصفاتهم، ولذلك علينا أن نتوقع الأسوأ في الأيام المقبلة، فإذا كانت جماعة طارق بن زياد استطاعت الوصول إلى محمد مراح، فإنها و»القاعدة في المغرب الإسلامي»، شقيقتها، تستطيعان الوصول إلى شبان آخرين إذا ما استمرت السياسة المكارثية الحالية التي يتبعها الرئيس الفرنسي الحالي. من حق الفرنسيين ورئيسهم أن يبكوا على أطفال مدرسة تولوز اليهود ضحايا جريمة محمد مراح، ونحن نبكيهم أيضا، ولكننا نطالب هؤلاء بأن يبكوا أيضا وبالقدر نفسه على أطفالنا الضحايا في غزة، وفي أفغانستان أيضا. نطالب بالمساواة والعدالة في البكاء، فأطفالنا هم أطفال أيضا يستحقون البكاء والتعاطف وإدانة إرهاب الدولة الذي يزهق أرواحهم بالصواريخ والرصاص والفوسفور الأبيض أيضا، وما يستحقونه قبل ذلك هو حفظ أرواحهم، فهم ينتمون إلى الجنس البشري أيضا ولهم أمهات وآباء وأشقاء وشقيقات.. أليس كذلك يا أوباما وساركوزي ونتنياهو؟