بقدرة قادر، يتحول محمود الهباش، وزير الأوقاف في الحكومة الفلسطينيةبرام الله، مفتيا للإسلام والمسلمين يقرر بكل بساطة أن العلامة الشيخ القرضاوي يخدم الاحتلال الإسرائيلي بدعوته العرب والمسلمين إلى عدم زيارة القدس وهي تحت الاحتلال، فضلا عن كونه يخالف صريح القرآن والسنة النبوية (الدعوة إلى زيارة القدس تكررت مرارا على لسان رئيس السلطة، ودائما بدعوى أن التطبيع يكون مع السجين لا مع السجان، وانتصرت له حركة فتح التي يرأسها). بوسع المتحسسين من الشيخ الجليل أن يقولوا ما يشاؤون، ولو توقف هو -حفظه الله- عند كل انتقاد يُوجَّه إليه لما توقف عن إصدار البيانات والتوضيحات، ولتفرغ بالكامل لهذه المهمة، لكن اتهامه بخدمة الاحتلال هو العبث بعينه، ولاسيما أن أحدا لا يجهل ما تعرض له من انتقاد وتحريض من اللوبيات الصهيونية. ويزداد العبث وضوحا حين يلجأ الوزير إياه إلى الحديث عن سكوت الشيخ عن تطبيع قطر مع الاحتلال واعتباره زيارة القدس تطبيعا، مع أن الجميع يدرك أنه لم يتردد في انتقاد ذلك التطبيع علنا حين تصاعد في فترة معينة (هل يتجاوز الهباش مشروع خدمة سلطته ورئيسه؟!). ما ينبغي قوله ابتداء، وسبق أن قلناه مرارا، هو أن هذه المسألة لم يتفرد بها الشيخ القرضاوي، بل أجمعت عليها منظومة العلماء في الأمة، ومعها القوى والنقابات والأحزاب المعنية بالصراع مع العدو الصهيوني، وحين يكون أهم حارس لتلك المقدسات (أكثر بكثير من الهباش وسلطته) أعني الشيخ رائد صلاح مع هذا الرأي، فهذا يكفي لمن يعنيهم الأمر. لكن تخصيص الشيخ القرضاوي بالانتقاد والهجوم إنما يعود إلى مكانته التي حازها بعلمه ومواقفه وليس بأي شيء آخر، والأهم أنه يأتي ردا على مواقف الشيخ السياسية التي لا تروق إلى معسكر الهباش ومن يصطفون فيه، أعني مواقفه المتعلقة بقضية فلسطين على وجه الخصوص. إذا كان هناك من يؤمن بحث العرب والمسلمين على زيارة القدس غير السلطة ورموزها، فليتفضل ويخبرنا كيف ستساهم تلك الزيارات في تحرير القدس وحمايتها، ويجبنا تبعا لذلك عما إن كان سماح العدو بتلك الزيارات نوعا من الغفلة والغباء، وهو الذي تتميز أجهزته بحساباتها الدقيقة، فيما نعلم أنه ما من قضية تحظى بالإجماع في الوسط الصهيوني مثل قضية القدس والهيكل؟! هذا السؤال هو الأكثر إحراجا لفريق الهباش، لأنه لو صحَّ أن الزيارات إياها ستضر بلعبة تهويد القدس والسيطرة عليها، لما سمح بها المحتل، مع ضرورة توجيه سؤال آخر إلى جماعة السلطة، وهو: لماذا لا يعترفون بحقيقة أن المسار الذي اختطوه منذ أكثر من عشرين عاما لم يفلح في حماية المدينة المقدسة لكي يجري تحويل عبء حمايتها إلى السياحة التي سيقوم بها العرب والمسلمون؟! وإذا كان القرضاوي لا يتعرض للتطبيع القطري (الأمر الذي نفيناه آنفا)، فهل يتبرع العلامة الهباش ويفتينا في حكم التنسيق الأمني مع الاحتلال، وفي حكم الاعتراف للعدو ب78 في المائة من فلسطين، وفي حكم السكوت على فساد أقارب ومحاسيب السلطة، إلى غير ذلك من الفتاوى التي يحتاجها أهل فلسطين أيضا؟! نأتي الآن إلى التخريج الفقهي الذي صاغه الهباش بعد دراسة مطولة على ما يبدو (ردده رئيسه غيرما مرة)، ويتمثل في إيراد حديث شد الرحال إلى المساجد الثلاثة، ومن ضمنها المسجد الأقصى، وحديث الحث على زيارة الأخير أو إرسال زيت يُسرج في قناديله يوم كان تحت ولاية الروم، وكذلك المقارنة مع زيارة البيت الحرام وهو تحت ولاية المشركين بعد صلح الحديبية (هل يرى الهباش، تبعا لذلك، أن اتفاق أوسلو يشبه صلح الحديبية بعد كل الذي جرى منذ توقيعه إلى الآن؟!). ما ينبغي أن يُقال ابتداء أننا إزاء قضية سياسية وليست فقهية تقليدية. والقضية السياسية، كما يعرف أهل العلم، إنما تعالج ضمن نظرية درء المفاسد وجلب المصالح. ومن يفتون بالحرمة إنما يستندون إلى هذه النظرية قبل أي شيء آخر. وفي تقديرهم -ونحن منهم- أن مفاسد فتح الباب أمام زيارة المسلمين للقدس هي الأكبر. هل تشريع المحتل للحصول على تأشيرته لدخول المدينة أمر يسير، بما ينطوي عليه من تطبيع وتحويل لمسار علاقة العرب والمسلمين من علاقة بمقدسات ينبغي تحريرها إلى علاقة سياحية؟ أما البعد المالي المتعلق بدعم المقدسيين فيبدو واهيا هنا، ليس فقط لأن دعمهم يمكن أن يتم بغير الطرق السياحية عبر الدعم المباشر، بل أيضا لأن عوائد السياحة إنما تعود على المحتل، ولاسيما أن المجموعات السياحية لا تتوقف في القدس إلا لساعات ثم تذهب نحو الساحل الفلسطيني والمدن الأخرى «الإسرائيلية» وفنادقها ومناطقها السياحية. أما حماية المدينة فهي ضرب من الهراء، لأن المحتل يمنع الشبان الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد أيام الجمع، أو في المناسبات التي يتعرض فيها لهجمات المتطرفين اليهود. وليس ثمة عاقل يعتقد أن زيارة القدس والأقصى ستحول دون تهويدها. وإذا صح ذلك، فمن سيمنع المحتلين من وقف الزيارات. ونتذكر، مثلا، كيف أصبحت الزيارات بالغة الصعوبة إبان انتفاضة الأقصى بعد مشاركة شابين بريطانيين من أصول باكستانية في تنفيذ عملية عسكرية ضد الاحتلال. لا ننسى، في المقابل، ما يمكن أن ينطوي عليه فتح الباب على مصراعيه للزيارة من منح المحتل فرص تجنيد العملاء وإحداث الاختراقات في المجتمعات العربية والإسلامية، وهو الذي يعرف عنه التمرس في هذا المضمار. ونتذكر هنا أن نظام كامب ديفد نفسه قد تحفظ عمليا على فتح ذلك الباب خوفا من البعد المشار إليه. مع ذلك، لا بأس من مناقشة الأمر في البعد الآخر الذي تحدث عنه الهباش، ومن ثم السؤال: أين التشابه بين واقع الدول في العهد القديم وبين واقعها الراهن؟ هل كان زائر القدس في عهد الرومان (هذا قبل فتحها) بحاجة إلى تأشيرة منهم أم إن سيولة البشر بين الحدود كانت عادية للجميع؟! ثم إن القدس لم تكن في حينه من ديار المسلمين ثم احتلت وسيطرت عليها دولة أخرى. أما المقارنة مع زيارة المسجد الحرام، فلا مقارنة أيضا، لأن الأخير لم يكن قد تحرر ثم احتله المشركون، وإنما كان تحت ولايتهم، وكان المسلمون يعودون إلى ديارهم التي أخرجوا منها، وهنا نذكِّر بأن الشيخ القرضاوي قد استثنى الفلسطينيين من فتوى الزيارة للقدس، وخصَّ بها العرب والمسلمين (نكرر «استثنى الفلسطينيين» لمن سيرددون أسئلة دأبوا عليها عند التطرق لهذا الأمر). من الواضح أن من يرتمون في حضن العدو ويحصلون على بطاقات «في. آي. بي» من مؤسسته الأمنية، لا يجدون غضاضة في التشجيع على التطبيع. ولو كانوا مخلصين للقدس وأقصاها لسمعنا دعواتهم إلى إطلاق انتفاضة عارمة ضد تهويدها تلتحم بها جماهير الأمة من الخارج ليكون التحرير وليس التطبيع. أخيرا نقول إن سبيل حماية القدس، بل تحريرها، معروف لكل ذي لب، لكن من هربوا من خيار المقاومة يبحثون عن ذرائع تبرر ما هم فيه، أما الأمة فلن تستمع إليهم وستصر على موقفها، وهي واثقة من أن تحرير القدس ليس بعيدا بحال بعد سقوط جدران الأنظمة التي ساهمت في حماية الاحتلال، فيما هي تستعيد قرارها وإرادتها. ياسر الزعاترة