قنبلة حقيقية فجرها عبد العزيز الرباح، وزير النقل والتجهيز، عندما نشرت وزارته، زوال أول أمس الخميس لائحة المستفيدين من أشهر أشكال اقتصاد الريع في المغرب: "كريمات" النقل. شخصيات نافذة في قمة هرم المستفيدين من المأذونيات، يتقدمهم أبناء إدريس البصري، الذي يشار إليه بكل بنان على أنه "الراعي الرسمي" لسياسة "الكرايم". القائمة تشمل أسماء من القصر ومحيطه والبرلمان ومعترك السياسة، ونجوما سطعوا في التلفزة والسينما وملاعب الكرة ومضامير ألعاب القوى، وآخرين اختفوا خلف أسماء شركات نقل. الملف التالي يقدم تشريحا للائحة "كريمات" الحافلات، ويعرض تصريحات لبعض الأسماء الواردة بها، ويعري حقيقة جبل الريع عبر توضيحات قانونيين واقتصاديين وحماة المال العام بالمغرب. كشفت وزارة النقل والتجهيز عن لائحة المستفيدين من رخص النقل، المعروفة ب»الكريمات»، في خطوة سعت من خلالها إلى تنزيل سياسة محاربة الفساد التي أعلنت عنها الحكومة الحالية منذ أول يوم لها. وهي خطوة إيجابية وراءها إشارات عدة، أهمها أن الحكومة تريد إعمال مبدأ الشفافية من الآن في التعامل مع الشأن العام، وعدم السكوت عن مظاهر الفساد. ولاشك أن محاربة الفساد كانت مطلبا شعبيا خلال التظاهرات التي خرجت إلى الشارع في العام الماضي عقب ميلاد حركة 20 فبراير، وتبنتها الدولة، التي كرست في الدستور مبدأ المسؤولية والمحاسبة في تدبير الشأن العام، وهو ما أعطى للحكومة الحالية هامشا مقدرا للتحرك في هذا الاتجاه والعمل على فتح «عش الدبابير»، مسنودة أولا بدعم أعلى سلطة في البلاد، وثانيا بدستور جديد، وأخيرا بانتظارات الشارع المغربي، الذي يعتبر محاربة الفساد واحدا من أهم مطالبه المستعجلة. غير أنه لا بد من القول بأن اللائحة التي تم الكشف عنها، على الرغم من أهمية المبادرة ومن الإشارات السياسية الهامة التي تحملها، إلا أنها تظل لائحة غير مكتملة ولا تشمل في قسمها الأعظم سوى «صغار» المستفيدين، إن صح التعبير، وجل هؤلاء من الفنانين والرياضيين، وهي فئة لا تتوفر كما هو معلوم على أسلحة للدفاع عن نفسها أو وسائل مضادة للضغط ، بمعنى أنها هي «الفئة الهشة» بين كل الفئات التي استفادت أو يفترض أنها استفادت من هذا المظهر من مظاهر اقتصاد الريع، وإلى جانب هؤلاء هناك بعض الأموات أمثال ادريس البصري وعبد العزيز مزيان بلفقيه وآخرين، وهؤلاء اليوم غير موجودين ولن تضيف اللائحة معلومة جديدة عما راكمه بعضهم من الثراء الفاحش على حساب المال العام وأوفاق الدولة، أضف إلى ذلك أن القيمة المالية لهذه الرخص لا يمكن أن تعتبر عنوان الثراء، ما عدا بالنسبة إلى الذين يتوفرون على أكثر من عشرة منها أو يزيد، لكن قيمتها في الناحية الرمزية التي ترتبط باقتصاد الريع في المغرب، زد على هذا أن حصول بعض هؤلاء عليها خصوصا بالنسبة إلى الفئة الهشة المشار إليها لا يعني ممارسة الابتزاز أو النفوذ طالما أنهم لا يتوفرون عليه، لأن حصول الكثير من هؤلاء على هذه الرخص ربما جاء في إطار المكافأة التي اعتادت الدولة أن تقدمها تشجيعا للريع، أو في إطار إكراميات معينة، كما هي الكلمة الشهيرة، أو إعانات لحالات اجتماعية، أو طلبا للإحسان، دون أن يعني هذا أن الجميع استفاد منها بنفس الطريقة، بل هناك من أصحاب النفوذ من مارس نفوذه في الدولة للحصول على هذه الرخص، وسبق لسعد الدين العثماني، وزير الخارجية الحالي، أن أعلن في برنامج تلفزيوني، قبل أكثر من سنة، أن وزيرا واحدا يتوفر على مئات من رخص النقل هذه، ربما وصلت إلى 500 رخصة. وإذا كانت وزارة النقل والتجهيز قد اتخذت هذه المبادرة، فلا نعرف هل ستقوم وزارة الداخلية في نفس الحكومة بنفس الأمر، لأنها الجهة التي تمنح رخص سيارات الأجرة (المأذونيات)، وإذا قامت وزارة الداخلية بمبادرة في نفس الاتجاه، فربما سيكتشف الرأي العام لائحة أكثر غرابة من هذه اللائحة. ويقول عبد الصمد اعنانة، الكاتب العام ل»جمعية العهد الجديد لمناهضة اقتصاد الريع»، التي تأسست مؤخرا كأول هيئة من هذا النوع، إن هناك المئات من كبار المسؤولين في الدولة يتوفرون على مأذونيات النقل، مما يعني أن الآلاف من المهنيين في القطاع يشتغلون مع هؤلاء في إطار «السخرة». ويذهب اعنانة أبعد من ذلك ويدعو إلى الكشف عن أسماء النقابيين، الذين استفادوا من هذه الرخص من وزارة النقل، مقابل متاجرتهم في مهنيي القطاع خلال المفاوضات مع المسؤولين على القطاع في الماضي. وعلى أهمية المبادرة في حد ذاتها، إلا أن هناك تخوفا مشروعا من أن تكون مجرد تنزيل محدود تطبعه الانتقائية في التعامل مع ملفات الفساد. فرخص النقل التي تم الكشف عن أصحابها ليست سوى صورة مصغرة عن الفساد الأكبر، الذي يتمثل في رخص الصيد بأعالي البحار، التي يستفيد منها كبار المسؤولين في الدولة، ولا يمكن المقارنة بين ما تدره رخص النقل وما تدره هذه الرخص، زد على ذلك استغلال مقالع الرمال التي تعد منجما للثراء بالنسبة إلى كثير من أصحاب النفوذ، كما أن هناك تساؤلات عن النوايا الحقيقية خلف مثل هذه المبادرة، طالما أن راتب مدرب المنتخب الوطني لكرة القدم غريتيس الذي أثار جدلا في الشارع العام ووصل إلى البرلمان ظل موضوع تكتم من طرف الوزير الوصي على القطاع، إذ كيف يمكن فهم أن الحكومة امتنعت عن إعطاء المواطنين والنواب ما طلبوه بالكشف عن راتب المدرب، والتفضل بنشر لائحة المستفيدين من رخص نقل لم تكن مطلوبة على الأقل في هذا التوقيت؟ وهل نشر هذه اللائحة يراد منه إنهاء النقاش حول موضوع المدرب الوطني؟ أم أكثر من ذلك، يراد منه أن يكون رسالة إلى الفاسدين الكبار للتراجع كمجرد تهديد بفتح ملفات الفساد الضخم، بسبب غياب الجرأة أو عدم وجود ضوء أخضر؟. إذا كان الفساد يشكل كلفة اقتصادية بالنسبة للدولة، فإن محاربته تمثل كلفة سياسية بالنسبة لها وحتى اقتصادية أحيانا، وبالرغم من الانتقادات التي يمكن أن توجه إلى الحكومة بشأن قضية محاربة الفساد، إلا أن الأمر قد يكون أكثر صعوبة مما يمكن أن نتصور، وقد يكون هذا مفهوما، لكن الذي قد لا يكون مفهوما هو أن تستهدف سياسة محاربة الفساد الفئات «الهشة» والصغيرة ثم تقف عندها. والتساؤل الذي يطرح اليوم، بعد الكشف عن هذه اللائحة، هو حول ما إن كانت الوزارة المعنية ستعمل على سحب هذه الرخص من أصحابها أم لا، ويقترح عبد الصمد اعنانة، الكاتب العام ل»جمعية العهد الجديد لمناهضة اقتصاد الريع»، أن يتم إلغاء هذه الرخص بشكل نهائي وتعويضها بدفاتر تحملات واضحة بالنسبة إلى العاملين بالقطاع، باعتبار ذلك الوسيلة الممكنة لتحديث هذا المرفق وإبعاده عن مظاهر الريع والزبونية، التي ارتبطت به طيلة عقود ما بعد الاستقلال.