محمد أحداد في غشت 2008، خرجت آلة ضخمة اسمها الجرار إلى الحقل السياسي المغربي حاملة على ظهرها حزب الأصالة والمعاصرة. لم يتورع البعض يومها عن التأكيد على أن الآلة كانت قابعة في مرآب الإدارة تنتظر الإشارة لإعادة ترتيب المشهد السياسي وفق أجندة معلومة كما قال بنكيران قبل أن يصير رئيسا للحكومة، بل إن حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي عرف بخبرته الطويلة في نحت المصطلحات، أسبغ على حزب الأصالة والمعاصرة وصف «الوافد الجديد». لكن قادة حزب «البام»، وفي مقدمتهم مؤسس الحزب فؤاد عالي الهمة، ظلوا يؤكدون دائما أن الحزب جاء لإنهاء حالة الجمود، التي باتت تنخر المشهد السياسي المغربي. وبين هاتين الرؤيتين كان الحزب يسير بخطى متعثرة، متأثرا بانتقادات حادة وجهت إليه من طرف الأحزاب السياسية المغربية، خاصة العدالة والتنمية، الذي خاض حربا إعلامية وصلت في الكثير من الأحيان إلى السب والقذف. كانت معركة إثبات الوجود بالنسبة إلى الأصالة والمعاصرة، حسب بعض المتتبعين، أهم بكثير من التفكير في بناء البيت الداخلي. ولذلك انصرف حزب الأصالة والمعاصرة إلى مواجهة خصومه، لاسيما أن تهمة «حزب الإدارة» ظلت لصيقة به منذ إنشائه، الشيء الذي جعل بناء الهياكل الداخلية للحزب أمرا مستعصيا جدا، ثم إن الصراعات الداخلية واستيعار «حرب التيارات»، فرملت كثيرا التفكير في تمتين أركان الحزب «الهشة». وليس غريبا أن يكتب صلاح الوديع، الناطق الرسمي باسم الحزب وأحد قيادات الحزب اليسارية، نقدا ذاتيا كان قاسيا في تشريح «داء العطب الأصيل» الذي يضر بصورة الحزب. «قرار تأسيس الحزب الذي تطلب منا نقاشات طويلة وشاقة من وجهة وجاهة الخطوة، ثم عقد المؤتمر الأول، ثم انطلاق التحضير للانتخابات، حشر كل طاقات الحزب في صيرورة تحديات كبرى. هذا الوضع الجديد، المتسارع إذاك، جعل أي تفكير في أمور أخرى يتوارى خلف «الأولويات». ولست هنا في مضمار تقييم الانتخابات ونتائجها وأداء الحزب خلالها، غير أن أهم ملاحظة لي فيما يتعلق بتأثر صيرورة بناء المشروع بما هو آني حصرا هو دخول الحزب دوامة ربح الانتخابات بأي ثمن، وتركيز الاهتمام على العملية الانتخابية وإهمال ما عداها. لقد نتج عن ذلك تدفق كبير للمنتخبين وتقوى الاعتقاد بأن أهم دور تم القيام به بمجرد «ربح الانتخابات»». كان الوديع واضحا في رسالته. إذ لم يكن في أجندة الحزب التفكير ولو برهة في تمتين هياكله وتقوية مجلسه الوطني ومنح قوة جديدة لجهاز المكتب السياسي والبحث عن بدائل جديدة من قبيل إنشاء هيئات شبابية ونسائية تدعم وجود الحزب في الخريطة السياسية المغربية، التي كانت مدموغة حينها بسمة «الإسلاميين» بزعامة حزب العدالة والتنمية. الوديع توقف، في مقالته الشهيرة، التي يحكي فيها بأن الهمة قال له على سبيل الدعابة «لم لا تترجمها إلى الفرنسية؟»، عند أعطاب الحزب، مُقرا بوجود اختلالات كبيرة تحول دون استكمال بناء الأداة التنظيمية. كان الهاجس الانتخابي، كما يقول الوديع، معيقا أساسيا لتحقيق هذا المبتغى، «ولا يكمن المشكل في «تدفق» المنتخبين في حد ذاته. إذ يوجد بينهم، كما في كل جماعة بشرية أخرى، الصالح والطالح، ولكن المشكل يكمن في تسلل تصورات أخذت تجعل من الانتداب الانتخابي غاية الغايات، وترى في التحكُّم في «التقنيات المدرَّة للفوز الانتخابي» عنوان الألمعية السياسية ودليل التقدم في تجسيد مشروع الحزب، غير مبالية بهزالة المشاركة السياسية ونسبتها المتدنية التي تفرغ «النصر» الانتخابي من كل قيمة فعلية من منظور إنجاح المشروع الحداثي الديموقراطي لبلادنا. لقد «تم إهمال كل شيء آخر غير الانتخابات، بما في ذلك، وعلى رأسه، مهمة التأطير ومتابعة عمل المنتخبين، وتقديم نموذج جديد حي لتدبير الشأن العام، كما استمرأنا تلكؤنا المتكبر في تحديد التحالفات الإستراتيجية، وانحصر العمل في الحضور والمشاركة البرلمانيين وفي الحضور الإعلامي»، يقول الوديع. بيد أن رحيل فؤاد عالي الهمة والتحاقه بنادي مستشاري الملك طرح أكثر من علامة استفهام حول مستقبل الحزب. وقد ذهب بعض المحللين السياسيين إلى أن الارتباط الوثيق، الذي كان يجمع أعضاء الحزب بالهمة، وقف حجر عثرة أمام بناء المؤسسات الداخلية. وبدا حزب الأصالة والمعاصرة أثناء انعقاد مؤتمره الوطني الاستثنائي مدركا للأهمية القصوى لترتيب البيت الداخلي والابتعاد ما أمكن عن الحروب الإعلامية التي كلفته غاليا أمام خصم لدود اسمه العدالة والتنمية، الذي وصل إلى الحكم في الانتخابات التشريعية الماضية. ومن هنا يمكن أن نفهم أن دعوة «البام» للعدالة والتنمية لحضور المؤتمر، والهدوء الحذر الذي ساد بين الطرفين بعد الانتخابات التشريعية، يؤشران على بداية مصالحة حقيقية للحزب مع المشهد السياسي. وبالرغم من أن انتخاب مصطفى الباكوي أمينا عاما للحزب خلفا للشيخ بيد الله أثار الكثير من علامات الاستفهام حول «التوافق القبلي» بين وجهاء الحزب لوضعه على رأسه، فإن الكثير من المتتبعين أشاروا إلى «أن الباكوري جاء لينهي الجدل الذي ظل محتدما بين التيار اليساري والمحافظ» في البيت «البامي». جدل يقول عنه أحد قياديي الحزب إنه أهدر وقتا كبيرا وضيع على الحزب فرصة إرساء هياكله. في هذا الصدد، يقول الشرقاوي الروداني، عضو المجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة، إن «المؤتمر الاستثنائي الماضي أتى بقيادة جديدة، الشيء الذي يستوجب مقاربات جديدة، والبحث عن نخب جديدة تطعم هياكل الحزب»، مضيفا أن «الحزب في حاجة إلى مجلس وطني قوي ومكتب سياسي قوي كذلك عبر فسح المجال أمام الطاقات الشابة والجديدة». واعتبر الروداني في نفس السياق أن «الاشتغال بسياسة الأذرع الشبابية والنقابية والنسائية أصبح أمرا متجاوزا لأن تطور المشهد السياسي لم يعد يسمح بذلك»، مؤكدا على أن «سياسة الأذرع كانت سائدة في الفترة السوفياتية ولا مجال للحديث عنها الآن». أما الباحث في الشؤون السياسية، محمد براو، فيؤكد أن الحزب «ينبغي عليه إعادة النظر في أهدافه الاستراتيجية، لأنه ظهر بأنه يعيش حالة ارتباك طيلة مدة ظهوره، ولذلك فإنه بحاجة إلى الاندماج التدريجي في الحياة السياسية بعد انعقاد مؤتمره الأخير». وأضاف براو أن «الحزب صار عليه لزاما إنشاء أذرع شبابية ونسائية ودعم وجوده في المجتمع المدني عبر إرساء جمعيات تدافع عن مشروع الأصالة والمعاصرة». وأبرز براو أن «الرؤية التي جاء من أجلها الحزب إلى الحقل السياسي تبقى طموحة جدا، لكن لامناص من بناء البيت الداخلي عبر تجنب الصراعات بين التيارات وصرف النظر عن الحروب الإعلامية والتركيز على بناء الحزب من الداخل وعدم ربطه بالأشخاص».