لم يعد الأمر منتميا إلى مجال السخرية والفكاهة، بل تحوّل إلى أمر واقع لم يكن ليحلم به أحد من قبل: لقد تحوّل المغرب إلى بلد للهجرة دون منازع (أو «بامتياز»، كما يقول مترجمو الكلمة عن الفرنسية مباشرة، ودون عبور بقاموس اللغة العربية)؛ وبعد أن ظل مواطنونا يهاجرون طيلة أزيد من أربعين سنة إلى البلدان الأوربية بحثا عن عمل، ها هي ذي بلادنا تستقبل آلافا من المهاجرين القادمين إليها من مختلف الأجناس والأصقاع، للعمل والاستقرار. هناك، في البداية، إخواننا الأفارقة الذين قصدوا بلادنا، في بداية الأمر، باعتبارها مجرّد معبر باتجاه «النعيم» الأوربي، قبل أن «ينقطع بهم الحبل»، فيجدوا أنفسهم مضطرين إلى البقاء عندنا هنا مشتغلين في مهن مختلفة، منها التسوّل في الأحياء الشعبية وعند مفارق الطرق، ومنها مساعدة المواطنين في البيوت وفي الأسواق بحمل مشترياتهم، ومنها المشاركة في بعض الأفلام والمسلسلات المغربية المتلفزة وغير المتلفزة، ومنها كذلك النصب والاحتيال الذي برع فيه أفراد كثيرون منهم، يوهمون بعض المغفلين لدينا (وما أكثرهم)، سواء عن طريق الأنترنيت بأن لديهم عشرات الملايين من الدولارات التي يريدون تحويلها من بلدانهم إلى أبناك غربية وهم في حاجة إلى مساعدة مالية بسيطة (بضع عشرات من ملايين السنتيمات فقط!) من أجل إتمام عملية التحويل واقتسام الأموال مع المغفل «المحظوظ»؛ أو مباشرة عن طريق إيهام هؤلاء بأن لديهم مبالغ مالية طائلة لكنها مصبوغة، للأسف، بسائل أسود يمكن إزالته بسائل سحري مرتفع الثمن. والجميل هنا أن المواطن المغربي، الذي واجه هذه الهجرة الأفريقية في بداياتها بالرفض الشديد واعتدى على أوائل المهاجرين بالضرب والسلب، سرعان ما وجدناه يتقبّل هذه الهجرة في هيئة المغلوب على أمره، ويتقاسم لقمة عيشه معهم في كثير من الأحياء والمناطق. ودون التفصيل في ذلك النوع من الهجرة أو «الهجرة المضادة»، المتمثلة في عودة المهاجرين المغاربة إلى بلدهم للاستقرار بصفة نهائية، يمكننا أن نشير إلى تلك الهجرة الأخرى التي يقوم بها عجائز أوربيون (من فرنسا خاصة) صاروا يفضلون الانتقال إلى بلادنا للعيش فيها بعد بلوغهم سن التقاعد، لأسباب قيل في البداية إنها ترتبط بطبيعة مناخنا المعتدلة قبل أن يتبين أنها صورة من صور الهجرة الاقتصادية التي تجعل المتقاعد الأوربي يعيش هنا بربع كلفة عيشه في بلده الأصل. وقد انفضح الأمر أكثر مع الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية التي أخذت تضرب عددا من بلدان الاتحاد الأوربي، فأقبل علينا شبان إسبان (وشابات إسبانيات) بحثا عن العمل، في أي مكان؛ حتى لو تعلق الأمر بأعمال يدوية يتقاضى العامل فيها الحد المغربي الأدنى للأجور (أي أقل من 15 في المائة من الحد الإسباني الأدنى). هذا دون أن نتحدث عن الفرنسيين الذين صاروا مهاجرين رسميين متخصصين في «التدبير المفوّض» (أو «المفيّض»، كما أطلق عليه سكان الدارالبيضاء بعد فيضانات العام الماضي في مدينتهم) أو عن الأتراك والصينيين الذين استقروا في بلادنا وصاروا يدا عاملة إضافية وتجارا يشترون «قيساريات» بأكملها ويصدّرون العملة الصعبة إلى بلدانهم، تاركين لنا «العملة السهلة» وحدها فقط. ولعل ما يثير الاستغراب هنا هو صمت العلماء المعنيين (وعلى رأسهم علماء الاجتماع السياسي...) عن هذه الظاهرة التي تهدد باكتساح «السكان الأصليين» الحاليين من طرف القبائل المهاجرة الجديدة؛ الشيء الذي يفرض سنّ إجراءات مستعجلة على رأسها، مثلا، فرض نظام التأشيرة على مواطني كل البلدان الأوربية، ليس في سياق «المعاملة بالمثل»، حاشا معاذ الله، ولكن فقط في سياق التأكد مما إذا كان ذلك المواطن يتوفر على الإمكانات المادية التي تتيح له أن «يسيح» (مثل الزبدة تحت الشمس) في بلادنا قبل أن يعود إلى بلاده سالما غانما، أم إنه مجرّد «مشروع» مهاجر جديد.